الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

الجزء الثاني

ما هو تعريف الحدود؟ يعرف قاموس مصطلحات القانون الدولي، الحدود بأنها (الخط الفاصل الذي تنتهي عنده سيادة دولة لتبدأ سيادة دولة أخرى)، ويرى عدد من الفقهاء أن مصطلح الخط limite ومصطلح الحد أو التخم تشكل مفهوم الحدود هنا.
والحدود فواصل طبيعية أو اصطناعية بين أقاليم مختلفة وهي دول في غالبيتها، ومصدر أهمية الحدود أنها الحد الذي تبدأ فيه سيادة دولة على إقليمها وتمارس سلطاتها عليه، ووراء هذا الحد تنتهي السيادة، والحدود الطبيعية هي الفواصل الجغرافية من جبال وأنهار أو بحار أو بحيرات، أما الحدود الاصطناعية فهي الخطوط التي ترى الأقاليم المتجاورة أنها تصلح فاصلا بين سياداتها .
ويتم تعيين الحدود بين الدول عبر الوسائل التالية:
1 – تحدد بصورة منفردة لفصل إقليمها عن المجال الدولي، وعادة ما يكون هذا في الحدود البحرية الفاصلة بين بلدين أو أكثر.
2 – التحديد الاتفاقي، ويتم ذلك عندما تعقد دول متجاورة اتفاقيات فيما بينها لهذا الغرض، وعادة ما يلعب الوعي السياسي والقانوني للدول دوره في تحديد أسلوب تعاملها مع ما يصادفها من أزمات مع جيرانها.
3 – تحديد الحدود عن طريق التحكيم القضائي الدولي، ويعتمد هذا الأسلوب عندما تصل الوسائل الأخرى لترسيم الحدود بالطرق الودية إلى طريق مسدود، وقد تدخلت محكمة العدل الدولية بناء على طلب ليبيا وتشاد لحل خلافها على حدودهما المشتركة، وأصدرت حكما بهذا الخصوص في 4/4/1994م.
4 – لكن تجربة العراق بعد انتهاء العدوان الثلاثيني الذي قادته الولايات المتحدة، وهو ما يُطلق عليه اسم حرب الخليج الثانية عام 1991م، أضافت طريقا آخر لترسيم الحدود بين الدول، بالتدخل المباشر لمجلس الأمن الدولي على خط الترسيم القسري للحدود بين الدول، فقد أصدر المجلس قراره المرقم 660 في 2 آب/أغسطس 1990م، والذي دعا في فقرته الثالثة العراق والكويت، إلى البدء فورا في مفاوضات مكثفة لحل خلافاتهما الحدودية، وأيد المجلس جميع الجهود المبذولة في هذا الصدد، وبوجه خاص جهود جامعة الدول العربية، ولكن المفاوضات لم تجرِ بين الطرفين أبدا، نتيجة الظروف التي مر بها العراق والمنطقة عموما وما مارسته الولايات المتحدة وحلفاؤها من هيمنة على القرار الدولي، ومحاولات عزل العراق من قبل الدول الكبرى التي شاركت في العدوان عليه، ومواقف بعض الدول الإقليمية وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك ما أفرزته “حرب الخليج الثانية” من نتائج، ولكن مجلس الأمن وبدلا من المضي في الخيار الذي أعلن عنه في قراره آنف الذكر، تعجل كثيرا بدوافع سياسية معروفة، وأصدر قراره المرقم 687 في 3 نيسان/ أبريل 1991م، بتشكيل لجنة لترسيم الحدود بين الجانبين، كان من غير الممكن في ظل تلك الأجواء الشائكة وممارسة دور دولي مدعوم بقرارات مجلس الأمن المنحازة إلى حكم القوة العسكرية الجائرة، أن تقف موقفا منصفا أو متطابقا مع الحق والعدل، وأصدرت توصيات ألحقت ضررا فادحا بحقوق العراق، وفرض مجلس الأمن الدولي مسار الحدود الذي أقرته اللجنة المذكورة، والمشّكَلة من قِبَلِه، في قراره المرقم 833 في27 أيار/ مايو 1993م، متجاهلا حقوق العراق، وفيه اجحاف كبير وتجاوز على أراضٍ عراقية لم تجرؤ الكويتُ على المطالبة بها أصلا في أي وقت من الأوقات، وخاصة خلال الأزمة التي نشبت بين الطرفين عام 1961م، حينما طالب اللواء الركن عبد الكريم قاسم بضم الكويت واعتبرها قضاء تابعاً للواء البصرة، وعيّن أميرها الشيخ عبد السالم الصباح بوظيفة قائممقام للقضاء براتب أسمي قدره خمسون دينارا أسوة بالموظفين العراقيين الذين يشغلون هذه الوظيفة.
فقرار مجلس الأمن الدولي المشار إليه، أسس لحدود جديدة، وألغى الحدود القديمة والتي كانت جزءا من المشكلة بين العراق والكويت، وجعل من الحدود الجديدة لغما أرضيا كبيرا قابلا للانفجار في أية لحظة، وجعل من الأزمة سببا في بروز نزاعات جديدة ومستمرة على الحدود عندما تتغير موازين القوى الدولية، فضلا عن أن مجلس الأمن عزل جامعة الدول العربية عن القيام بأي جهد في حل المشكلة، على الرغم من معرفتنا التامة بأن جامعة الدول العربية مجرد هيكل فارغ من أي مضمون إيجابي.
وعادة ما يتم ترسيم الحدود استنادا إلى الحقائق التاريخية القديمة للحدود، وهذا ما تم اعتماده في ترسيم الحدود بين السويد والنرويج بعد انفصالهما 1905م، عن الاتحاد الذي كان قائما بينهما، أو كما حصل في تجارب أخرى في أمريكا اللاتينية، حينما كانت هناك دولة واحدة ولكنها تقسمت إلى دول كثيرة كما حالها اليوم.
وقد تُعتمدُ الحدودُ الجغرافية الطبيعية في الفصل بين الأقاليم، وهي من أكثر الطرق وضوحاً وأقلها جلباً للمتاعب والاعتراضات، على الرغم من أنها كانت معتمدة منذ القدم إلا أنها ما تزال أيسر الطرق لترسيم الحدود بين الدول.
لم تكن للإمبراطوريات والدول في العصور القديمة حدود سياسية تفصل فيما بينها كما سائد هذه الأيام، بل كانت حدودها مفتوحة أمام رعاياها ورعايا الدول الأخرى سواء للدخول أو اٌلإقامة أو المرور ، ومع ذلك فإن الدول في الماضي كانت تحافظ بمختلف الطرق على مداخلها وخاصة الاستراتيجية، والتي قد تأتي منها أخطار من جيوش الأعداء، ولهذا كانت تقيم تحصينات عسكرية قوية وأبراجا للمراقبة، وعادة ما ترسم تلك الدول حدودها العسكرية وليست السياسية، بقدرة قواتها العسكرية لمنع اجتياحها من جانب أعدائها.
أما بواباتها المفتوحة للخارج على التوسع والوصول إلى أقصى نقطة تستطيع الوصول إليها، فتبقيها في حالة استعداد من أجل خروج جيوشها للغزو، وإخضاع سكان المناطق الأخرى التي قد تفكر بالخروج على إرادتها، وتسعى لتعزيز قدرتها على البقاء فيها من أراضي الامبراطوريات والدول الأخرى، صغيرها وكبيرها قويها وضعيفها، إذا ما تمكنت من البقاء فيها وصد أعدائها، أو الأراضي التي تمت السيطرة عليها والتي لم تكن خاضعة لسيطرة دولة أخرى، فالحدود السياسية للدول في الماضي هي الحدود العسكرية، والتي ترسم معالمها سنابك خيول الجنود الذين ينفذون أوامر قادتهم ولا يعرفون أرضا يتوقفون عندها، أو أهدافا محددة عليهم تنفيذها ثم التوقف عندها، أو العودة من حيث أتوا، إلا إذا تصدت لهم قوة تجبرهم على التوقف أو التقهقر، أو وجدوا أمامهم مانعا طبيعيا لا يستطيعون عبوره، أو صدرت لهم أوامر بالتوقف لحصول اضطرابات سياسية في بلدهم، أو لموت قائدهم أو جراء تفشي الأمراض الوبائية التي تفتك بالجيوش وتنهكها وتدمر قوتها المادية والمعنوية، ومن أجل التوسع كانت الدول تعد جيوشها إعدادا قويا وتنفق عليها الكثير من الأموال مما يتوفر لها في الداخل أو مما تستولي عليه من غزواتها، وتجند لها رجالها الأشداء حتى تستطيع تحقيق أهدافها، إن وجدت في قواتها القدرة على ذلك، أو أرادت درء الخطر الخارجي الذي يهدد أمنها وسلامة رعاياها وأراضيها.
كما أن الحدود بين الدول في الماضي كانت ترسمها المصالح المتباينة بل والمتصادمة، بين المجموعات السكانية من عشائر وقبائل وقدرة كل طرف على التوسع في الأرض الواقعة تحت سيطرة الدول الأخرى، ولو كان ذلك من خلال استخدام القوة مع الجهات والدول المنافسة لها، ولعل أهم دافع لتلك الصراعات هو الصراع على الثروات الطبيعية من مياه كالأنهار والينابيع والآبار، أو أراض زراعية ومراع وغابات وغيرها، بشرط توفر القدرة على حمايتها والدفاع عنها بوجه أطماع المجموعات الأخرى التي تسعى إلى ضمها إلى ممتلكاتها، ومع تطور هذه المجاميع إلى مجتمعات القبيلة الكبيرة والمدينة ثم الدولة، ومع تنظيم أمور الدولة وتأسيس الجيوش وبروز المشاعر الوطنية كقوة وفخر، أخذ الصراع بعدا جديدا وأوسع نطاقا من ذي قبل، حتى صارت البحار والأنهار والموانع الطبيعية الأخرى من جبال وصحارى وغيرها، هي الحدود المثالية بين دول العالم القديم لسهولة الدفاع وراءها، أما اليوم فإن تطور سلاح الصواريخ العابرة للقارات جعل من موضوع أمن الحدود مرتبطا باتفاقيات دولية، أكثر من ارتباطه بتحصينات وسواتر حدودية، بصرف النظر عن متانتها وارتفاعها، وجعل أي خرق لحدود دولة ما اعتداء على سيادتها، وتأسيسا على هذا الفهم الجديد لموضوع الأمن، تطورت الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول من أجل تنظيم العلاقات الدولية على أسس سليمة، بعيدا عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، ولكن هذه النصوص المثالية بقيت مجرد أحلام في عالم الخيال لا تعرف طريقا نحو أرض الواقع.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى