أسئلة حائرة في زمن الضياع

الجزء الثاني

وفي مطلع القرن السادس عشر الميلادي، استكملت فارس كل عناصر دولتها ومقوماتها السياسية والفكرية والعقائدية، وأهمها العسكرية وذلك بقيام الدولة الصفوية ذات العرق الآذري ولكنها عندما اصطدمت بوجود الدولة العثمانية القوية وهي دولة تركية أيضا، وجدت أن تبني منهاجٍ فارسيٍ سيمنحها تميزاً قومياً عن الجارين العربي والتركي إضافة إلى تمّيزها المذهبي عنهما، وكانت أولى خطواتها لتكريس ملكها أن كفّرت أتباع المذاهب الأخرى وهدرت دماءهم واعتمدت أسلوب القتل لإرغامهم على التحول إلى التشيع، فيقال إنها قتلت خلال مدة وجيزة من حكمها أكثر من مليون من أتباع السنة لأنهم رفضوا التحول عن دينهم.
وباشرت الدولة الصفوية المرحلة الثانية من خططها وذلك بالخروج من حدود فارس الجغرافية فكان العراق أول وجهة لجيوش إسماعيل الصفوي التي احتلتها سنة 1508، فانتقلت فكرة التكفير من نطاق النظرية أو التطبيق داخل بلاد فارس إلى العراق، أذ تم الاعتداء على مساجد السنة وإزالتها من الأرض.
لا تتوفر أرقام حقيقية عن عدد ضحايا الدولة الصفوية في تثبيت أركانها في الداخل أو في حروبها الخارجية، ولو قيست بعدد السكان في ذلك الوقت لما اختلفت كثيرا عن نسبة من قتلهم قابيل من سكان الأرض حينذاك.
وتداولت الحكم في فارس عائلات تصارعت فيما بينها بنزاعات دموية من أجل السيطرة على الحكم، ولكن تلك الحكومات حافظت على الطابع المذهبي (الشيعي الاثني عشري) لطبقة الحكم، حتى وإن استعصت أقاليم بكاملها على الترويض ومحاولات التشييع القسرية، فقد حافظ اقليم بلوشستان وكردستان وبعض العرب والآذريين على انتمائهم المذهبي متحدّين كل محاولات البطش وتضييق سبل العيش عليهم من أجل إرغامهم على تحولهم نحو التشيع، بل وشهدت تلك المناطق ردات فعل لم تخلُ من عنف في مراحل مختلفة من تاريخ دولة فارس التي استبدلت اسمها بـ (إيران) عام 1935 على يد رضا خان والد شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي من أجل احتواء كل القوميات الخاضعة لدولة فارس.
لكن النجاحات التي حققتها فارس في فرض التشيع على السكان، وكذلك الإخفاقات التي لحقت بها، تحولت إلى دروس مستخلصة من قبل الحوزات والمدارس الدينية في إيران والعراق وفي كل مكان تتواجد فيه تلك المؤسسات بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، والذي كانت شارة البدء في خطط استراتيجية للدولة القومية الفارسية والتي ترتدي لباس الدين لكسب المؤازرين العرب إلى جانبها أو تحييدهم.
وتم رسم مقترحات محددة لاعتماد أساليب قديمة جديدة في التحرك المطلوب، اعتمدت على عدة أسس، منها التسهيل على الأتباع في العبادات كالصوم والصلاة، وإشباع الرغبات للجنس والمال وتحليل وسائل الوصول إليهما، ففي الجنس تم إقرار زواج المتعة الذي هو دعارة بفتوى شرعية لا أكثر ولا أقل، أما المال فيمكن الوصول إليه بأية وسيلة شريطة دفع حق الخمس للمقَلَد السيد، أما إذا كان المال شائعا لا مالك له، كالنفط الذي ينظر إليه بعض مراجع الشيعة في العراق على أنه كالمطر فذلك ينزل من السماء وهذا يخرج من باطن الأرض ولا يحق لأحد ادعاء امتلاكهما بما في ذلك الدولة طالما أنها ليست جزءً من دولة الإمام الغائب (المهدي المنتظر)، وبإمكان الأفراد كافة الانتفاع منهما بالكيفية التي تتناسب وقدراتهم، شرط أداء الحقوق إلى المرجع الشيعي الأعلى، أما إذا ضاقت الحيل على طرق الكسب، فإن مراجع الشيعة، جعلوا أتباعهم يؤمنون بيقين بأن ذرف دمعة واحدة على الحسين كفيلة بمحو ذنوب الشيعي ولو كانت بقدر محيطات الأرض.
لكن فارس ومنذ تأسيسها ووضع أسس مذهبها الجديد اعتمدت على أمر هو الأخطر من بين كل الأسس التفصيلية والتفسيرية الأخرى، ذلك أنها اعتبرت الولاء لمركز المذهب في فارس أصلا من الأصول وركناً راسخا لا يصح التشيّع الصفوي من دونه مهما ترسخت القناعات الدينية والعبادات المفروضة والمندوبة، فهذا الركن ما لم يتحقق بالشواهد العملية ينسف إيمان الشيعي بتشيعه ما لم يتبع مركز الولاء السياسي والمذهبي أي ايران، ويستقيم في حتمية تحقق هذا الولاء، في مراجع الشيعة الكبار والصغار وعموم الناس، إذ يتلقى الجميع دروسا تفسر هذا الولاء تفسيرا دينيا مقدسا مدعوما بأحاديث تنسب للأئمة الاثني عشر، ومن هنا يمكن أن يلاحظ المهتمون بالأمر أن تاريخ المراجع الشيعة الكبار في النجف كانوا من الفرس إلا ما ندر من غيرهم من الأقاليم التي هي جزء من أراضي إيران الحالية أو من العراقيين، ولهذا ونتيجة للملاحقة التربوية على الكفر بالوطن واستبداله بالولاء للمذهب، عاش العراق بعد الاحتلالين الأمريكي والإيراني عام 2003، ممارسات لا نظير لها في أي بلد من بلدان العالم، ذلك أن أهم شرط لاحتلال المناصب العليا في سلطة الحكم من مدير صعودا تشترط أن يفكر المرشح للمنصب بكيفية تسخير منصبه لخدمة إيران سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وألا يفكر في خدمة وطنه العراق أو مواطنه العراقي، والأمثلة على ذلك مما لا يمكن أن تستوعبها مجلدات، ولكننا نأخذ ملفا حصل في شهر تموز 2020 وهو إحالة النقل من مطار بغداد إلى ساحة عباس بن فرناس أو إلى سائر أنحاء بغداد، إلى شركة الولاية الإيرانية للنقل والتي يقضي العقد الذي أحاله إليها وكيل وزارة النقل الذي يفترض به أنه عراقي يبحث عن كل الفرص لتشغيل الأيدي العاملة العراقية جلب 800 سائق إيراني مع سياراتهم، ويجب هنا أن نتوقف عند تاريخ توقيع العقد وهو ما تتعرض له إيران من ضغوط اقتصادية من جهة وأن العقد تم بعد ستة أشهر من مقتل قاسم سليماني في مطار بغداد بالذات في غارة أمريكية، وهذا يدعونا إلى ترجيح فرضية أن جميع العاملين في الشركة هم من منتسبي فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني مما يدعونا إلى استذكار تجربة شركة بلاك ووتر الأمنية الأمريكية.
بهذا العقد الأكثر سوءً يكون العراق قد استنسخ تجربة حزب الله اللبناني في السيطرة على مطار رفيق الحريري في بيروت والذي يستطيع من خلاله السيطرة على حركة المسافرين واختطاف من يشاء منهم، وكذلك عمليات تهريب الأموال والمخدرات والأسلحة والأشخاص وكل ما هو خاضع للتعريفة الكمركية.
من المتعارف عليه عالميا أن كل الدول التي تحرص على أمنها وكرامتها وسيادتها الوطنية، تحرص على عدم السماح لغير المواطنين من العمل في قطاع النقل لمحاذير أمنية ولعدم السماح بمنافسة المواطن في فرص التشغيل، إلا في حالات الضرورة القصوى.
فهل كان وكيل وزارة النقل يفكر بعقل أو عقل عراقي عندما وقع العقد؟ قطعا كان يفكر بمركز المذهب الذي يدين به ولا قيمة للوطن في ما تلّقاه من بناء تربوي، واللافت أن هذا العقد تم تمريره في وقت يعاني العراق من أسوأ حالات الفقر والبطالة المتفشية على مستوى المجتمع، ومع ما ساد من شعارات زائفة عن سعي مصطفى الكاظمي لتعديل موازين القوى المؤثرة في الساحة العراقية وترجيح كفة مصلحة المواطن على كفة المصالح الإيرانية.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى