الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

اشكالية الحدود بين العراق وإيران

الجزء العاشر

الحدود قبل الإسلام

أ – في العهد السومري

واجه العراق بمختلف العصور ومع كل الدول التي نشأت فوق ترابه، تحديات خارجية كبيرة، فيما يتصل بحدوده البرية واستقراره وأمن سكانه وسلامة ممتلكاتهم من التهديدات لا سيما القادمة من جهة الشرق، أي مما يسمى اليوم بدولة إيران، ويبدو أن هذه العقدة التاريخية لا ترتبط بدين أو مذهب أو بنظام حكم أو بظرف معين، بل هي عقد تأصلت هناك، نتيجة الشعور بضعف التجربة الإنسانية والمدنية قياسا بما هو حاصل في بلاد ما بين النهرين، وكانت تعبر عن نفسها كلما أتيحت الفرصة للكيانات الحاكمة في فارس للتدخل، فتأخذ في أحيان كثيرة شكل غزو للحواضر العراقية القديمة، وعادة ما تحصل تلك التحرشات، عندما تشعر بلاد فارس الدولة أو القبائل المستوطنة فيها، بأن الحكم في بلاد الرافدين صار في أسوأ درجات الضعف أو شغلته مشاكله الداخلية عن مواجهة الأخطار الخارجية، وأنها باتت قادرة على إلحاق الهزيمة بالدول القائمة في العراق القديم.
لكن حالة الضعف سرعان ما كانت تنتهي، ويسترد العراقيون قوتهم فيطردوا الغزاة من أرضهم، لكن العقدة لم تجد لها حلاً راسخاً حتى الآن، ولم تنفع معها الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية أو التي تعقد بوساطة طرف ثالث، ما لم تشعر إيران أنها إزاء بلد يمتلك قوة سياسية وعسكرية واقتصادية، تمكّنه من التصدي لأية محاولة للاعتداء على أراضيه، ولعل التعرف على تاريخ العلاقات بين بلاد الرافدين وبلاد فارس، منذ القدم وحتى اليوم هو الذي يعطي الدليل القاطع على هذه الرؤية.
كان سرجون الأكدي قد تغلب على دويلات سومر الصغيرة، وأسس منها ومما جاورها من مدن وإمارات صغيرة، امبراطورية موحدة قوية، تمتد من أرض العيلاميين في الشرق، إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط في الغرب، واتخذ من أكّد عاصمة له والتي توسعت كثيرا حتى شملت دولا أخرى غير العراق، ولكن ما واجهه الملك الأكدي نرام سين (2319–2255 ق.م)، والذي ينظر إليه على أنه من أعظم القادة الأكديين ممن جاءوا بعد سرجون الأكدي، من خطر القبائل التي كانت تستوطن المرتفعات الجبلية مثل قبائل (لولوبو) و(الكوتي)، يعد من أخطر التحديات التي واجهت الأكديين، والتي كان مصدرها الأساس جبال زاكروس إلى الشرق من وادي الرافدين، وجرّد نرام سين حملة عسكرية قوية على قبائل لولوبو، حقق بها نصرا حاسما خلّده في منحوتة على جبل قرة داغ في محافظة السليمانية.
وبعد وفاة نرام سين جاء ابنه شاركليشاري (2254– 2230ق.م) واستغل ملك عيلام (بوزور انشوشناك) ذلك، وأعلن استقلال بلاده عن الامبراطورية الأكدية، وألغى استعمال اللغة الأكدية وأحلّ محلها اللغة العيلامية، وتضافرت عوامل مختلفة على سقوط الدولة الأكدية من بينها وصول عدة ملوك ضعفاء بعد ابن نرام سين شاركليشاري، وكذلك نشاط الأقوام الجبلية المتخلفة مثل الكوتيين، الذين تمكنوا من النزول من المرتفعات الجبلية، إلى السهول والمراكز الحضارية ومنها العاصمة، وامتدت دولتهم من 2230 إلى 2120 ق.م، وخلال العهد الكوتي الذي تميز بالانحطاط والتخلف على كل المستويات، توقف البناء والاعمار وغاب الانتاج الثقافي والفني والفكري.
وما حصل مع الكوتيين حصل مع جميع الأقوام التي سكنت إلى الشرق من العراق، وتميزت بالتخلف وعانت كثيرا من تأثير الحضارة العراقية، كالعيلاميين والكيشيين، فقد تأثرت هذه الأقوام بالحضارة العراقية، واقتبست منها الفنون والعمارة والكتابة المسمارية، ولكنها ناصبتها العداء في الوقت نفسه، نتيجة عُقد الدول المتجاورة التي كانت تستشعرها تجاه بعضها البعض وخاصة تلك التي تنظر إليها على أنها أكثر منها رقيّاً، ولم تحاول التعايش والتواصل معها في تلاقح حضاري إنساني، يمكن أن تنعكس إيجابياته على الإنسانية جمعاء، وتنصرف إلى العمل المشترك ولتقام ركائز البناء، بدلا من أن تتعمق خنادق القتال بين جيران مكتوب عليهم التعاون لا الاحتراب الأبدي، حتى ليبدو وكأن هذه المنطقة ما وجدت وما وجد سكانها إلا ليتقاتلوا ولن يتعلموا غير هذه اللغة.


ب – في العهد البابلي
على الرغم من عدم وجود دول قوية في بلاد ما بين النهرين بصفة مستمرة، إلا أنه كانت هناك دويلات مدن، تتنازع فيما بينها على الأراضي الخصبة والمياه ومناطق الرعي، ومن أجل التوسع، مدفوعة بطموح ملوكها لتوسيع رقعة دولهم، ولكنها لم تنجح في إقامة سلطة مركزية واحدة، إلا على يد عدد من الملوك الأقوياء، ولكنها سرعان ما تنفرط مرة أخرى، إما نتيجة لوصول ملوك ضعفاء أو لصراعات بين الأمراء الذين يطمح كل واحد منهم بالملك على حساب أشقائه، أو الأمراء المنافسين له، من داخل القصر وبدعم من الحاشية، أو لاشتداد الهجمات التي تشنها الأقوام المتخلفة التي تسكن إلى الشرق من العراق، ويمكن تأشير أسماء أهم الملوك الأقوياء الذين أقاموا دولاً مركزية قوية بعد أن قوضوا أركان دويلات المدن، وهم على التوالي (لوكال زاكيزي من 2400 إلى 2371 ق.م) و (سرجون الأكدي من 2371 إلى 2316 ق.م) و(أورنمو من 2113 إلى 2095 ق.م) و(حمورابي من 1792 إلى 1750 ق.م) و(آشور بانيبال من 668 إلى 627 ق.م) و (نبو خذ نصر من 604 إلى 562 ق.م).
كان العراق تحت حكم دول المدن قبل أن يصبح دولة واحدة أو في دولة مركزية، وكان رمزا للضعف والصراعات التي أثارت عليه طمع جيرانه، وجعلته هدفا لغارات القبائل المتخلفة التي كانت تسكن إلى الشرق من حدوده، وكانت أرضه السهلية الخصبة وتوفر المياه الوفيرة فيها للزراعة، سببا في شن تلك الغارات على أراضيه، وحاولت دول المدن درء الخطر عن نفسها بوسائل مختلفة، ولكن ثبت بالدليل الملموس أن النزاعات بين دول المدن، وصراعها فيما بينها على الأراضي السهلية الأكثر خصوبة، وعلى المراعي والمياه العذبة، هو الذي أغرى الأقوام القادمة من شرقي العراق، لشن هجماتها والتي كانت تحقق بعض النجاحات أحيانا وتخفق أحيانا أخرى، ولو كانت هناك سلطة قوية بصفة مستمرة وقادرة على الدفاع عن أرض العراق، لما كررت الأقوام القادمة من الشرق، محاولاتها للعبث بما حققه العراقيون من نجاحات وتقدم في معظم مناحي الحياة، وخاصة في العلوم والفنون والآداب.
كانت أولى الغزوات التي تعرض لها العراق في تاريخه القديم قادمة من الشرق، وظلت هذه الحقيقة ماثلة للعيان حتى يومنا هذا، وكانت إيران كلما تتماسك في دولة مركزية قوية، كانت ترنو بنظرة طامعة في أرض العراق، فواصلت تحرشاتها ببلاد ما بين النهرين، وقضمت منها كثيرا من الأراضي نتيجة ضعف الدول التي قامت فوقها، ولم تقف أطماعها عند حد، حتى اتخذت من المدائن عاصمة لأكاسرتها، ونتيجة أطماعها بأرض العراق فقد تواطأت مع يهود ما يُسمى بالسبي الذي جاء به نبوخذ نصر، لاحتلال بابل ومن ثم إحراقها.
إن ضعف سلطة سلالة أور الثالثة (2027– 2003ق.م) مكّن العيلاميين من غزو العاصمة أور واحتلالها وإحراقها عام 2003 ق.م وانتهت سلطة تلك السلالة، في ذلك العام الذي يمكن أن يؤشر لدينا مؤشرا مؤلماً، لأن في العام 2003 بعد الميلاد جاء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا وشاركت فيه إيران، بقوة لا يمكن أن تتمكن من إنكارها مهما بذلت من جهد حتى تم احتلال العراق.
نتيجة ما يعتمل في نفوس العيلاميين من أطماع في بلاد الرافدين، فقد نجحوا في إثارة أسباب الفتنة والانقسام بين دول المدن الأمورية من أجل إضعافها وتحقيق أهدافهم فيها، ولكن مجيء الملك أشبي – ايرا (1959-1927ق.م) مؤسس سلالة أيسن ودخوله في صراع مرير مع العيلاميين، انتهى بانتصاره عليهم وطردهم من مدينة أور، وبسبب حجم الهزيمة التي لحقت بهم فإنهم لم يحاولوا بعد ذلك تحدي مدن السهل الرسوبي من العراق لزمن طويل جدا، لكن الأخطار القادمة من الشرق لم تنته أبدا طالما ظلت الأطماع بأرض العراق، تتأجج في صدورهم بخيراته وثرواته، وطالما استشعرت القوى المسيطرة في بلاد فارس أنها قادرة على شن الحروب، وتحقيق بعض المكاسب فيها.
وكما هو الحال في الوقت الحاضر، فإن بلاد عيلام كانت تدعم بعض الممالك الصغيرة في بلاد الرافدين، واستمر الحال على هذا المنوال حتى جاء الملك البابلي الكبير حمورابي (1792-1750 ق.م) والذي حقق انتصارا كبيرا على أمراء المنطقة وضم مدنهم إلى مملكته المركزية، والتي مدت سيطرتها على الشرق الأدنى القديم بأسره، واستمر العهد البابلي القديم من سنة سقوط أور سنة 2003ق.م إلى سنة 1595ق.م، وكان العيلاميون يُمدون أعداء حمورابي بالمساعدة، فأرسل إليهم جيشا دحرهم وأدبهم عام 1774 ق.م، ولقد أثارت هذه الهزيمة في نفوس العيلاميين الكثير من أسباب الغضب المكبوت والضغينة، ولما لم يكن بوسعهم التصدي لدولة موحدة وقوية في بلاد الرافدين، فقد بذل العيلاميون كل ما في طاقتهم من أجل إضعاف بلاد الرافدين وضرب ركائز وحدتها، فقدموا السلاح لبعض دويلات المدن للانفصال عن الدولة الموحدة التي أقامها حمورابي، وما أشبه الليلة بالبارحة.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى