الإمبراطوريات الغابرة … الاستعمار القديم يُولد من جديد

الجزء الاول

منذ سقوط دولة الخلافة العباسية تقلّب الوطن العربي بين صيغ شتى من الاحتلال والسيطرة الخارجية، ولكن قيام الدولة العثمانية التي عمّرت طويلا، افتتح أول حقبة لسيطرة الإمبراطوريات الكبرى في العصر الوسيط والتي ظلت تحكم البلدان الخاضعة لها بصورة مباشرة وبواسطة حكام يتم استقدامهم من الإستانة إلى أقاليم الدولة المترامية الأطراف.
ومن أجل إخضاع مواطني تلك الأقاليم ومنعهم من المطالبة بحقوقهم، اُعتمدت سياسة التجهيل والتتريك معا، مع كل ما رافق ذلك من فقر وتخلف معرفي واجتماعي وقصور في معرفة الحقوق السياسية للأفراد والجماعات، ومع وجود المسجد والنزر القليل من علماء الدين الذين كانوا يحثون على منع الظلم سواء كان من الدولة للأفراد، أو من الأفراد لبعضهم، نشأت حركات حرصت على إخفاء بُعدَها السياسي بعد أن غلفّته بخطاب ديني اجتماعي صرف لتجنب بطش السلطة.
تاريخ الدولة العثمانية معروف الصفحات وربما لا يحتاج إلى مزيد من الأضواء الإضافية لتسليطها عليه، ولأنه حكم باسم الإسلام فقد يجد له شفيعا يدافع عنه بحرارة ويركز على إنجازاته فقط، فقد قامت الدولة العثمانية بعد سقوط الدولة العباسية في بغداد مع بداية أفول شمس الإسلام ومجيء دويلات غير عربية متناحرة فيما بينها، مما أرهق المسلمين ليضيف إلى وضعهم مآس لا تقل عما خلفّه جنكيز خان وهولاكو من قتل ودمار، وهذا ما أدى إلى بروز قبائل تركية على سطح الأحداث فتعاضدت مع بعضها لإقامة كيان سياسي قوي واحد قادر على مواجهة التحديات الخارجية المتمثلة بالحروب القادمة من الشرق أو الحروب الصليبية، وداخليا لنشوء حركات باطنية سعت إلى الإساءة إلى الإسلام من داخله.
إن الحديث عن تبرير الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الدولة العثمانية في الوطن العربي، لا سيما العراق وبلاد الشام، واعتماد سياسة منهجية للتجهيل والإفقار والظلم الاجتماعي والاقتصادي، وإتباع سياسة التتريك وحصر السلطات بيد رجال ترسل بهم السلطنة إلى أقاليم عربية، أو بحديث عاطفي في غاية التطرف عن مواقف السلطان عبد الحميد من قضية الأراضي الفلسطينية بمواجهة الأطماع الصهيونية، وكأنها هي التي وفرت الحماية الأبدية لفلسطين من الضياع، هذا الحديث لا يختلف كثيرا عن إطراء أردوغان في الوقت الحاضر لمجرد أنه تحدى شمعون بيرس في مؤتمر دافوس قبل عدة سنوات، ولا يختلف أيضا عن تبني وجهات النظر الإيرانية الجوفاء عن تحرير القدس، لتبرير ما ترتكبه من مجازر طالت سوريا والعراق ولبنان واليمن، مع أن ثلاثة من هذه الأقطار تعرض الفلسطينيون فيها إلى مجازر تفوق ما وقع في دير ياسين وكفر قاسم وغيرها مما ارتكبته المنظمات الصهيونية في فلسطين.
يظن بعض المدافعين عن تجربة أردوغان، أنهم قدموا الحجج الدامغة الكفيلة بإسكات خصومهم بالقول إن أردوغان نقل بلاده من بلد مدين إلى بلد دائن ومن بلد متخلف في مختلف المرافق إلى بلد صناعي كبير يحتل مرتبة متقدمة في مجموعة الدول العشرين، وكأن أي انجاز يقدمه حاكم ما لبلده وشعبه يصير جواز مرور له للتنفيس عن أحلامه الإمبراطورية والتوسع على حساب العرب خاصة.
تلك المهمات على رأس اهتمامات أي حاكم يريد الخير لشعبه ويريد تثبيت سلطته وتجديد الحكم له، وبالتالي لا شأن لنا نحن العرب بإنجازات أردوغان داخل تركيا ومن حق الشعب التركي وحده أن يفتخر بها ويدافع عنها، وإلا هل علينا أن نفخر بما حققه الغرب من إنجازات تكنولوجية ونمو اقتصادي مع تسامح سياسي ظاهري، وإن كان على حساب المستعمرات التي توسع فيها الغربيون فاستولوا على مصادر الثروة وفي نفس الوقت احتكروا أسواق تلك المستعمرات لتصريف السلع القادمة منها كمواد أولية لتعاد إليها كمنتجات نهائية أبهرت العقول وأدت إلى إثارة تساؤلات مشروعة عن أسباب تطور الغرب وتراجع العرب والمسلمين عن اللحاق بركب الإنسانية، لقد بنى الغربيون أسباب رفاهيتهم وتطورهم العلمي والتكنولوجي على تعاسة الدول المتخلفة والمسماة تجميلا بالدول النامية أو دول العالم الثالث، ومهما يكن من أمر فإن الغرب الإنساني لأبعد الحدود مع شعبه، كان متوحشا إلى أبعد الحدود مع شعوب المستعمرات، صحيح أن الولايات المتحدة أرسلت أول إنسان على سطح القمر في 20 تموز/يوليو 1969، ولكنها لم تستطع حتى الآن النزول إلى أعماق المشاعر الإنسانية لشعوب الأرض بمن فيهم الهنود الحمر وزنوج أمريكا، ففي عام 1969 بالذات كان الجيش الأمريكي يرسل أقوى قوة عسكرية لكسر إرادة الشعب الفيتنامي، وكررت لعبتها في عام 1991 وعام 2003 من أجل قهر إرادة الشعب العراقي.
إن الحديث عن دفاع تركيا عن الإسلام ونشره في أوربا ووصولها إلى حدود فيينا، حديث يراد منه ليْ عنق الحقيقة وتبرير سياسة دولة تحمل ميراث مشروع توسعي لا يختلف في خطره عن أي مشروع احتلالي آخر إلا بأنه باسم الإسلام كما تفعل إيران في الوقت الحاضر وإن كانت الأخيرة أكثر وحشية وهمجية، وهنا ستحصل المفارقة التاريخية التي كانت مطروحة في بعض الأوساط، أي الاستعمارين أفضل البريطاني أم الفرنسي؟ ويقدم المدافعون عن الأول حججهم بأن بريطانيا لا تتدخل في الشأن الداخلي ولا بمعتقدات الناس وعاداتهم وثقافاتهم، في حين أن الاستعمار الفرنسي يتدخل حتى في أدق تفاصيل حياة الأفراد وثقافتهم وعاداتهم، وهذا ما أدى إلى مسخ الشخصية القومية والوطنية لكثير من الشعوب التي خضعت للاستعمار الفرنسي إذ تم فرض اللغة الفرنسية كلغة قومية على مجتمعاتها.
الدولة العثمانية تحولت إلى إمبراطورية مترامية الأطراف وخاصة في أوربا، وتوقفت عن تحكيم مبادئ الإسلام وتحولت إلى دولة قومية بكل معنى الكلمة وهذا موضوع طويل ليس مجال بحثه هنا، ولنحاول إجراء مقارنة سريعة بين الفتوحات العربية شرقا وغربا، فسنرى أن العرب حيثما حلّوا فقد اعتمدوا حكم القران الكريم وخاصة أول كلمة نزلت على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وهي كلمة اقرأ، فنشروا المدارس والمعاهد في كبريات المدن التي وصلوا إليها، وشيّدوا الجوامع والجامعات قبل أن تعرفها أوربا بعدة قرون، ونقلوا الثقافة والشعر والفنون بمختلف أغراضها، ويكفي أن نعرف أن المدرسة المستنصرية في بغداد ما تزال قائمة وهي معلَم أوضح من أي قصر للخلافة، وكذلك الحال في المسجد الجامع في سامراء وملويته المبهرة أكبر من دار الخلافة، وإذا رحنا غربا فإننا سنلاحظ الجامع الأزهر في مصر وجامعة القيروان في تونس وجامع القرويين في فاس والمسجد الجامع في قرطبة، صحيح أن السلطنة أقامت الكثير من المساجد إلا أن قصور السلاطين أكثر فخامة وأكبر عددا مما أقيم من المساجد.
لا ننكر أن الدولة العثمانية واجهت تحالف المصالح المضادة بين الغرب المسيحي والدولة الصفوية في الشرق لإشغال العثمانيين بحروب طويلة تارة على تخوم السلطنة في أوربا غرباً أو على حدودها مع الدولة الصفوية شرقاً وهذا ما حوّل العراق إلى ساحة صراع رئيسية للإرادات والمصالح إن لم تكن ساحته الوحيدة، ولكن ذلك كله كان دفاعا عن الجغرافيا السياسية للسلطنة وأمنها القومي.
واجهت الدولة العثمانية مقاومة من دول أوربا في بداية ما يسمى بعصر النهضة ونشوء الموجات الاستعمارية الأوربية الأولى والتي اعتمدت التوسع على حساب القارات الأخرى بحثا عن المواد الأولية والموارد الطبيعية والأسواق البكر لسلعها الصناعية، وكما أن هذه الموجات واجهت مقاومة من شعوب المناطق المختلفة فإن الدول الأوربية عاشت فيما بينها صراعا وتنافسا محموما في الوصول قبل الآخرين.
هناك من يدافع عن احتلالات الدول الإسلامية لدول أخرى أضعف منها مستبطنا برامج أو مشاعر غير ما يطرحه، ولكن وجود القوى الأجنبية ومهما كانت اللافتة التي تقف تحتها تبقى قوى تحركها أجنداتها الخاصة فهي ليست جمعيات خيرية أو منظمات إنسانية تريد نشر برامجها أو تقديم خدماتها في الأقاليم الأخرى لمساعدة المظلومين على التخلص من ظالميهم أو لدعم الفقراء أو نشر الوعي والتعليم في الأوساط كافة.
ولأن الدول كما يقول توينبي مثل بني البشر، تمر بمراحل الطفولة والفتوة ثم الشيخوخة، فلم تكن الدولة العثمانية استثناءً من هذه المعادلة، فما كاد القرن التاسع عشر يلفظ أنفاسه الأخيرة ويطل القرن العشرين بتحولاته الكبرى، إلا وكانت الدولة العثمانية ترقد في غرفة العناية المركزة بانتظار حصول المعجزة التي لم تأت، فقد تضافرت جهود الشرق والغرب على تقويض أركانها بعد قضم تدريجي لممتلكاتها على نحو جردّها من مساحات شاسعة كانت تخضع لها، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الدولة العثمانية تودع الحياة لتحل بريطانيا وفرنسا محلها في احتلال الوطن العربي في آسيا وأفريقيا.
وتعرّض الوطن العربي مجدداً لحقبةٍ من السيطرة الأجنبية التي جاءت إليه تحت لافتة التحديث والتمدين، ولكن هذه المرة من ديانة أخرى وهي المسيحية لتقول بأن عصر الإمبراطوريات الإسلامية قد انتهى وأفلت شمسه، غير أن حقيقة الأمر كانت صدمة جديدة وحصاداً مرّاً لقرونٍ من الجهل والتخلف الذي عاشه الوطن العربي منذ سقوط بغداد على يد هولاكو بعد خيانة ابن العلقمي عام 1256.
لقد أفرزت الحرب العالمية الأولى نظاما دوليا ربما يمكن أن نطلق عليه النظام الدولي الأول في العصر الحديث، ولكنّ الولايات المتحدة التي شاركت في الفصل الأخير من الحرب في أوربا، حاولت ولوج النظام الدولي من أوسع باب إنساني، عندما أعلن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون بيانه الأول لخروج الولايات المتحدة من حدودها الجغرافية إلى مختلف الأرجاء، وذلك بإعلانه مبادئه الأربعة عشرة للكونغرس الأمريكي في 8 كانون الثاني/يناير 1918، ركز فيها على حق الشعوب بتقرير مصيرها وضرورة استتباب الحرية والسلام في العالم، وقد لاقت هذه المبادئ ارتياحا واسعا لدى شعوب المستعمرات وخاصة الشعب العربي الذي ظن أنها الطريق السليم للوصول إلى التحرر من السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، ومع أن ويلسون كان يتعامل بمثالية في موضوعة العلاقات الدولية، إلا أنه بات رمزا مناسبا للشعوب المحبة للحرية، على الرغم من أن الولايات المتحدة وبعد أقل من نصف قرن تحولت إلى أكبر دولة امبريالية اقتصادية عسكرية في التاريخ، وشاركت في الحرب العالمية الثانية وكانت أول بلد في العالم يستخدم السلاح الذري في الحرب وليس في التجارب عندما ألقت بقنبلتين على هيروشيما ونكازاكي في اليابان قبيل نهاية الحرب الثانية، وكواحدة من نتائج الحرب نشأ النظام الدولي الثاني وبرز فيه قطبان جديدان هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على حساب القطبين السابقين بريطانيا وفرنسا.
عانى كثير من الأقاليم التي لم تحصل على استقلالها الناجز من السيطرة الاستعمارية، على الرغم من قيام حكومات محلية، إلا أنها كانت جزءً من منظومة التحالفات الدولية، وذلك عن طريق ربطها بأحلاف سياسية عسكرية وعقود اقتصادية غير متكافئة، وأُقيمت فوق أراضيها قواعد بحرية وجوية عسكرية كبيرة، مما كان ينتقص من سيادة الدولة فوق أراضيها ويحدّ من حرية قرارها السياسي وخياراتها الاقتصادية.
يتبع

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى