أحمد راضي … وداعاً بلا وداع

صباح يوم 21 حزيران 2020، استفاق العراقيون على وقع فاجعة أليمة وحزن شديد وخبر مزعج هزّ وجدان العراقيين. لم يصدّقوا الهول في بادئه لكنها حقيقة واقعة لا محال وقدرُ محتوم لا مستحيل، عندما طرقَ سمعهم أُفول نجمٌ كبير سطع بسماء بلده سنين من الزمن وهوى منها بسرعة الضوء، إنه نجم النجوم وصانع النجوم، الرياضي الأنيق ولاعب الكرة الرشيق أحمد راضي الصالحي، بعدما أصابته بليّة كورونا اللعينة، ليكون الشهيد الأخير من قائمة طويلة من شهداء ذلك الوباء.

ملاعب الحياة ودّعَت الأسطورة، ورحل من دار الفناء إلى دار البقاء تاركاً زوجة وأربعة أولاد زغبَ الحواصل، يحملون أسمه في العلالي ويرفعون تاريخه في القلوب.

مقالات ذات صلة

وهكذا هي الدنيا … كلما هوت قامة عراقية أو عَلم عراقي نعيناه في صدورنا وتحدثنا عن مآثره وبكينا عليه وقلنا إنه خسارة للعراقيين وللعراق، وخسره العراق والعراقيون، وأطلقنا كلمات الرثاء والحنان والشفقة عليه وعلى مسيرته الطويلة لبلده، خاصة إذا كان قد بلغ من العمر عتيّا وأخذ استحقاقه من الحياة وقدّم ما قدّم من عطاءه ورفع اسم بلده حتى نهاية خريف عمره، ليفتخر به الوطن وعائلته وجيله والأجيال القادمة، فلكل أجل كتاب.

لكن أن يرحل المرء قبل آوانه فهنا الخسارة أكبر والفاجعة أعظم ولا رادَّ لقضاء الله ولا معقّب لحكمه. فالموت، كلمة من ثلاثة حروف، سهلة النطق والكتابة، تهزّ القلوب والأحاسيس‎ وتقضّ المضاجع‎ وتدرُّ المدامع. كلمةٌ تُخبرك عن إنسانٍ فارقك إلى غير رجعة أو لقاء بعد حين، وأصبح‎ من أخبار الماضي، ولم يبق لك منه إلا الذكريات السعيدة والتاريخ الناصع، وإنّ كان قد فارقك أو فارقنا منذ سويعات.

قبل أيام رحل عنّا وبنفس ذلك الداء الخنّاس، اللاعب الدولي علي هادي، عن 53 عاماً واليوم رحل أحمد راضي، عن 56 عاماً وهما في قمّة عطاءهما الفني للرياضة، ونضجهما الفكري في الحياة، وطموحهما الشخصي كآناس.

كان الراضي يجوب في عمّان كعرّيس بين بناته العروسات وولي عهده الصغير فيصل. يسكن في بيته الجميل في ضاحية خلدا، مطمأن النفس، مرتاح البال، يستنشق الهواء العليل، يتمتع بالهدوء والسكينة، كثير الأصحاب، رؤوف بين الناس، معزّز من الجميع ومقدّر بينهم.

شاهدته أخر مرة، في أخر مجلس عزاء عراقي أُقيم في قاعة الريحاني بعمان يوم 11/3/2020، قبل أن تمنع خلية الأزمة ذلك النشاط الاجتماعي بعد تفشّي الوباء في الأردن، ومَنعت فيه السفر من وإلى الأردن، فكان من المفترض أن يبقى أحمد راضي، حبيس المحبسين، لا الخروج من البيت ولا السفر إلى العراق كأقرانه المواطنين في عموم البلاد.

لكن حبه للوطن وطموحه المشروع في تبوء دوائر إدارية والتنافس مع زملاءه في تحمّل المسؤولية وتقلّد المناصب العليا للرياضة العراقية خاصة بعد التغيرات الجديدة في الحكومة حملته للرحيل إلى العراق خلسةً وتحدّي يوم 16/4/2020، فرحل مع طائرة عراقية خاصة نقلت عراقيين عالقين إلى بغداد لا مُعيل لهم في الأردن. وحال وصوله بدأ مشواره ومشاوراته مع أخوانه وأحبائه وصراعه الشريف ونضاله المحموم للفوز بحقيبة وزير الشباب أو رئيس اتحاد كرة القدم أو أي منصب رياضي آخر، وكان قاب قوسين أو أدني من تحقيق ذلك الهدف المباح والوصول إليه بسهولة.

لكن في الخفاء ومن بعيد كان هناك من يترصد أحمد راضي، ويراقبه أينما يذهب ويتبعه أينما يحلّ وينتظر اللحظة التي يقتنص فيها تلك الشعلة الوهّاجة المتلألئة ليطفأها إلى الأبد وهو بعيد عن أهله وأحبائه وهذا ما سَلمَ به ذلك الفايروس القاتل الذي ظلَّ يصارعه لأسبوع حتى انتصر على أبا فيصل، في اللحظة الأخيرة من الرمق الأخير قبل أن يودّعنا الوداع الأخير حاملاً معه آمال أمّة مفجوعة وأماني شعب مرزوء …! وخلال سويعات أصبح النجم في خبر كانَ مفارقاً سطح الوطن وسماءه قابعاً تحت ثراها، في مقبرة الغرباء، في حياة لا تغيب، ولسان الشاعر يُسمعنا (مقابرٌ إنْ تزُرْها تلتقِ الموتىْ · · · فيها كأنّهُمُ الأحياءُ لا أنتَ).

وبعد، فكم تمنيت أن ينهض أحمد راضي من جدثه ليرى ولو لبرهة من الزمن، ويسمع ولو لهمسة واحدة، ماذا نطق الإعلام المرئي والمسموع وماذا كتبت مواقع التواصل والتآزر من عزاء الأحبة والأصدقاء، والرياضين والمسؤولين، عراقيين وعرب وأجانب، وكم من دموع ذُرفت لها العيون بحرقة على رحيله، والصور وعدد كلمات الرثاء والثناء التي قيلت بحقه، من أقاصي الأرض إلى أقصاها بشكل فاق التصور والخيال، وهذا ما يستحقه أبا هيّا، ويميّزه بين الخالدين. وما صلاة الغائب التي أقيمت على روحه الطاهرة في مسجد التقوى بعمان، ذلك المسجد الذي كان يتردد عليه الفقيد صباح كل يوم لإداء صلاة الفجر وبقية الصلوات والفرائض إلا تعبير صادق وعرفان واجب من أبناء الجالية العراقية في الأردن وفاءً منها لأبنها التقي.

فليحسن الله عزاء العراق عن ابنها البار احمد راضي، ويجعل للشعب العراقي من إرثه الرياضي وتاريخه الحافل عزاءً عن هذه الصدمة القوية، ويجعل من ابنه فيصل، وأبنائه الآخرين خير خلف له، وسيبقى التاريخ يذكر إنجازاته الرياضية الكبيرة، وما البقاء إلا لله … وإنا لله وإنا إليه راجعون.

﴿ وما تدري نفس مَّاذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأَي أَرضٍ تموت إِنَّ اللَّه عليم خبير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى