أبا الهيجاء سلاماً

ما أصعب وأقسى أن أودع أخا وصديقاً، ورفيق درب محنة امتدت عشرين عاما، في بلاد فارس التي تفننت في إيقاع الأذى بأسرى الحرب، وتاريخها لا يبدأ من قصة سابور ذي الأكتاف، ولا ينتهي عند سابور ذي العمامة، بل هو طبع متأصل في النفوس التي تنطوي على خزين حقد دفين، على كل من هو أرقى وأكفأ وأكثر أصالة منها في مدارج الحضارة والرقي، فكان للعرب الحظ الأفر مما يحمله الفرس من ضغائن مخبوءة وراء وجوه تبتسم بلؤم وسوء طوية وتحمل خنجر أبي لؤلؤة.
اليوم أبلغتني أبنة أخي (العميد محمد نجيب أبو الهيجاء)، برحيله المفاجئ بعد أن كنا على موعد للقاء في منزلي عما قريب، وبعد أن يتلقى العلاج من مضاعفات أكثر من عملية قسطرة وزرع شبكة في شرايين وأوردة أتعبها ظلم المحتلين الجدد، رحل أبو الهيجاء لم يرَ أيا من الأرضين التي نذر نفسه منافحا مجاهدا دفاعا عنهما، فلسطين والعراق، وقد تحرر من احتلال واحد وإن تعددت أوجهه وأسماؤه، فكلاهما يخرج من بئر مسمومة واحدة، لينشر الكراهية والحقد في النفوس وينشره قحطا فيحول المروج والحقول الخضراء إلى صحارى قاحلة.
رحل أبو الهيجاء حفيد أبو الهيجاء الكبير ، هذه الأسرة الكريمة أبا عن جد، والتي سجل عميدها الأول في تاريخ الحروب الصليبية أروع أمثلة البسالة فاستحق لقب أبو الهيجاء، في معركة حطين التي قادها العراقي الباسل صلاح الدين الأيوبي، فكان الراحل العزيز محمد نجيب أبو الهيجاء، (أسير الغربتين) كما كان يحلو لي أن أطلق عليه، فكان يهمس بأذني مبتسما، لا تنس أنا من أحفاد رجل شارك في معركة تحرير الأقصى بقيادة عراقي هو صلاح الدين الأيوبي، فما أشرف أن نرد الدَين نحن الفلسطينيين للعراق، ونشارك في معركة الأمة دفاعا عن بوابتها الشرقية، لأن هذه البوابة إن تحطمت فلا حلم لي بتحرير فلسطين أبداً.
اليوم ينتابني حزن لا أقدر على تحمل أثقاله، منذ يوم وقعنا معا في الأسر يوم 24 آذار 1982، وحتى يوم عودتنا معاً يوم 22 كانون الثاني 2002، ثم الغربة الجديدة لي، واقترابه هو من أسوار القدس، حيث كنا نعيش في حيين مختلفين في عمان العروبة والهاشميين الأصلاء، لم تنقطع بيننا أسباب التواصل أبدا، كنا نتحدث هاتفيا أو يزورني، فأشعر بألامه وما يعانيه من أمراض أثقلت عليه كما أثقلت على كل رفاق دربه، الذين عضوا على مبادئهم بالنواجذ، ولم يفرطوا بأي من القضيتين، معركة الهوية في العراق وفلسطين.
تغمد الله رفيق الدرب الوفي الصادق في انتمائه للوطن والعروبة العميد محمد نجيب أبو اليجاء برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته، مع الشهداء والصالحين.
وأشهد له أنه صان الأمانة ولم يفرط بشيء منها أبداً.
والهم رفاق دربه الذين عرفوا فيه الأخ الكبير والناصح الأمين والصلب يوم المنازلة الصبر والدعاء له بالرحمة والمغفرة.
وأسال الله أن يصبرّنا على هذه المصيبة ويمنح أسرته الصغيرة من زوجة وأبناء وبنات الصبر الجميل وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإلى جنات الخلد يا أبا مازن.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى