الحدود في العهد العثماني
الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين بلاد فارس والدولة العثمانية (3).
معاهدة أرضروم الأولى لسنة 1823م
أثر قيام حرب عام 1822م بين الدولتين العثمانية والفارسية، والتي حاولت فيها قوات الدولة الفارسية، مضايقة المناطق الحدودية العثمانية والتوغل فيها، عندما كانت قوات الأخيرة في حالة اشتباك مستمرة في حروبها في أوربا، رأت الدولة العثمانية أن الانجرار وراء هذه الاستفزازات، سيؤدي إلى تشتيت قوتها العسكرية فإما تسحب قواتها من أوربا مرة أخرى لمواجهة القوات الفارسية، وتخسر فرصتها في جبهة أوربا، وإما تبقيها وتترك جبهة حدودها مع بلاد فارس، وتخسر المزيد من أراضيها لصالح الدولة الفارسية، فمالت إلى عقد معاهدة جديدة معها، وهذا ما حصل في عام 1823م، وهي معاهدة (أرضروم الأولى)، والتي أكدت ما جاء في معاهدة 1746م، كما أكدت المعاهدات السابقة واعتبرتها نافذة المفعول، فما هي مبررات عقد معاهدة جديدة، إذا كانت تعترف بالمعاهدات السابقة وتعتبرها نافذة؟ هل يتم ذلك لمجرد زيادة عدد المعاهدات الثنائية؟ أم أن هذا السلوك المعتاد من بلاد فارس يعد تعبيرا عن سوء نواياها تجاه العراق وباقي جيرانها، وحيثما تمكنت من تعديل الظروف السابقة، التي أرغمتها على توقيع معاهدة لم تلبِ لها شروطها؟ وتصميماً منها على التوسع في أراضيه؟ وضمها إلى حدود الدولة الفارسية، متى ما شعرت بأنها امتلكت القوة العسكرية اللازمة لدحر الدولة العثمانية؟ في حين أنها تتراجع متى ما شعرت أن الطرف الآخر أقوى منها، وقادر على إلحاق الهزيمة بها، أي أنها لا تفكر بعقلية الدول التي تعيش في حالة وئام وسلام مع جيرانها، استنادا إلى مبدأ المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، بل بعقلية العصابات المسلحة التي تذهب إلى خيار السلاح، عندما تشعر أنه يلبي لها ما تظن أنها قادرة على تحقيقه من أهداف.
لكن المعاهدة لم تعالج مشاكل الحدود بين الدولتين، حيث بقيت المشاكل عالقة بينهما دون حلول حقيقية ودائمة، فعلى سبيل المثال فإن المعاهدة لم تحسم قضية السيادة العثمانية على إقليم الأحواز العربي (عربستان)، كما أن الحدود الفاصلة بين مقاطعة ششتر الفارسية وولاية البصرة العراقية (العثمانية)، ظلت غير محددة بوضوح في المعاهدة المذكورة، وعدم الحسم هذا، أغرى الدولة الفارسية في التطلع نحو أرض العراق بطمع شديد عبرت عنه بصورة عملية وتصريحات علنية.
استمر الفرس باحتلال زهاب، التي كانت بموجب المعاهدة السابقة تابعة للدولة العثمانية، ومع ذلك فقد أكد الطرفان على مبدأ الصداقة بينهما، والتي ستبقى إلى الأبد، غير أن الوقائع، كانت تؤشر شيئا آخر لا صلة له بما جاء في هذه المعاهدة، وأن عبارات المجاملة التي تحتويها المعاهدات، ليست أكثر من نصوص يفرضها البروتوكول، فقد كان يجب عدم التدخل وبشكل خاص وبأي شكل كان، في شؤون ولايتي بغداد، وكردستان التابعتين للدولة العثمانية، ووضع شروط جزائية على الطرف الذي يُخل ببنود المعاهدة، وهذه الإشارة تكفي للدلالة على أن دولة فارس، كانت تضع بغداد عبر مراحل التاريخ المختلفة، على رأس قائمة المناطق التي تتطلع إلى ضمها إلى ممتلكاتها، استنادا إلى وجود عدواني لبلاد فارس عندما اتخذت من المدائن مركزا لدولتها التي أسقطها العرب في معركة القادسية، وهذا الأمر إذا نظر إليه من هذه الزاوية بالذات، فإنه لا يعطي حقا لإيران بعاصمة العراق، بقدر ما يؤكد الأطماع الفارسية التاريخية، ليس ببغداد فقط وإنما في العراق كله، فلماذا اختار الفرس المدائن عاصمة لملكهم؟ وهي ليست جزءً من بلادهم؟ لا سيما وأن مناخها لا يغري باختيارها عاصمة لدولة فارس، إذا ما عرفنا أن المناخ في فارس لا يشبه المناخ في العراق بأي درجة من الدرجات؟ ألا يدل ذلك على نيتهم بضمها إلى بلاد فارس؟ وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح على شعب يختلف عنهم في كل شيء؟ في التاريخ والأصل واللغة والدين والتقاليد والمناخ والبيئة الجغرافية.
إن حقبة تاريخية قصيرة من عمر التوسعات التي مرت على الامبراطورية الفارسية، لا يمكن أن تُعطيها حق المطالبة بأراض الغير، وإلا لكان من حق العراق المطالبة بكل الأراضي الواقعة بين حدوده الشرقية، وصولا إلى حدود الصين شرقا، من دول بما فيها إيران لأنها كانت تابعة لمركز الخلافة العربية، ثم لماذا لا تتنفس إيران بأطماعها التاريخية ولا تطالب إلا بالعراق؟ ولماذا لا تطالب بأفغانستان وأذربيجان وغيرها من المناطق التي كانت تحت سيطرتها لفترة من الفترات؟ الخارطة السياسية في الوقت الحاضر تعرضت لكثير من التغيرات التي حولتها إلى مِلْكية دول تمددت فوق أراضيها، على هذا فإن الاستناد على تفسيرات الحقب التاريخية الغابرة في رسم خرائط العالم، يهدد أمن العالم واستقراره لأنه مزيج من نتائج تمدد القوى الإمبراطورية التي حكمت العالم في وقت من الأوقات، ثم تفككت وتم تداول ممتلكاتها بين قوى جديدة وإمبراطوريات أخرى، سرعان ما خضعت لسنن الحياة بعد أن تسلل الوهن إلى مفاصلها الأساسية.
إن هذا السلوك الإيراني لا يمكن أن يكون شرعيا ولا قانونيا ولا أخلاقيا، إلا إذا سلّمنا بكل ما حصل في الماضي، سواء كان من حقائق التاريخ الغابر أم من النوايا المعطلة بالقوة المضادة، وبالتالي لتفرض نتائج سياسية على جميع الأقاليم التي مرت عليها، من هنا سيكون من حق العراقيين أن يطالبوا بقوة حقائق التاريخ السابق للدول التي سادت في بابل وأشور، بضم كثير من أقاليم الدول المجاورة لأنهم استقروا فيها ردحا من الزمن، يفوق ما بقيت فيه المدائن عاصمة للدولة الساسانية، أما إذا استندنا إلى الحقائق المتحركة للتاريخ، فإن العالم سوف لن يشهد استقراراً بين دوله وسترتفع المطالبات التي لن يحلها أي تشريع جماعي.
وتأسيسا على التجارب السابقة، شكك كثير من المهتمين بشؤون العلاقات بين العراق وبلاد فارس، بقدرة هذه المعاهدة على إرساء أسس الصداقة الحقيقية القائمة على أساس احترام الخيارات السياسية والاجتماعية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإنهاء حالة العداء والحرب بين الدولتين والتي استمرت بينهما حوالي ثلاثة قرون، وذلك من خلال قراءة متأنية، لما كان يصدر عن إيران من مواقف مع المعاهدات السابقة التي وقعتها مع الدولة العثمانية، وفعلا سرعان ما عاد التوتر إلى جانبي الحدود، وكان يفترض بهذا العدد الكبير من المعاهدات، أن يضع حدا لحالة العداء بين الجانبين، ولكن الواقع لم يكن بالصورة التي ترسمها نصوص المعاهدات، إذ لم يسجل تاريخ الاتفاقيات الحدودية بين أي دولتين في العالم، ذلك العدد الكبير مما تم توقيعه بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية باعتبارها ممثلة للعراق، لأنه كان جزءً من أراضيها، والدولة العراقية بعد استقلال العراق عن الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ولا بد أن تؤشر هذه الظاهرة الفريدة على أمر في غاية الأهمية، وهو أن إيران هي التي كانت على الدوام تخرق الالتزامات التي وقعت عليها، حينما كانت تجد أن موقفها السياسي والعسكري مواتٍ لها لتحقيق مكاسب أرضية على حساب العراق، ثم تتصرف بمرونة سياسية عندما تشعر بضعف قدراتها العسكرية، وهنا لا بد من القول إن المعاهدات الثنائية بين الدول المتجاورة التي تحمل هذا الموروث من عدم الثقة، لا بد أن تدفعها لتتسلح بقوة ردع كافية، لمنع خرق قواعد هذه المعاهدات، وإلا فأن تهديد الأمن، سيصبح هو القاعدة والسلام هو الاستثناء، وحينها لن يكون بوسع أحد أن ينظر باحترامٍ إلى المعاهدات الثنائية والإقليمية ولا إلى القانون الدولي، فالاتفاقيات الدولية بما فيها الموثقة لدى الأمم المتحدة، لن تجد لها ضمانة باحترامها من قبل أي طرف يشعر بالغبن، أو يعتقد أن وضعه السياسي والعسكري، بات يسمح له بتعديل شروط ما وافق عليه في اتفاقيات وقعّها في ظرف ضعف سابق.