وبوصول خميني إلى الحكم في إيران في 11 شباط/فبراير 1979، مسلحا ببدعة ولاية الفقيه الجديدة على الفكر الشيعي، بعد إسقاط نظام شيعي أيضا لم يقل عمن جاء بعده كذباً بزعم تمثيل الشيعة في العالم والدفاع عنهم، دخل العالم الإسلامي بل والعالم أجمع في مرحلة فوضى مشّرعنة باسم الولاية المطلقة لنائب الإمام الغائب الذي يستطيع أن يتخذ القرارات المصيرية نيابة عنه مهما كانت خطورتها.
ولأن خميني معبأ بكل عوامل الحقد المستلة من تاريخ فارس على العرب، مع ما أضافته تجربة إقامته في العراق من ضغائن عصيّة على الشفاء، فقد استنهض كل ما في صدره من تراكمات أحقاد التاريخ على العراقيين بسبب هزائم فارس في ذي قار ثم القادسية التي قوضت الإمبراطورية الفارسية الساسانية، وصبّها في قوالب طائفية تحتكر الولاء لآل البيت بأقلية من المسلمين، وتعتبر الآخرين هم قتلة الحسين ويجب الثأر منهم استنادا إلى مقولة (من الطالب بدم المقتول في كربلاء)، ثم أخيرا هزيمة إيران في القادسية الثانية التي ما كان لخميني أن يوقفها لولا أنه تجرّع كأس السم.
هذا الرصيد الهائل من أحقاد التاريخ القديم ثم تجربته المعاصرة جعلت من نزعة الانتقام تتأجج في صدره وتمور في داخله لتحويلها من مجرد مشاعر إلى فعل على الأرض.
ومن أجل أن يمرر موضوع الولاء لفارس في عقول الأتباع فقد جعله هو ومن سبقوه من المعممين الفرس أهم ركن من أركان التشيّع يتم غرسه في نفوسهم منذ الطفولة، ولنضرب مثلا واحدا على ذلك متجاوزين ما عداه من أمثلة أخرى، لأنه حديث جدا فقد قال القيادي السابق في حزب الدعوة غالب الشابندر في برنامج تلفزيوني، إنه يخشى من أن يتحول الولاء الشعبي في الشارع الشيعي في العراق من إيران إلى المملكة العربية السعودية لأنها قد تكرر ما قامت به في لبنان عندما أنفقت على مشاريع البنى التحتية هناك، فاستطاعت كسب الشارع اللبناني على حساب إيران، وعندما سأله المذيع (ولكن لماذا ترفض تقديم العون لبلدك لحل مشكلاته الاقتصادية وخاصة في مجال الخدمات؟ قال بالحرف الواحد وباللهجة العراقية “اللي بيّ ما يخليني” أنا شيعي)، وكأنه يختزل الولاء للتشيّع والعراق بعد 2003، بالولاء لإيران.
هذا على لسان من يطلق عليه الشيعة المنخرطون بالعملية السياسية وصف “المفكر”، فإذا كان هذا حد تفكير المفكر، فإلى أين أوصلوا الشيعي الأمي البسيط يا ترى؟
علينا أن نتعرف عن كثب عن الظاهرة الخمينية وعما إذا كانت مشروعا إمبراطوريا فارسيا مغلفّا بشعارات دينية لاستقطاب أوسع تأييد شعبي في منطقة عُرفت بأنها سريعة الذهاب مع أي مشروع يرفع شعارات الإسلام السياسي ومقاومة الاستكبار العالمي وخاصة عند ربطها بالقضاء على الفقر والتمايز الاجتماعي الذي تزخر به مجتمعات المنطقة وخاصة إيران الشاه، ويأخذ الأمر بعدا أكثر تجذرا عند ربط تلك الشعارات بقضية فلسطين، أم أن الظاهرة الخمينية دعوة مذهبية محصورة في نطاق التشيّع وهدفها الانتشار المذهبي على حساب المذاهب الأخرى؟
يمكن أن نفترض كل الأفكار المطروحة عن سرعة انتشار الخمينية وخاصة في بعض الأقطار العربية التي فيها تواجد شيعي ملموس، إلا أن هناك بعدا آخر أخطر بكثير مما طرح في هذا الموضوع.
علينا أن نعود إلى خلفيات الصراع السياسي العقائدي بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي، فالشيوعية كعقيدة تمكنت من اختراق المعسكر الغربي من دون أن تُوضع القوانين المانعة لانتشارها في المجتمعات الرأسمالية باستثناء ما صدر في الولايات المتحدة من قانون يعرف بالمكارثية هو سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة، وينسب هذا التوجه إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي، كان رئيساً لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس، وأدت المكارثية إلى سجن كثير من المواطنين بتهمة أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفيتي، وقد تبين فيما بعد أن معظم تلك الاتهامات كانت على غير أساس، واعتبر مثقفون غربيون أن هذا المصطلح يراد منه ممارسة الإرهاب الثقافي الموجه ضدهم.
ومع ذلك فإن الولايات المتحدة رأت أن اختراقها من قبل الحركات اليسارية يستدعي فعلا مضادا فوجدت أن تطويق الاتحاد السوفيتي (بحزام الفتن الدينية، هو الأسلوب الأمثل لتحريك شعوب الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءً من الاتحاد السوفيتي، فوجدت ضالتها في خميني لأنه يمثل ردا مزدوجا على الاتحاد السوفيتي من جهة وعلى محاولات خروج شاه إيران السابق على استراتيجية التحالف الغربي سواء ما يتعلق بسياسته النفطية التي بدأت تميل إلى رفع الأسعار أو بخطط خروجه على بيت الطاعة وذلك بانتهاجه سياسة خليجية تؤمن له دورا أكبر مما هو مسموح له والأهم من ذلك اشغال منطقة الشرق الأوسط بفتن داخلية غير قابلة للتوافق.
وفي ظل هذه المتغيرات والظروف الدولية وتفكك التحالفات لصالح الدول الصغيرة على حساب الأسياد الكبار، وقفت الولايات المتحدة ضد نوايا الشاه في قمع الاضطرابات الداخلية ولجم قدرة خامس جيش في العالم عن معالجة أزمة داخلية كان بالإمكان حلها لو لم ترسل الولايات المتحدة رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية الذي نصح بعدم اللجوء إلى الجيش في حل الأحداث الداخلية، ومعروف أن نصائح السادة للتابعين في مثل هذه الظروف تعني أوامر واجبة التنفيذ، فنجحت الثورة ووصل خميني إلى السلطة بعد مصادرة تضحيات الإيرانيين.
فهل حققت الولايات المتحدة هدفها في دعم وصول خميني إلى الحكم في إيران سواء بالتأييد المباشر أو الضمني؟ أم أنّ نظام الحكم البديل لنظام الشاه صار مثل ممثل خرج على النص وراح يتصرف من تلقاء نفسه؟ أم أن قِطًعَ الشطرنج تمردت على أصابع اللاعبين؟ أم أن القضية لا تعدو عن كونها إعادة رسم للاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بهدف إشغالها بنفسها بحروب طائفية لا تعرف انتهاءً مهما طال زمنها؟
على العموم صار وجود خميني على رأس سلطة دينية في إيران أمرا واقعا، فأقدم في أول خطوة له على رفع شعار (تصدير الثورة الإسلامية)، وكرّس هذا المفهوم في الدستور الذي فرضه على شعوب إيران، ولم يجد خميني غير العراق ساحة يستعرض فيها قدرته على تطبيق شعار تصدير الثورة لفرض تفسيره الخاص للتشيّع، استنادا إلى مبدأ ولاية الفقيه الذي واجه وما يزال رفضاً خجولاً داخل المؤسسة الدينية وخاصة في النجف وقم، فنشطت المنظمات الإرهابية التي تأسست في زمن الشاه مثل حزب الدعوة، أو المنظمات التي حَوَلت ولاءها لخميني ونهجه الجديد، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل دفعه وهمْ الولاء الشيعي له في العراق خاصة وفي بعض أقطار الخليج العربي، إلى المضي أبعد من مجرد تحريك فعاليات داخل البيئة الشيعية ضد حكومات البلدان التي تعيش فيها، بل إلى مباشرة سياسة الضغط الخارجي، أي تحريك القوات المسلحة الإيرانية للقيام بفعاليات ذات طابع حربي محدود عبر الحدود الإيرانية العراقية، بهدف قياس ردود الفعل الشعبية وفيما إذا أدت إلى انتفاضة شعبية في مدن الجنوب العراقي ضد نظام الحكم القائم، ولم يقتصر الأمر على القصف المدفعي بل تعداه إلى تهديد الملاحتين الجوية والبحرية، قطعاً العراق لم يكن مستعدا تمام الاستعداد لكل هذا الكم من التطورات السياسية والعسكرية، لكن هذا لم يكن ليعفي الدولة عن النهوض بمسؤوليتها في حماية الوطن والمواطن والسيادة الوطنية من أي تهديد خارجي، حاول العراق عبر المذكرات التي رفعتها وزارة الخارجية إلى الأمم المتحدة أن تلفت نظر العالم إلى أن منطقة الخزان النفطي العالمي الأكبر باتت على صفيحٍ ساخنٍ وقابل للانفجار في أية لحظة، ولكن العالم كان له رأي آخر، وهذا ما أرغم القيادة العراقية على مباشرة الاستعداد للدفاع عن العراق بكل الوسائل المتاحة، وإزاء خطط التوسع الإيراني والإصرار العراقي على الدفاع عن السيادة الوطنية، يبدو أن الفرص تقلصت تماما في جعل الحرب خيارا مستبعدا، وفي مطلع أيلول/سبتمبر 1980 كانت الشرارة الأولى لحرب الثماني سنوات قد اندلعت، وفي 28 أيلول صدر أول قرار لمجلس الأمن الدولي برقم 479 بتاريخ 28 أيلول 1980 بوقف إطلاق النار بين العراق وإيران، وبعد صدور القرار بأقل من 24 ساعة أعلن العراق موافقته عليه، ولكن إيران رفضته رفضا قاطعا وراحت تصعّد من مطالبها، وتواصلت الحرب حتى صدر قرار مجلس الأمن الدولي 598 في تموز 1987، فرفضته طهران أيضا، ولكن خميني أعلن موافقته على القرار المذكور بعد أكثر من سنة من تاريخ صدوره قائلا إنه مضطر للقبول بالقرار وكأنه يتجرع كأس السم.
733