الحدود في عصر الدولة العربية الإسلامية
منذ هجرة الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بدأت ملامح الدولة الإسلامية بالظهور والتطور على الأرض، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي ينظم العلاقة بين المخلوق وخالقه سبحانه، ويحدد المباحات والممنوعات على المسلم، والعبادات التي عليه أن يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو أيضا الذي رسم مسار العلاقات بين المسلمين أنفسهم ومعاملاتهم مع بعضهم، وبين المسلمين من جهة، وسائر أتباع الديانات الأخرى من جهة ثانية، مع كل ما يتطلبه من وضوح في الحقوق والواجبات، بما في ذلك ما شرّعه الله في سورة الممتحنة من حقوق عن عقود الزواج، التي تم التفريق فيها بين الزوجين بسبب الاختلاف في الدين وانتقال أحد طرفيه إلى المدينة المنورة مهاجرا بدينه.
نشأت دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وكان نفوذها يتعاظم نتيجة لدخول الكثير من أهل المدينة في الإسلام، بعد أن أصلح بين الأوس والخزرج، وكانت القبائل العربية بما فيها قريش تأتي الرسول صلى الله عليه وسلم لتبايعه، وتدخل في الدين الجديد، وتنضم إلى دولة الإسلام الآخذ بالانتشار، وكانت الحدود المعنوية للدولة الجديدة تتسع مع الوقت، كلما دخلت قرية أو قبيلة في الدين الجديد من داخل الجزيرة العربية، لكن الدولة أخذت بالاتساع الجغرافي مع الفتوحات الإسلامية، ولم تمضِ إلا بضع سنين، إلا وكانت الجزيرة العربية كلها تستظل براية الدين الخاتم للرسالات السماوية، وبعد أن انتقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وخلَفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ارتدّت قبائل عربية في أطراف الجزيرة العربية عن الإسلام، لم يكن الإيمان قد ترسخ في ضمائر أبنائها، فقاتلهم أبو بكر، حتى دانت الجزيرة العربية مرة أخرى لسلطة الدين الجديد، وتفرغت الدولة الجديدة لنشر الإسلام على تخومها جنوبا حيث اليمن، وشمالا حيث العراق وبلاد الشام، ولدرء خطر التهديد الخارجي، إذ كان العالم القديم في ذلك الوقت، تتنازعه امبراطوريتان، هما الدولة الرومية والدولة الفارسية، وتملكان الكثير من أسباب القوة، وفرغتا للتو من حربين، انتصر في الأولى الفرس، وفي الثانية انتصر الروم:
كما ورد في سورة الروم (بسم الله الرحمن الرحيم ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم *) صدق الله العظيم، فوجدت القبائل العربية وخاصة في العراق والشام، في الدين الجديد، فرصتها للتخلص من السيطرة الأجنبية، ومن تحويلها إلى مصدات أمامية في حروب الفرس والروم، التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، ومن الظلم الواقع عليها والاضطهاد الذي تتعرض له، فوجه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جيوش الفتح إلى بلاد الشام، فخاضت معارك فاصلة ضد جيوش الدولة الرومية، التي تفوق جيش المسلمين في العدة والعدد، وكانت اليرموك خاتمتها، والتي كنست الوجود الرومي من بلاد الشام.
استمرت المعارك في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي شهدت خلافته المعارك الأخيرة في جبهة العراق وبلاد الشام وتم فتح بيت المقدس الشريف، ومصر حتى وصلت إلى بلاد المغرب العربي، وانتهت معارك العراق بتطهير المدائن في معركة القادسية وتحرير العراق، واستمرت مطاردة جيوش الفرس، حتى مقتل يزدجرد آخر أكاسرة الدولة الساسانية الفارسية سنة 31 هـ، بعد معارك طاحنة استمرت سنوات عديدة وانتهت في معركة النهروان، وبذلك خضع العراق كله وبلاد الشام بأسرها وبلاد فارس، لسلطة الخلافة في المدينة المنورة، وأصبحت هذه الأقاليم كلها جزء من إقليم الدولة الإسلامية الواحدة، التي لها عاصمة واحدة ويحكمها خليفة واحد.
استمرت الفتوحات في عصر الدولة الأموية، وخاصة في خلافة الوليد بن عبد الملك، حتى وصلت حدود الدولة العربية الإسلامية، من الصين شرقا إلى الأندلس غربا، ويمكن ملاحظة أن الدولة الاسلامية الفتية، وهي لما تزل محدودة الموارد البشرية والمادية، فتحت جبهتين في وقت واحد مع أكبر امبراطوريتين في ذلك الوقت، الفارسية في الشرق والرومية في الغرب، فأزالت الأولى من الخارطة السياسية، وحجمت مكانة الثانية حتى تم فتح عاصمتها القسطنطينية، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح في 29/5/1459م، بعد حصار للمدينة استمر 53 يوما.
إن الدولة الإسلامية كما هو معروف كانت إقليما سياسيا واحدا، يخضع لسلطان خليفة واحد، استنادا لحديث نبوي شريف يقول( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما)، وحديث ثان للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هو (إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما)، وهذا الحديث هو الذي صان لزمن طويل، وحدة الأمة ووحدة قرارها، فالحدود لا وجود لها كما هو الحال بين الدول القائمة حاليا، والتي كانت جزءً من دولة واحدة، كالدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية، وكان الإنسان بصرف النظر عن أصله ودينه ولونه، يتحرك في هذه الدول المترامية الأطراف، ويُقيم في أرجائها حيثما شاء، من دون أن يُقدم أوراقاً ثبوتية أو طلباً إلى أحد.
ولكن يمكن تسجيل استثناءين مهمين في التاريخ العربي الإسلامي، مهدا الطريق لاستثناءات لاحقة، وضعت حدا لوحدة الدولة الإسلامية سياسيا، وأسهمت في تفكيكها إلى دويلات، وكيانات أخذت طابع الاستقلال عن مركز الخلافة، ومع الوقت أصبحت دولا لها حدودها المقدسة، من وجهة نظرها والتي تدافع عنها، بل أنها كرست لنفسها، هوية وطنية تتناقض مع الهوية القومية والدينية، ودخلت في نزاعات على الحدود مع الدول التي كانت معها جزءً من إقليم دولة واحدة، وهذان الاستثناءان هما:-
الأول:- الدولة الأموية في الأندلس، والتي أقامها عبد الرحمن الداخل الذي تمكن من الافلات من قبضة العباسيين، وتوجه عبر شمال أفريقيا حتى وصل إلى الأندلس، التي كانت قد فتحت على يد موسى بن نصير، وطارق بن زياد في خلافة الوليد بن عبد الملك، ولم تلتحق الدولة التي أقامها الداخل، بالدولة العباسية التي قامت في العراق على أنقاض الدولة الأموية في الشام، لأسباب لا مجال لذكرها في هذا الموضوع، واقام الداخل في الأندلس ملكا عظيما امتد لثمانية قرون، لا يرتبط بمركز الدولة العباسية في بغداد، وعلى الرغم من أن هذه الدولة عاشت عصرا كبير التأثير على التلاقح الثقافي والمعرفي بين الحضارة الإسلامية وأوربا المسيحية، بل ونقلت إليها مشاعل التنوير والمعرفة من فلسفة وفنون وآداب وفن العمارة الأندلسية المتميز عن سواه من أشكال العمارة، وساهمت جامعاتها في نهضة أوربا وإدخالها عصر الصناعة، إلا أنها لم تتمكن من حماية نفسها من السقوط في نهاية المطاف.
الخلافة في الأندلس لم تعلن في بادئ الأمر، ولكن اعلانها تم في عهد عبد الرحمن الناصر لضرورات محلية، وكان من الناحية العقائدية، مسّاً جوهريا في وحدة الإقليم السياسي للدولة الإسلامية.
الثاني:- خرجت الدولة الفارسية الصفوية على الدولة العثمانية، ودخلت معها في صراعات حادة لأسباب مذهبية وعرقية، إضافة إلى عوامل الصراع على النفوذ والثروة والتوسع في أراضي أقاليم الدولة العثمانية المترامية الأطراف، ويمكن تسجيل أول حالة صدام بين الدولتين 1515م، على أثر اعتداءات الشاه إسماعيل على أراضي إمارة (علاء الدولة) في الأناضول، واستيلائه على ديار بكر وخربوط، فأمر السلطان العثماني بايزيد الثاني ابنه شهزادة السلطان سليم، الذي كان واليا على طربزون بالتقدم نحو بلاد فارس، وقد صادفه النجاح في حملته العسكرية، وجَرّت هذه المعركة حروبا طويلة دارت بين الدولتين سجالاً، ولم يحقق أي منهما نصراً حقيقيا، بحيث يضع حدا لحروب لم يدفع العثمانيون والفرس ثمنها فقط، بل دفع العراقيون أكبر ضرائبها، فقد كان العراق ساحة لمعارك ساخنة بين الطرفين، ظل النصر فيها يتأرجح ويتنقل من طرف إلى آخر، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تواطأت فارس مع أوربا المسيحية ضد الدولة العثمانية، عندما كانت جيوش الدولة العثمانية تحاصر مدينة فيينا عاصمة النمسا، فاضطرت الدولة العثمانية لسحب جيوشها من أوربا، بعد حصول تهديد جدي لحدودها الشرقية والجنوبية من طرف الدولة الفارسية، مما أضاع على الإسلام فرصة الانتشار في أوربا، وكان الشاه طهماسب قد استغل ابتعاد الجيش العثماني عن جبهة الشرق، وانشغاله في حروبه الأوربية، فاستولى على أذربيجان مجددا وواصل تقدمه حتى وصل إلى أرضروم، مما أدى إلى إعادة توزيع جيوش الدولة العثمانية، في ضوء هذا التطور الجديد، وبعد انحسار الوجود العثماني هناك، لم ينته الصراع مع فارس إلا بإسقاط الدولة العثمانية، بتحالفات عقدتها الدول الكبرى الرئيسة في ذلك الوقت، وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا.
وفي ضوء هذين الاستثناءين، يمكن اعتبار أن ما قاله عقبة بن نافع حينما خاطب المحيط الأطلسي بقوله (يا بحر الظلمات والله لو أني أعرف أن وراءك يابسة لخضتك بخيولي هذه حتى ترتفع كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله فوق المعمورة)، أو مقولة طارق بن زياد لجنده (العدو من أمامكم والبحر من ورائكم وما لكم والله إلا الصبر والثبات)، او مقولة الخليفة العباسي هارون الرشيد مخاطبا سحابة مرت فوق قصره (أمطري حيثما شئت فخراجك عائد إلي)، تجسيدا لنظرية حدود الدولة الإسلامية، التي لم تكن لتعرف حدوداً سياسية لدولة الخلافة، عندما كانت تستند على وحدة الدولة، وقوة مركز الخلافة الإسلامية على حساب الأطراف، ربما يمكن القول بذلك، فالإسلام دين أممي ورسالته موجهة للعالمين استنادا إلى الآية الكريمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
غير أن الدولة العربية الإسلامية، لم تتمكن من مواصلة مسيرتها بنفس قوة الدفع التي بدأتها، مما يحصر تلك المقولات في نطاق المبادئ السامية والنوايا والبرامج التي لم يكتب لها التطبيق، بسبب ما اعترى بنية الدولة العربية، من فساد في آخر أيامها، “على ما قاله كثير من المؤرخين، مع أنني أرى أن أولئك المؤرخين، أغفلوا ثلاثة عوامل جوهرية، ساهمت في اسقاط الدول قديما وحديثا، منها تضافر جهود أطراف معادية، رأت في قدرة الدول المتنامية القوة، تهديداً جديا لنفوذها، كما فعل بابا كنيسة الفاتيكان، عندما حشّد جهود الدول المسيحية ضد الدولة الإسلامية في الحروب الصليبية، ومن ثم في الحروب التي أعطاها طابع القدسية، ضد الدولة الأموية في الأندلس، وكذلك الشعور بالحنق التي تحمله بعض الشعوب، على الإسلام لأنه هدم أركان إمبراطورياتهم، كما هو الحال مع الفرس، وأخيرا المؤامرات الداخلية التي يُحيكها كل من تضرر من الإجراءات السياسية والاقتصادية، التي يُقدم عليها الخلفاء والأمراء”، فبعدما بدأ الضعف يسري في أوصال الدولة العباسية، في القرن الرابع الهجري، قامت إمارات متعاقبة في أوقات متقاربة، في مناطق مختلفة، كدولة البويهيين والسلاجقة والدولة الفاطمية والدولة الأيوبية والدولة الحمدانية، ولم تُرسم حدود فاصلة فيما بينها، أو بينها وبين مركز الخلافة الإسلامية في بغداد، والذي ظل رمزا للأمة وتلقى خطب الجمعة باسمه في مساجد الدولة، وكان هذا هو وحده مما تبقى من وجاهة لخليفة المسلمين وهيبة الدولة.
إن سيكولوجية نشوء الدول وفتوتها وقوتها ثم ضعفها، تستند على أساس واحد، هو أن الدول في بداية نشوئها، تعتمد القوة في تثبيت أركانها، ولكنها ومع دخول الحكام وولاة الأمور في مرحلة الاسترخاء، والبحث عن الملذات والركون إلى حياة القصور وما فيها من بذخ ورفاهية وطيب العيش، ودور النساء في التحكم بقرارات الملوك والسلاطين، وحرفها عن جادة الصواب، ثم ذهاب هؤلاء إلى عالم مشبع بالملذات، كل ذلك كان يؤدي إلى تسرب أسباب الوهن إلى الدولة ثم تصل إلى مرحلة الانهيار في نهاية المطاف.
إن سقوط مركز الخلافة العربية الإسلامية في بغداد عام 1258م، لم يَدع مجالا للتفاؤل بإمكانية عودة الدولة العربية الإسلامية الواحدة من دون حدود، فقد برزت إلى الوجود على تخوم الوطن العربي، دول تحمل موروثا معاديا للعرب بالدرجة الأساس، لقناعة ظلت تبني عليها أجيالها المتعاقبة ثقافيا وفكريا، بأن العرب مسؤولون عن تدمير امبراطوريات (الروم والفرس)، وما كان لمجدها أن يزول لولا الرسالة الإسلامية، التي حمل العرب لواءها بجدارة، ونشروها في كل الاصقاع والأمصار، ولهذا اختطت هذه الدول لنفسها نهجا عدائيا ضد العرب، ودأبت على اختلاق الأزمات مع الكيانات العربية التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية، فتم قضم أجزاء واسعة من الأراضي العربية، وضمها إلى دول كانت جزءً من الدولة العربية الإسلامية، وأصبحت دولا قوية وتحظى بدعم القوى الدولية الكبرى، مثل ما حصل مع إمارة المحمرة عندما اختُطفَ الشيخ خزعل بتواطؤ بريطاني مع شاه إيران وذلك في 20/4/1925م، مما أدخل المنطقة في حروب ونزاعات طويلة، نتيجة إطلاق يد إيران للاستيلاء على أراضي الغير، والتوسع على حساب الأراضي العربية، فقد منحت بريطانيا “الدولة الاستعمارية الأولى في ذلك الوقت” إقليم الأحواز العربي الذي تزيد مساحته على 370 ألف كيلو متر مربع لإيران.