د. زهير عبد الغني حمّادي |
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم وصف وتحليل لدور الحركة الشيوعية في العراق منذ تأسيسها في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي وحتى أوائل السبعينيات، مع التركيز على العوامل التي لم تمكنها من تحقيق أهدافها في السيطرة على النظام السياسي العراقي. أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة كانت ملائمة لها لأن عراق القرن الماضي والخارج تواً من السيطرة العثمانية كان فقيراً ومتخلفاً وخاضعاً لنظام إقطاعي مهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، ولديه نظام سياسي هش، يرزخ تحت السيطرة البريطانية متمثلة بنظام الانتداب الذي أقرّته عصبة الأمم للعراق وللمنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى.
إن نجاح الثورة ألبلشفية في روسيا في عام 1917، وتأسيسها أول دولة شيوعية في العالم قد أدخل عاملاً مهماً في انتشارألأفكارالشيوعية في كثير من دول العالم، لأنها كانت بداية تطبيق نظرية جديدة، وجذابة، ولها مشروع متكامل لبناء مجتمع جديد مبني على المساواة والعدل وتوزيع الثروات، وبلا شك فان انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية قد أضاف عاملاً آخر وزخما جديداً للحركة الشيوعية العالمية ومن ضمنها الحركة الشيوعية العراقية.
لكن قبل الخوض في تحليل مسيرة الحركة الشيوعية في العراق وأسباب فشلها في تأسيس دولة شيوعية، لا بد من إلقاء نظرة على العقيدة الماركسيه اللينينية بخصوص قيام الثورات وتاسيس الدول الشيوعية في العالم، وعلاقة هذه النظرية بالواقع السياسي في الدول الصناعية والدول التي كانت خاضعه للأستعمار في أسيا وافريقيا وفي مناطق أخرى من العالم.
تتميز الأحزاب الشيوعية في العالم عن بقية الأحزاب والحركات السياسية الأخرى بكونها جزء من حركة عالمية موحدة وخصوصاً بعد نجاح الثورة البلشفيه في روسيا في عام 1917، وقيام الاتحاد السوفياتي كأول دولة شيوعية وكمرجع وحيد انذاك للاشعاع الفكري الماركسى اللينيني في تفسير النظرية الشيوعية وكيفية تطبيقها. لقد استمر هذا النهج لفترة ولكن ظهور الحركة الشيوعية الصينية بقيادة ماو تسي تونغ قد ادخل نهجا مغايرا وقدم طروحات مغايرة عن الطروحات السوفياتية وبالأخص عن كيفية إنجاح الثورات الشيوعية في العالم، ومن هي القوى والطبقات التي سوف تقود هذه الثورات. أن هذا التفسير الجديد قد ادخل فكرا مغايرا عن الفكر ألسوفيتيي وادخل عامل المنافسة بين ألفكرين وأحدث انشقاقا خطيرا بين ألأحزاب الشيوعية في ألعالم مما أضعفها جميعا.
إن طروحة الفكر الصيني الماركسي الذي قدمه ماو تسي تونغ لا تشترط المرور بجميع مراحل التطور المذكورة في النظرية الماركسية اللينينية للوصول الى المرحلة الشيوعية، ولا تشترط هذه الأطروحة أن تكون الطبقة العاملة هي القوى التي سوف تقود الثورة كما تنص عليها النظرية الكلاسيكية، فالنظرية الشيوعية الكلاسيكية تعتقد بأن الثورة سوف تبدأ في الدول المتقدمة صناعيا لأن الطبقة العاملة فيها أكثر تقدماً ووعياً وتنظيماً ونضوجاً من الطبقات الأخرى، لذا فإنها سوف تكون طليعة الثورة الشيوعية وعمودها الفقري في تلك الدول.
إن سياسة الاتحاد السوفياتي في تلك الفترة كانت تصب في دعم ومساندة تلك القوى العاملة في الدول الصناعية للقيام بالثورة المنتظرة والقضاء على النظام الرأسمالي العالمي، وكان التركيز على الدول الصناعية في غرب أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لأن الطبقة العاملة فيها كانت قوية ومنظمة في أحزاب شيوعية وحركات يسارية نشطة ومدعومة من قبل الحركة الشيوعية العالمية بقيادة الكومنترن، ولكن هذا التصور لم يتبلور على أرض الواقع ولم تحدث الثورات التي كانت متوقعة وحتمية كما كانوا يعتقدون.
إن هذين السؤالين، اللذان كانا يعول عليهما هما: هل ستندلع الثورة في الدول المتقدمة صناعيا أم في مكان آخر؟ ومن هي القوى التي سوف تقوم وتقود الثورة؟ أن هذين العاملين كانا السبب في الانشقاق ألذى حصل للحركة الشيوعية العالمية والذي أدى الى إيجاد حركتين شيوعيتين متنافستين، واحدة في موسكو وأخرى في بكين، والتي أدت إلى انشقاقات وصراعات بين ألأحزاب ألشيوعية في العالم حيث أن هذه الأحزاب بدأت تنقسم في تفكيرها وتضطر إلى اختيار أحد النهجين للوصول الى الهدف المطلوب وهو اشعال الثورات والسيطرة على أنظمة الحكم.
أما الحركة الشيوعية العراقية فكانت وبأستمرار تتبع الخط السوفياتي في تفسير وتطبيق النظرية الماركسيه الينينيه فى سياساتها الداخلية والخارجية ولم تستطيع تفسيروتطوير النظرية الماركسية اللينينية لتتلأئم مع واقع المجتمع العراقي.
إن فتره انتصار الثورة البلشفيه في عام 1917، بقيادة لينين قد أوجد مساحة محدودة من الحرية بين منظّرى الثورة ورفاقهم السوفييت وبين العديد من المفكرين الشيوعيين الأجانب الذين توجهوا الى موسكوبعد انتصار الثورة عام 1917، لدعمها والأشتراك في بناء الاشتراكية الجديدة. وفي خضم هذه الأحداث وألنقاشات طرحت وجهات نظر متباينة عن التوجه التقليدي الشيوعي وخصوصا عن كيفية اندلاع الثورات وقيام النظم الشيوعية، ومن هي الجهة او الجهات المؤهلة والقادرة على إشعال الثورة وقيادتها ضد النظام الرأسمالي، ومن أبرز هؤلاء المنظرين الذين طرحوا خيارات مغايرة عن التوجه التقليدي كان الشيوعي الهندي م. ن. روي M.N.Roy وميرزا سلطان علييف من القوقاز. لقد طرحت هاتين الشخصيتان أفكارا تختلف عن الفكر الشيوعي السوفياتي والذي كان يرجح قيام الثورة في الدول المتقدمة صناعيا حيث طرحوا فكرة دعم الحركات الثورية المناهضة للاستعمار في كل من الهند والدول الإسلامية وألدول الخاضعة للأستعمار الغربي بدل دعم الطبقة العاملة في الدول الصناعية، لأن الدول الخاضعة للأستعمار الغربي ترزخ تحت ضل نظامين استغلأليين أولها النظام الاستعماري الغربي المتسلط على هذه الدول والنظام الأقطاعي المحلي المستغل للشعب، وأكدا بان شعوب هذه الدول سوف تتجاوب بصورة أكثرفعالية للثورة ضد مستغليهم الغربيين والمحليين، وأكد سلطان علييف بأن هذه الدول هي أضعف حلقات السلسلة في النظام الاستعماري العالمي ويجب دعمها لأن جماهيرها سوف تلبي نداء الثورة اسرع من عمال الدول الصناعية الغربية للحصول على استقلالها أولاً وإيجاد نظام اقتصادي اشتراكي عادل ثانيا.
وأنتقد سلطان علييف الاعتقاد ألسائد لدى الكثير من الشيوعيين بأن الطبقة العاملة في الدول الصناعية هى التي سوف تكون السباقة في القيام بالثورة وهو اعتقاد خاطئ حسب رأيه لأن الطبقة العاملة في هذه الدول سوف لا تتجاوب ولأ تلبي نداء الثورة الأممية ضد نظم دولهم القومية لأن حسهم القومي هو أقوى من حسهم الأممي، لذا فان وجهة نظر هؤلاء المفكرين هي في دعم القوى الثورية في دول المستعمرة بدل دعم عمال الدول الصناعية للقيام بالثورة ضد النظام الاستعماري الرأسمالي العالمي.
إن الأجواء المفتوحة نسبياً التي أعقبت الثورة البلشفية في عام 1917، استمرت لفترة قصيرة ولكنها توقفت كلياً بعد وفاة لينين في عام 1924، وعندما سيطر ستالين على الحزب الشيوعي السوفياتي قام بحملة قمع وتطهير شملت جميع المفكرين والمعارضين لأفكاره، وبدء ستالين يركز على إنجاح الشيوعية في بلد واحد بدلاً من ثورة شيوعية عالمية مستمره كما فضل الكثير من مناوئيه وتمت تصفية العديد من هؤلاء الشيوعيين ومن ضمنهم سلطان علييف حيث تم إعدامه بعد سنوات قليلة من وفاة لينيين.
إن هذه المراجعة السريعة للأفكار المطروحة من قبل الحركة الشيوعية العالمية عن كيفية القيام بالثورة ومن هي القوى التي سوف تقودها، انعكست على مسيرة الحركة الشيوعية العراقية.
بدأ نشاط الشيوعيين العراقيين بالظهور في منتصف العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي بتأسيس حلقات دراسية ماركسية في كل من بغداد، والناصرية، والبصرة ومدن أخرى، وكان من أبرز شخصيات هذه الحلقات في بغداد حسين الرحال، عوني بكر صدقي، ومحمود أحمد السيد ومصطفى على وأصدروا جريدة سياسية باسم “الصحيفة”. اما في الناصرية فبرز اسم يوسف سلمان يوسف (الملقب فهد) والذي أصبح لاحقاً من أبرز قادة الحركة الشيوعية وسكرتير اللجنة المركزية للحزب وقد تم إعدامه لأحقا من قبل النظام ألملكي عام 1949.
استمرت هذه الحلقات بنشاطها لفترة قصيرة إلى أن قرر أعضاؤها تأسيس لجنة مكافحة الإمبريالية والاستغلال وأصبح السيد عاصم فليح أول أميناً عاماً لها، وبعد فترة وجيزة قررت هذه اللجنة استبدال اسمها ليصبح الحزب الشيوعي العراقي، واختير يوسف سلمان يوسف أول سكرتيرا عاماً للحزب. أصدر الحزب أول صحيفة رسمية سرية باسم “اتحاد الشعب” ويعتبر يوم 31 آذار لعام 1934، يوم تأسيس الحزب الشيوعي العراقي.
أما برنامج الحزب لتلك الفترة فيتلخص بالنقاط التالية:
- القضاء على الإقطاع وتوزيع الأراضي على الفلاحين.
- الانسحاب من المعاهدات الاستعمارية ألمكبلة لاستقلال العراق.
- إجلاء جميع القواعد الأجنبية.
- منح الكرد حقوقهم القومية.
- بناء نظام ديموقراطي اشتراكي.
استمرت الحركة الشيوعية في عملها السياسي والتنظيمي السري لفترة طويلة بالرغم من الانقسامات الداخلية والانشقاقات المستمرة التي كانت تعصف بالحركة ولكنها أصبحت قوة سياسية يحسب لها حساب وتفرض واقعها على النظام السياسي العراقي وبالحقيقة فإن الحركة الشيوعية العراقية أصبحت من أقوى التنظيمات السياسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخصوصاً في عقد الخمسينات حيث أخذت المبادرة في تنظيم الجماهير والقيام بالمظاهرات والاحتجاجات ضد سياسات العهد الملكي وتحالفاته مع القوى الغربية وكان الحزب ألشيوعي من القوى الرئيسية التي ساهمت في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني المعارضة للنظام الملكي في عام 1957، والتي ضمت الأحزاب المعارضة كالحزب الوطني الديموقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي.
إن تشكيل جبهة الاتحاد الوطني في عام 1957، والاحداث السياسية التي سبقتها في عام 1956، وأهمها العدوان الثلاثي على مصر والمظاهرات التي قادتها الاحزاب المعارضة للنظام ألملكي في العديد من المدن العراقية، مهدت لقيام ثورة 14 تموز من عام 1958، والتي اطاحت بالنظام السياسي العراقي، وحررته من الهيمنة البريطانية ونفوذها في العراق.
لقد أعطت ثورة 14 تموز زخما كبيراً للحركة الشيوعية العراقية حيث سيطرت الحركة على الشارع العراقي في عامي 58 و59 واعتقد الكثير من العراقيين والمحللين السياسين الأجانب بأن العراق متجه الى أن يكون أول دولة شيوعية في العالم العربي. ولكن سياسات الحزب التي أتبعت والعنف الذي استعمل خلقت ردة فعل عنيفة ضد الحركة الشيوعية وكانت من الأسباب الرئيسية في فشله في السيطرة على النظام، بالإضافة الى عوامل أخرى منها:
- عوامل أيدولوجية حيث لم يستطيع مفكروا الحركة الشيوعية العراقية من تطوير النظرية الماركسية اللينينية لتتلأم مع واقع المجتمع العراقي.
- مواقف سياسية اتخذها الحزب على مر السنين والتى أثرت على شعبيته ونموه كما سوف نرى لأحقا في هذا التحليل.
- اتباع سياسات تنظيمية ركزت على الأقليات العرقية والدينية وأهملت الأغلبية العربية الفقيرة التي كانت ترزخ تحت نظام إقطاعي شديد، مما أثر في نمو هذه التنظيمات الشيوعية وانتشارها في المناطق المؤهلة لانتشارها.
- ألتركيزالتنظيمي على المدن وترك الريف الذي تسكنه الغالبية ألعظمى والفقيرة من افراد الشعب العراقي.
العوامل الأيدولوجية:
بلا شك فإن النظرية الماركسيه اللينينية في ذلك الوقت كانت نظرية جديدة وجذابة ولديها مؤيدين عديدين في مختلف بقاع العالم لأنها بشرت بقيام مجتمع جديد مبني على العدالة والمساواة وتوزيع الثروات، وهذه النظرية اكتسبت زخما مضاعفاً عند انتصار الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية والتي أدخلت عاملاً تطبيقاً على النظرية التي كانت مطروحة من قبل ماركس في القرن التاسع عشر ولكنها كانت غير مطبقة في اي جزء من العالم.
إن نجاح الثورة في روسيا في عام 1917، يعود الى عدة عوامل ومن اهمها هي أن القيادة الشيوعية بزعامة لينين كانت قيادة متميزه وقادرة واستطاعت ان تفرض نفسها على المشهد السياسي الروسي بالإضافة الى إنها طورت ألأفكار ألماركسية الينيينه لتتلائم مع المجتمع الروسي آنذاك. واتبع لينين النظرية الشيوعية التقليدية للقيام بالثورة باعتمادها على الطبقة العاملة والعاطلين عن العمل كطليعة للثورة وكما أن معارضة الحزب الشيوعي الروسي الشديدة لاستمرار الحرب العالمية الأولى كان عاملاً إضافياً مما زاد من شعبيتها و نجاحها لأن أكثرية الشعب الروسي بدأت تعارض الاستمرار في هذه الحرب المدمرة، وبالحقيقة فإن الجيش الروسي بدأ بالتمرد على قيادته بسبب الحجم الكبير للقتلى والجرحى وبدا يرفض الاوامر العسكرية واستدار من جبهة القتال والقى ثقله مع الثوار مما قدم عاملاً إضافياً لأنجاح الثورة التي قامت في العديد من المدن الروسية مثل موسكو وسان بيتسبرج وغيرها من المدن.
وبمقارنة بسيطة مع الحركة الشيوعية العراقية حيث الظروف كانت ايضا ملائمة لها ولكن قياداتها لم تكن على دراية عميقة بطبيعة المجتمع العراقي حتى تستطع استخدام النظرية الماركسية اللينينية لتتلأئم وتنسجم مع خصوصية المجتمع العراقي، بل استمرت في اتباع التفسير السوفيتي الكلاسيكي حرفيا والذي كان يخالف الواقع العراقي. إن إصرارهم على أن الثورة سوف تنطلق بقيادة الطبقة العاملة حسب التفسير السوفيتي باعتبارها أكثر وعياً وتنظيماً من بقية أفراد الشعب كان خطأ استراتجيا لأن المجتمع العراقي في تلك الفترة لم تتوفر لديه طبقه عاملة كبيرة وفاعلة ولأ نقابات عماليه منظمة يحسب لها حساب حتى تستطيع القيام وقيادة ثورة ضد النظام السياسي بل أن الشعب كان بأغلبيته يعيش في مجتمع فلأحي ريفي خاضع الى نظام أقطاعي صارم.
وفي مقارنة مع التفسير الصيني للماركسية ألينينيه، نستطيع أن نشاهد بأن قيادة الحزب الصيني، استطاعت استخدام هذه النظرية وتطوريها لتنسجم مع واقع ومتطلبات المجتمع الصيني والذي كان أيضاً مجتمعاً زراعياً أقطاعياً يشبه المجتمع ألعراقي آنذاك، ولكن القيادات الصينية استطاعت أن تغيّر الفكر ألماركسي التقليدي والذي يومن بان الثورة سوف تحدث في الدول الصناعية وبقيادة الطبقة العاملة ألى ثورة في بلد زراعي تقوده جموع الفلاحين الذين أصبحوا عماد الثورة الصينية واستطاعوا من الانتصار والسيطرة على النظام السياسي الصيني .
إن الحركة الشيوعية العراقية ومنذ تأسيسها كانت واستمرت تخضع لتأثير القيادة الروسية وتفسيراتها الأيدولوجية والسياسية وكانت التعليمات والتوجيهات ترسل الى الأحزاب الشيوعية في العالم اجمع ومن ضمنها الحزب الشيوعي العراقي من خلأل تنظيم الكومنترن وهو التنظيم العالمي للحركة الشيوعية والذي كان يقودها ويوجهها من موسكو، وعلى الأحزاب الشيوعية الأخرى تنفيذ تلك السياسات والتعليمات والسير في خط القيادة السوفيتية حتى ولو كانت هذه التعليمات مخالفة للتوجه الوطني لهذه الدول وحركاتها الوطنية.
إن هذه التعليمات والإرشادات أدخلت الحركة الشيوعية في تناقضات عديدة مع الخط الوطني في كثير من الدول ومنهًا العراق فمثلأ كانت الحركة الشيوعية العراقية مؤيدة لحركة رشيد عالي الكيلاني في عام 1941، والمدعومة من قبل القوى الوطنية الأخرى لأنها كانت ترغب في إنهاء النفوذ البريطاني من العراق وإجلاء القوات البريطانية منه، ولقيت حركة رشيد عالي الكيلاني تجاوبا كبيراً من قطاعات واسعة من الشعب العراقي وأحزابه السياسية ومن جملتهم الحزب الشيوعي العراقي الذي أصدر بيانات مؤيدة لهذه الحركة باعتبارها حركة وطنية مناهضة للاستعمار البريطاني.
لقد اعترفت الحكومة السوفياتية بحكومة رشيد عالي الكيلاني بعد ثلاث أسابيع من تشكيلها باعتبارها الحكومة الشرعية للبلاد وأيدتها في سياستها الخارجية ضد ألهيمنة البريطانية في ألعراق. أن التأييد السوفيتي لحكومة رشيد عالي ألكيلأني تغير تغيرأ كليا عندما شنت ألمانيا هجومها العسكري الكبيرعلى الاتحاد السوفياتي في عام 1941، حيث تغير موقف الاتحاد السوفياتي تجاه ألمانيا من دولة حليفة لها الى دولة معادية لها. إن هذا التطور انعكس على سياسات ألأحزاب ألشيوعية في العالم ومنها الحزب ألشيوعي العراقي، حيث أصبحت هذه الحرب حرب استعمارية يجب الوقوف ضدها وضد جميع حلفاء ألمانيا، أما الحركة الشيوعية العراقية فغيرت سياستها تجاه حكومة رشيد عالي وبدأت في مهاجمتا باعتبارها حركة فاشيه نازية متحالفة مع القوى المعادية للتقدم والمحبة للسلام.
كذلك فإن المواقف السياسية المتغيرة للاتحاد السوفياتي تجاه القضية الفلسطينية انعكس على موقف الحركة الشيوعية العراقية من القضية الفلسطينية وأثرعلى شعبية الحركات الشيوعية العربية بصورة عامة والحركة الشيوعية العراقية بصورة خاصة.
إن السياسات السوفياتية ولفترة طويلة كانت ضد الأستعمار البريطاني في فلسطين ومويدة لحق تقرير المصير للشعب الفسطيني وحقه في الاستقلال وكانت ايضا معادية للحركة الصهيونية منذ ضهورها باعتبارها حركة استعمارية مرتبطة بالاستعمارالبريطاني، وتعمل لخدمة المصالح الاستعمارية في المنطقة العربية. إن هذا الخط السياسي الواضح والمعادي للحركة الصهيونية أصبح السياسة الرسمية لجميع الحركات الشيوعية في ألعالم ومن ضمنها الحركات الشيوعية العربية وفي مقدمتها ألحركة ألشيوعية ألعراقية.
بلا شك فإن هذا الموقف من الحركة ألصهيونية كان محل ترحيب لدى الأحزاب الشيوعية العربية لكون القضية الفلسطينية كانت قضية محورية في السياسة العربية الرسمية والشعبية ولا يمكن لأي حزب سياسي عربي من اتخاذ مواقف مخالفة لحقوق الفلسطينيين في الاستقلال وانشاء دولة فلسطينية، ولكن الموقف السياسي السوفيتي تجاه الصهيونية بدأ بالتغيربعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأول اشارة لذلك كانت عندما ألقى اندريه جروميكو مندوب الأتحاد ألسوفياتي في الأمم المتحدة كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1947، حيث ذكر بأنه ليس من العدل تجاهل معاناة اليهود أو نكران حقهم في تحقيق حلمهم بإقامة دولتهم المنشودة، وأعقب هذا التصريح تصويت الاتحاد السوفيتي لصالح تقسيم فلسطين الى دولة فلسطينية واخرى يهودية بتاريخ 29 تشرين 1947، وكان ألأتحاد السوفيتي ثاني دولة بعد الولايات المتحدة التي اعترفت بدولة إسرائيل.
إن التغير الذي طرأ على سياسة الاتحاد السوفياتي تجاه القضية الفلسطينية انعكس على مواقف الأحزاب الشيوعية العربية ومنها الحزب الشيوعي العراقي حيث بدأت هذه ألأحزاب تتبع الخط السوفيتي وتدافع عن قرار التقسيم والذي انعكس سلبيا عليها. أما الحزب ألشيوعي العراقي فقد تبنى قرار التقسم كليا ولم يعترض عليه بل نظم مظاهرات في بغداد تأييداً للقرار وأصدر كتاباً مويدا للقراربعنوان “ضوء جديد على القضية الفلسطينية” جاء فيه أن معاداة الصهيونية تشبه إلى حد كبير معاداة الشيوعية وأن القوى الرجعية والإمبريالية تهدف إلى إثارة النزاعات والخلأفات وطالبوا الحكومات العربية بسحب جيوشها من فلسطين وايقاف هذه الحرب والتعاون مع القوى التقدمية في إسرائيل.
وبلا شك، فأن هذا الموقف الجديد للحركة الشيوعية العراقية من القضية الفلسطينية أثرتا ثيرا كبيرا على شعبية الحزب وتاثيره على الشارع العراقي في تلك الفترة لأن القضية الفلسطينية كانت من أهم القضايا التي يؤيدها ويدعمها الشعب العراقي وقواه الوطنية.
وبالإضافة الى المواقف السياسية التي ذكرت والتي أثرت على شعبية الحركة فان موقف الحزب الشيوعي السلبي من الوحدة العربية وخصوصا بعد ثورة 14 تموز كان عاملاً آخرا أثّر على شعبيته لأن موضوع الوحدة العربية أصبح مطلبا شعبيا لقسم كبيرا من الشعب العراقي الذي طالب بالأنضمام الى الجمهورية العربية المتحدة في عام 1958، والتي ضمت كل من مصر وسوريا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر.
إن موقف الحركة الشيوعية العراقية الرافض لهذه الوحدة وطرحها مشروع الاتحاد الفيدرالي في محاولة لكسرهذا التوجه لأعتقادها بانها سوف تستطيع السيطرة على النظام السياسي العراقي ولأ ترغب في التخلي عن هذه السيطرة ان تمت الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة. إن هذا التوجه السياسي كان عاملأ رئيسيا في الصراع المرير والدموي الذي حصل بين القوى المويدة للوحدة العربية والمعارضة لها والذي ادى الى شق الحركة الوطنية العراقية واضعاف حكومة الثورة.
إن هذه المواقف السياسية كانت عوامل مهمة في انخفاض شعبية الحركة الشيوعية في الشارع العراقي.
كذلك فان الطرق التنظيمية التي اتبعها الحزب قد ساهمت ايضا في عدم انتشاره بين الجماهير العراقية. لقد اعتمد ألحزب في تنظيمه على النظرية الشيوعية الكلأسيكية بان الطبقة العاملة هي الطبقة التي سوف تقود الثورة، وهذا التوجه قاده للتركيز على تنظيم الطبقة العاملة، علما بان الطبقة العاملة العراقية كانت محدودة العدد في تلك الفترة، ولا تملك وعي طبقي ولا تنظيم سياسي قوي، وليست واعية ومهيّئه للقيام بثورة شيوعية. لقد ترك الحزب الشيوعي العراقي الطبقة الفلأحية التي كانت الطبقة الاجتماعية الكبيرة والمعدمة، والخاضعة لنظام إقطاعي مستغل، فلو تم التركيز على هذه الطبقة الفلاحية لكان من الممكن ان تكون النتائج أكثر ايجابية الى انتشار الفكر الشيوعي بين الفلأحين وقيامهم بثورة ضد النظام ألأقطاعي كما حدث في الصين عندما قاد الفلأحون الثورة ألشيوعية التي تكللت بالنجاج بعد الحرب العالمية الثانية.
كذلك فإن السياسة التنظيمية الأخرى التي أضرت بالحركة الشيوعية هي تركيزها على الأقليات العرقية والدينية ولم تركزعلى ألأغلبية العربية في جنوب ألعراق وألتي كانت موهلة لتقبل الفكر الشيوعي أكثر من الطبقات الأخرى باعتبارها الطبقة الفقيرة الكادحة والمسحوقة اقتصاديا من قبل الأقطاع.
إن تركيز الحركة على ألأقليات الدينية والعرقية (الكردية، المسيحية، اليهودية، والصابئة) انعكس على تمثيلهم في اللجنة المركزية للحزب التي هي اعلى جهاز حزبي انذاك مما ادى ولفترات طويلة من سيطرة الأقليات على اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كالمسيحي، يوسف سلمان يوسف الملقب بفهد، واليهودي شليموا دلال، ويهودا إبراهيم صديق. إن قيادة شليموا دلال ويسف صديق للجنة المركزية تمت في اوج الصراع مع الصهيونية في الأمم المتحدة والذي تمخض بقرار تقسيم فلسطين في عام 1947. هذه الأسباب التي ذُكرت كانت عوامل مهمة في عدم نمو الحركة ألشيوعية في ألعراق الى المستوى الذي يؤهلها لأستلأم السلطة في ألعراق.
الخلاصة:
إن تجربة الحركة الشيوعية العراقية هي تجربة سياسية مهمة وطويلة حيث بلغ عمرها أكثر من نصف قرن من تاريخ العراق الحديث ولكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها على الرغم من الظروف ألسياسية والاقتصادية التي كانت ملائمة لها في ذلك الوقت.
لم تتمكن الحركة من السيطرة على النظام السياسي العراقي لأسباب عديدة ولكن أهمها هو عدم استطاعتها تطوير النظرية الماركسية اللينينة لتتلاءم مع واقع ومتطلبات الشعب العراق. إن إصرارهم على أتباع التفسير الكلاسيكي للنظرية الماركسية اللينينية بان الطبقة العاملة هي القوى الموهلة والقادرة على القيام بالثورة لم يعكس الواقع العراقي ليس فقط في عدم وجود طبقة عاملة كبيرة ومنظمة وقادرة على قيادة ثورة شعبية بل أهمل الطبقة الفلاحية الفقيرة المعدمة والموهلة للأستجابة لنداء التغير والثورة والتي لو تم التركز عليها لكان من الممكن نجاحها.
أما العوامل الأخرى التي أعاقت الحركة الشيوعية في العراق فترجع اسبابها الى مواقف سياسية وتنظيمية اتخذتها الحركة والتي سببت في اعاقتها وعدم اتتشارها واهمها تايدها لقرارتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب الذي اقرته الأمم ألمتحدة في عام 1947، والذي كان ضد توجهات الحركة الوطنية العراقية المرفوضة من غالبية الشعب العراقي، وبالإضافة الى ذلك فان التذبذب في الموقف السياسي تجاه حركة رشيد عالي ألكيلأني بين تايدها في البداية كحركة وطنية مناهظة للأستعمار البريطاني والوقوف ضدها عندما تغير موقف ألأتحاد ألسوفياتي بسبب الهجوم الألماني عليه وتحالفه مع بريطانيا مما انعكس سلبا على الحركة الوطنية والذي فسر من قبلها كخضوع للتوجيهات من قبل الكومنترن والحركة الشييوعية العالمية ضد تطلعات ومصالح الشعب العراقي. كذلك فان وقوفهم بشدة وعنف ضد مشروع الوحدة العربية بعد نجاح ثورة 1958، كان سبب آخرا في عدم شعبيتهم ونجاحهم في السيطرة على النظام السياسي العراقي.
أما السياسات التنظيمية التي اعاقت نموالحركة الشيوعية وانتسشارها فترجع الى تركيزهم على الطبقة العاملة المحدودة العدد وتركهم الطبقة الفلأحية المحرومة والموهلة للانضمام الى الحركة الشيوعية والذي أدا الى التركيز على العمل الحزبي في المدن وترك الريف الذي كان موهلأ لتقبل أفكار الحركة الشيوعية، كذلك تركيزهم على الأقليات الأثنية والدينية (الأكراد، ألصابئة، أليهود والمسحيين) مما اعطى انطباعا سلبيا بانها حركة لخدمة الأقليات ضد أغلبية الشعب العراقي.
إن مسيرة الحركة الشيوعية العراقية الطويلة والتي بدات من اوال ثلأثينات القرن الماضي كانت من اهم الحركات السياسية التي اثرت على مجرى الحياة السياسية العراقية لفترة طويلة وأن الكثير من المفاهيم والقيم التي طرحتها لأ تزال موثرة في الحياة السياسية العراقية لحد الآن.