الحدود في العهد العثماني
الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين بلاد فارس والدولة العثمانية (4).
معاهدة أرضروم الثانية لعام 1847م
وبرتوكول طهران 1911
في تلك الحقبة ظهر على المسرح السياسي الدولي عامل جديد، هو التنافس على منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى، التي كانت قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل، مرحلة الاحتلالات الكبرى شرقا وغربا، وكانت تسمى الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها، وكانت تمتلك أقوى أسطول حربي بحري في العالم في ذلك الوقت، جعل منها سيدة البحار في العالم، بدأ التنافس بينهما من أجل السيطرة على ثروات المنطقة، أو امتلاك أدوات ضاغطة على دولها، ولما كانت الدولة العثمانية والدولة الفارسية أكبر دولتين قائمتين في المنطقة في ذلك الوقت، فقد كان طبيعيا أن تتسابق الدولتان على ايجاد مناطق نفوذ لهما فيهما حيثما أمكن ذلك.
استمرت الدولة الفارسية بالتدخل في شؤون العراق الداخلية، بعد توقيع معاهدة أرضروم الأولى، وفي إثارة المشاكل مع الدولة العثمانية، وبممارسة سياسة تجهيل المجتمع العراقي واستغلال بعض العوامل المؤثرة فيه، وكانت تلك التدخلات كثيرا ما توشك أن تجر الطرفين إلى حروب طويلة، ولذا قررت الدولتان البدء بمباحثات جديدة من أجل عقد صلح (ثابت)، ترعاه روسيا القيصرية وبريطانيا، وفعلا تم التوصل إلى توقيع معاهدة أرضروم الثانية في 31 أيار سنة 1847م، والتي نصت على تنازل متقابل من كل منهما للطرف الآخر، عما يعتقدانه من التزامات مالية لكل منهما على الآخر، وفي هذه المعاهدة أصبحت منطقة زهاب من حصة الدولة الفارسية، وأصبح غرب تلك المنطقة من حصة الدولة العثمانية، أي أن المرتفعات الجبلية أصبحت تابعة لفارس، ومقابل ذلك تتنازل الدولة الفارسية عن أي ادعاءات في السليمانية ومنطقتها، وتتعهد تعهداً رسميا، بألا تتدخل في سيادة الحكومة العثمانية، واعترفت الدولة العثمانية للدولة الفارسية بصورة رسمية بسيادتها على مدينة المحمرة، ومينائها وجزيرة خضر (عبادان)، والمرسى، والأراضي الواقعة على الضفة الشرقية (اليسرى) من شط العرب، وقد نصت الاتفاقية على تشكيل لجنة مشتركة لتنفيذ بنود تلك الاتفاقية، غير أن ظروفا طارئة حالت دون إنجاز اللجنة المذكورة لمهمتها، وربما اختلقتها الدولة الفارسية كما كانت تفعل بصورة مستمرة، ولذلك ظلت المشكلة قائمة بين الطرفين، وهو ما دعا إلى توقيع بروتوكول طهران عام 1911م بين فارس والدولة العثمانية، والذي تم بموجبه تشكيل لجنة مشتركة جديدة تتخذ من اسطنبول مقرا لها، مهمتها تعيّن الحدود المشتركة بين الدولتين، وتثبيتها وفقا لما ورد في اتفاقية أرضروم الثانية، غير أن نوايا الدولة الفارسية في التوسع على حساب الأراضي العراقية، كانت تقف حائلا دون استجابتها لنصوص الاتفاقيات التي توقع عليها، وهذا هو الذي حدا بكل من بريطانيا وروسيا القيصرية، إلى التدخل والضغط على الطرفين من أجل توقيع بروتوكول الإستانة (القسطنطينية)، في تشرين الثاني/نوفمبر 1913م، والذي وقّعَ عليه ممثلا بريطانيا وروسيا القيصرية، تحت لافتة ضمان الالتزام ببنودها من قبل فارس، التي لم تسجل خلال التجارب السابقة التزاما بالمواثيق التي توقّع عليها، وإذا نظرنا إلى دخول روسيا وبريطانيا على خط الأزمة بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية، فإننا نستطيع القول بثقة، إن تدويل قضايا المنطقة “من الناحية القانونية”، قد بدأ من اللحظة التي وضَعَ فيها ممثلا روسيا وبريطانيا توقيعهما، على بروتوكول الإستانة لسنة 1913م.
تم بموجب بروتوكول الإستانة، تحديد الحدود بين البلدين بشكل واضح ودقيق، وحقق هذا البروتوكول لفارس مكاسب جديدة، تمثلت بتنازل الدولة العثمانية عن جزء من الأراضي العراقية، التي كانت ضمن إقليم الدولة العثمانية، فقد تنازلت الدولة العثمانية لفارس عن مياه شط العرب، الواقعة قبالة شاطئ المحمرة، لمسافة تزيد على سبعة كيلومترات، فأصبح هذا الخط ولهذه المسافة، هو الحد الفاصل بين العراق وفارس.
لقد كانت أرض ما بين النهرين ومنذ أوائل القرن السادس عشر، وحتى الحرب العالمية الأولى جزء من الدولة العثمانية، التي كان الغرب الأوربي يُطلق عليها اسم “الرجل المريض” في سنواتها الأخيرة، وكانت تفقد مع الوقت الكثير من أراضيها، نتيجة تسلل الضعف والوهن إلى جسدها المصاب بالشيخوخة، ولهذا لم تتمكن من الدفاع عن ممتلكاتها القديمة، والتي لا تنظر إليها نظرة وطنية خالصة، بل ترى فيها أقاليم تم ضمها بقوة السلاح إلى أقاليمها المترامية الأطراف، وعندما وجدت الدولة العثمانية أن بريطانيا كانت تقضم المزيد من الأراضي التابعة لها، وجدت أن أمن قواتها المشتبكة أو على وشك الاشتباك، يقتضي منها تقديم تنازلات لبلاد فارس في أراضٍ هي ليست ملكها أصلا، طالما أن ذلك التنازل سيحيّد الدولة الفارسية (حسب ظنها)، في المواجهة المفتوحة مع أعدائها على كل الجبهات، ولهذا يُنظر إلى اتفاقية (بروتوكول طهران) 1911م، على أنها محاولة عثمانية فاشلة لإقناع فارس بالوقوف على الحياد، في حرب كانت على وشك الاندلاع وتشارك فيها تركيا العثمانية ضد بريطانيا.
إن بريطانيا وروسيا القيصرية حين دخلتا على خط الوساطة بين الدولتين الفارسية والعثمانية، لم تكونا مدفوعتين بدوافع قانونية أو نوايا أخلاقية أو برغبة لحقن الدماء، وإنما كان كل منهما يسعى لتكريس مكاسب سياسية فورية ومصالح اقتصادية على المدى البعيد، خاصة وأن نفط مسجد سليمان والذي أضافته بريطانيا “بجرة قلم” إلى ممتلكات فارس، بدأ يوجه رسائل إغراء قوية للدول الاستعمارية، وذات الاقتصادات الكبيرة والصاعدة، والباحثة عن مصادر الثروة حيثما كانت، وعن أسواقٍ لتصريف منتجاتها الصناعية، التي تتعرض لمنافسة شديدة من جانب الدول الاستعمارية الأخرى، التي تبحث عن الأسواق نفسها وللغرض نفسه.
ومن قراءة سريعة للظروف التي كانت فيها الدولة الفارسية تُقدم على الغاء اتفاقية لم يمض على توقيعها وقت طويل، فأننا سنجد أن الأحداث الداخلية في بلاد فارس، مثل الانقلابات أو موت الملوك، أو حصول انشقاقات داخل العائلة وبروز رغبة من الطامح الجديد بالملك، كي يسجل لنفسه رصيدا داخل الحاشية من أجل استبعاد المنافسين، بالإضافة إلى نوازع التوسع والتمدد على حساب الغير، التي سيطرت على عقول حكام فارس وتوارثتها الأجيال منذ القدم، هو أحد الدوافع المهمة لخرق الاتفاقيات الثنائية، والبحث عن اتفاقية جديدة، تقدم فيها الدولة العثمانية، التي (لا تملك دافعا قويا للدفاع عن حقوق العراق)، تنازلات جديدة لبلاد فارس، لقد كان العراق ساحة الصراع المفضلة لدى الدولتين العثمانية والفارسية، فكان كل سلطان أو شاه يعتقد بقوة بلده، أو بثقة بنفسه لمنازلة الطرف الآخر، يخوض حروبه فوق أرض العراق، الذي كان ضحية وحلبة “مستأجرة بل مستباحة” لصراع طرفين لا يضمران له خيرا.