الحرب الاخيرة والقادمة؟تعلّم الدروس الخاطئة من العراق

نشرت مجلة فورن افيرز في عددها الاخير مقالاً مهماً عن غزو العراق ومقاربته مع الاحداث المتوقعة بين ايران وامريكا. تأتي أهمية هذا المقال ليس فقط لتسليطه الضوء على أهم دراسة توثيقية على الاطلاق أصدرها الجيش الامريكي عن حربه في العراق، ولا لأهمية وخبرة الكاتب في المنطقة ايضاً،ولا حتى فقط لتوقيت الموضوع وارتباطه بما يحصل الان وكيفية فهمه،بل ايضاً لتطابقه شبه التام مع وجهة نظري بخصوص مآلات الصراع الامريكي الايراني.
أعتذر منكم سيداتي وسادتي الافاضل لعدم تمكني من تلخيص المقال اكثر من ذلك لأهمية ماورد في كل فقراته وارتباطها بذاكرتنا المعاصرة. نصيحتي ان تحاولوا قراءة المقال بأكمله لترابط فقراته بشدة. شكراً
الحرب الاخيرة والقادمة؟تعلّم الدروس الخاطئة من العراق
حلل الكاتب إثنين من الدراسات التي نشرت من قبل معهد الدراسات الستراتيجية وكلية الحرب في الجيش الامريكي ضمن مجلدين ضخمين من الدراسات التي تناولت الدروس المستفادة من حرب العراق والتي صدرت بداية عام ٢٠١٩ وغطت مرحلتين: الغزو والعصيان والحرب الاهلية ٢٠٠٣-٢٠٠٧، ثم الاندفاع والانسحاب ٢٠٠٧-٢٠١١.
يناقش الكاتب إدعائين مهمين: الاول ان المنتصر الوحيد في تلك الحرب كان أيران التي استطاعت التخلص من نظام صدام والمجيء بنظام قريب منها.ودراسة الجيش الامريكي استنتجت بناء على ذلك ان امريكا لم تكن لديها ستراتيجية للتعرف وللتعامل مع هذا التحدي.وذلك لانها وضعت (مخطِئةً) حدود جغرافية مصطنعه لغزوها ولم تشمل ايران.
الادعاء الثاني الذي أثارته دراسات الجيش الامريكي وهو اكثر اثارة للجدل،ان فشل امريكا في بلوغ اهدافها الستراتيجية من غزو العراق لم يكن محتوماً بل نتيجة سلسلة طويلة من القرارات والافعال الخاطئة التي إتخذها قادة مدربون ولديهم معرفة.بمعنى آخر، ان الفشل الستراتيجي في هذه الحرب التي كلفت امريكا بين ترايون وترليوني دولار و٤٥٠٠ قتيل ونصف مليون عراقي قتيل(على الارجح)كان بسبب التنفيذ وليس لخطأ في المفهوم والاساس!
من المألوف أن يعتمد صناع القرار في بناء قراراتهم على خبرة الماضي مستندين على أعتقاد عير مدعوم علمياً كما يقول المؤرخ ارنست ماي مفاده ان المستقبل هو غالباً يشبه الماضي القريب!
عندما قرر جونسون عام ١٩٦٥ارسال ١٠٠٠٠٠جندي أمريكي الى سايغون كان هناك جدا بين أركان الادارة الاميركية الى ان حسم ذلك السفير الامريكي في سايغون قائلاً( الا ترون بوادر حرب عالمية ثالثة ستقوم نتيجة تجاهلنا (كما فعل البريطانيون) لنُدُر تشابه تلك التي تجاهلها البريطانيون تجاه هتلر عام ١٩٣٨؟).
الا ان فشل فيتنام وضع مثلاً تاريخياً لفشل التدخل مشابه ومساوي لفشل بريطانيا في رؤية الخطر الهتلري.الفشل في فيتنام جعل قادة اميركا اللاحقين مترددين في الدخول بحرب الى أن جاء ريغان الذي أراد شفاء امريكا مما سمي بعارض(داء) فيتنام. وفي ١٩٩٠ نصح هيغ وزير خارجية امريكا السابق في مقال له الادارة الامريكية وبناء على درس فيتنام بعدم الاكتفاء بتحرير الكويت بل اسقاط مظام صدام لكن بوش الاب نفذ نصف النصيحة وأعلن ان امريكا قد شُفيت من داء فيتنام.
لقد أمضت أمريكا العقود الاربع الاخيرة جاعلةً من العراق محور إهتمامها وبنَت بناء على ذلك خبرة في مدى ومحدودية القدرات الامريكية. وباتت تجربة العراق دليلاً تاريخيا للسياسة الاميركية.
كلنتون لم يكتفي بمهاجمة العراق وفرض أقسى حصار عليه بل غير الستراتيجية الاميركية لتصبح الاطاحة بالنظام. وقد استخدمت مادلين اولبرايت مصطلح(الامة التي لازيمكن تجنبها) لتحشد باتجاه تغيير النظام. وعندما جاء بوش الابن إستخدم خطأ أبيه الستراتيجي في الاطاحة بصدام لتبرير غزو العراق وبدأ بحملة مغالاة في تقدير التهديد الذي يشكله العراق.
بمجيء اوباما كانت الخبرة التاريخية المستفادة من حرب العراق دليلاً ارشاديا له في سحب امريكا من المنطقة وفي التعامل مع اصعب مشكلتين واجهتاه هناك وهما التهديد النووي الايراني والوضع في سوريا. وفي الحالتين استند اوباما لخبرة حرب العراق لتجنب الخيار العسكري.
وعلى الرغم من النقد اللاذع من قبل ترامب لحرب العراق ووعده بعدم الدخول في اي حرب للاطاحة بنظام لا نعرف عنه شيئاً بدت اواخر عام ٢٠١٦ تعطي نذرا وكأن امريكا بصدد حرب أخرى في المنطقة عززها تليرسرن بخطابه في يناير ٢٠١٨ لتبرير تواجد قوات امريكية اكبر في سوريا. وبدأت أصوات مؤيدي حرب العراق ٢٠٠٣ بالتصاعد منتقدةً إنسحاب اوباما من العراق نتيجة رفض البرلمان العراقي منح حصانة للجنود الاميركان مما أدى لظهور داعش وما أعقبه من نتائج كارثية. لا بل أن هناك فقرة كتبت في التاريخ العسكري الرسمي الامريكي تشير الى أن الحملة العسكرية الامريكية وبعد خطة الاندفاع ودحر القاعدة في العراق كانت في طريقها للنجاح وتحقيق الاهداف لولا قرار الانسحاب.
طبعاً هذا الاستنتاج يتجاهل حقيقة ان الانسحاب تم بناء على الاتفاق الستراتيجي الذي وقعه بوش وليس اوباما.كما ان داعش لم تظهر بسبب انسحاب القوات الامريكية بل بسبب الحرب الاهلية في سوريا.
عموماً ومهما كان الرأي بخصوص الانسحاب الامريكي من المنطقة الا ان ذلك يجب ان لا يجعلنا ننحرف عن التساؤل الرئيسي والمهم عن مدى صحة قرار غزو العراق إبتداءً.
مع ذلك فيبدو أن ترامب لم يستفد من حرب العراق وبدأ بإحاطة نفسه بعدد كبير من صقور الحرب علماً ان معظم هؤلاء كانوا من المناصرين لحرب العراق . كما عمل من خلال لهجته التصعيدية نحو الحرب على إستمالة او كف انتقادات كثير من صقور الجمهوريين الذين يكرهوه وينتقدوه بشدة.
في ظل هذه الاجواء لم يكن مستغرباً ان يشير استطلاع اخير للرأي العام الامريكي الى تقلص نسبة الذين يعتقدون ان غزو العراق كان خطئاً الى ٤٨٪؜، في حين كانت نسبتهم ٥٦٪؜عام ٢٠٠٨.
على الرغم من أن واحدة من مواضيع ترامب الانتخابية كانت نقده الشديد للتدخل في العراق الا أن البعض في ادارته بدأ الاشارة الى ايران على انها المهمة غير المنتهية.وقد أسفر انتخاب ترامب عن تغيير كبير في السياسة تجاه ايران من خلال استخدام سياسة الضغط الاقصى المتمثلة بالحصار. وبدأت الحرب الكلامية بين ترامب وروحاني بالتصاعد.
وعلى الرغم من ان بومبيو الذي كان احد مؤيدي تغيير النظام الايراني عندما كان في الكونغرس بدأ باستخدام لغة اكثر حذراً بالاشارة الى ان تغيير النظام مهمة الايرانيين الا انه اعلن عن ١٢ نقطة يجب على النظام تطبيقها الا ان بعض من هذه النقاط(كالتخلص من اليورانيوم ووقف دعم الميليشيات) تبدو مستحيلة من وجهة نظر الايرانيين.كان الرد الايراني يتسم بالصبر الستراتيجي والاعتماد على الحلفاء الغربيين والاسيويين.
الا ان تصاعد الضغوط الامريكية جعل الايرانيين يلوحون بخرق الاتفاق النووي والسعي لامتلاك القنبلة النووية. كما ان امريكا صعدت من لهجتها. ويمكن الان تصور اي حادث بسيط يؤدي الى حرب شاملة.
واليوم تبدو هناك اوجه كبيرة بين مقدمات غزو العراق والحرب معرايران. أول اوجه التشابه وجود رئيس إنطباعي وقليل الخبرة بالشؤون الدولية. وكما كانت ادارة بوش تضغط على الاستخبارات لايجاد علاقة( غير موجودة) بين صدام ومهاجمة برج التجارة ، يضغط ترامب وادارته لايجاد دلائل تعزز الخط والسياسة المتشددة مع ايران.
ان على الادارة الامريكية ان تدرك ان ايران بحجم اربع دول مثل العراق وسكانه اكبر ٤ مرات وجغرافيته ونظامه اكثر تعقيدا. لذا ينبغي التعامل بحذر شديد كي لا نعطي مبرر للحرب.
مع ذلك يبقى خيار حرب ذكية وصغيرة ضد ايران لردعها مطروحاً على الطاولة. وقد وضع البنتاغون في شهر ايار لارسال ١٢٠ الف جندي للمنطقة وهو ما يقارب ثلثي العدد الذي ارسل لغزو العراق.
التعمية على الدروس المستفادة من غزو العراق قد تكون أفضل طريقة لاقناع رئيس لا يريد الحرب بالدخول فيها. مثلاً ما كتبه أحد محرري (دراسة العراق) في مقال نشره في the hills مؤخراً بأن التاريخ يخبرنا ان عدم معاقبة امريكا لايران على مهاجمتها لنا سيؤدي الى تكرار ايران لهجومها على امريكا. مثل هذه المقالة المبنية على مقاربة القوة والصعف هي افضل طريقة لاثارة ترامب.
مع ذلك فإن احد الدروس التي يجب تعلمها من التاريخ هو ان الحرب ما أن تبدأ يصعب التنبؤ بما قد تتطور. ان احد اهم الفروق بين ايران وعراق ٢٠٠٣ هي قدرة ايران على مهاجمة امريكا بطرق غير تقليدية لم تكن متاحة للعراق. ان نفوذ ايران في المنطقة يسمح لها مثلا بمهاجمة الدبلوماسيين الاميركان كما حصل في ليبيا. هذا ما أدى الى قرار بومبيو بتخفيض عدد الدبلوماسيين في العراق.
على الرغم من ان التاريخ لا يتكرر بنفس الطريقة الا ان فيه من الدرس ما ينبغي الاستفادة منها.لقد ادركت عندما كنت مراسلا لواشنطن بوست في بغداد عام ٢٠٠٥ اننا لن ننجح في العراق وان النيات الطيبة لوحدها لا تكفي عندما خابرني سائقي في احد الايام طالباً مني ان اخبر صديقي الضابط الامريكي المسؤول عن الحي الذي يسكن فيه ان يتوقف عن اعطاء بناتي السكاكر فسألته مستغرباً،لماذا؟ قال حتى لا يظن الجيران ان عائلتي تتعاون مع الاحتلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى