الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

الجزء الخامس

العلاقات الدولية في عصر دولة الرسول صلى الله عليه وسلم

أما المسلمون فقد قدموا اضافات مهمة في مجال العلاقات الدولية منذ ظهور الإسلام بدءا من القرن السابع الميلادي، وإذا ما أخذنا الرسائل التي كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قد بعث بها إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري، وإلى قيصر الروم على يد دحية بن خليفة الكلبي، وإلى المقوقس عظيم مصر على يد حاطب بن أبي بلتعة، وإلى كسرى أبرويز ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة السهمي، فيمكننا أن ننظر إليها على أنها إشارة قاطعة، على أن الإسلام ليس دين حرب، كما يزعم بعض المستشرقين الذين ما تزال كتاباتهم تحركها دوافع الكراهية، ليسيئوا للدين القيم، ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بل هو دين تواصل وعلاقات دولية مبنية على أسس راسخة من الاحترام المتبادل.
ومن دون جميع من أرسلت إليهم رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزق كسرى أبرويز رسالة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان نصها (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فاسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك)، فلما قرأ كسرى كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أيكتب إلي بهذا وهو عبدي( خسأ على قوله)؟ ذلك أن الفرس كما يقول ابن حزم، كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم، ومزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله عليه بقوله، يمزق الله ملكهم كل ممزق.
كما أن الحماية التي وفرها النجاشي ملك الحبشة للمسلمين الذين لاذوا ببلاده هربا من العنت الذي تعرضوا له بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، على أيدي رجال قريش بعد عدة عقود من غزو إبرهة لمكة المكرمة، هي التي حدت بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أن يأمر مجموعة من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة وقوله صلى الله عليه وسلم لهم، (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا)، وقد روى ابن هشام في سيرته ان النجاشي أحسن وفادة المسلمين، كل ذلك ما يؤكد أيضا حرص العرب المسلمين في اعتماد لغة الحوار والتفاهم مع القوى الدولية السائدة حينذاك، وإقامة أفضل الوشائج مع الدول الأخرى، وللإسلام نظرته الخاصة للعلاقات الدولية، ويستند على الآية الكريمة التي تعتبر أن بني البشر، متساوون عند الله، في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن اللون والعرق والدين، (بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليكم خبير) صدق الله العظيم.
إن رسالة الإسلام رسالة عامة لكل الناس وليس لأمة بعينها، مع أن القرآن الكريم، نزل بلسان عربي مبين على نبي قرشي عربي، (وما أرسلناك ألا رحمة للعالمين)، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى أليهم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، ليجمعهم في رابطة واحدة هي التوحيد، ومن المتفق عليه لدى الفقهاء المسلمين أن بلاد المسلمين واحدة حتى وإن تعددت أقاليمها.
إن صلح الحديبية الذي يعد أول اتفاقية وقعها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مع مشركي قريش والتي تعد أول اتفاقية وقعت في تاريخ الرسالة الإسلامية، تعد أساسا ناجحا لتنظيم العلاقات بين الأطراف المختلفة، وتؤكد المنهاج الإسلامي في الذهاب إلى خيار السلام، كما جاء في الآية الكريمة (بسم الله الرحمن الرحيم وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)، صحيح أنها لم تكن بين دولتين بالمعنى السائد حاليا، إلا انها وقعت بين دولة الرسول الناشئة، و(دولة قريش) الزائلة، ونزلت فيها سورة الفتح في آيتها الأولى (بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، ويمكن الافتراض أن تلك الاتفاقية التي اتسمت بكثير من المرونة السياسية، كانت من بين الأسباب التي عجلت بفتح مكة، لأنها ضمنت للمسلمين نشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية من دون تهديد من القبائل الأخرى، مما فتح آفاقا جديدة أمام انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وأتاح للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، المجال في كسب مزيد من الحلفاء والأنصار من بين القبائل، والقضاء على معارضة قريش وحلفائها، والتفرغ لبناء دولة المدينة، ومواجهة عداء اليهود للدعوة الإسلامية وإثارتهم الفتن داخل المدينة المنورة.
كما أن الصلح الذي عقده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، بين الأوس والخزرج بحيث أصبحوا نموذجا للتعاضد والتكافل بين المسلمين الأوائل في دولتهم الجديدة، بعد أن تركوا عصبياتهم القديمة وراء ظهورهم وما بينهم من ثأر، (بسم الله الرحمن الرحيم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، مما يعّد دليلا على المنهاج الذي يعتمده الإسلام في نبذ العصبية القبلية والتفاخر والتنابز بالألقاب، وتعد خطوات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هذه بعد أن استقر في المدينة المنورة، تنفيذا للآية الكريمة (بسم الله الرحمن الرحيم ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)، وترصيناً لجبهة دولته الداخلية وسد الثغرات التي يمكن ان يتسلل منها أعداء الرسالة.

لقد أدى انتشار الاسلام ووصوله الى جنوبي فرنسا، الى تكاتف الامم الاوروبية تحت اللواء الروحي لبابا الفاتيكان من أجل دفع هذا خطر الدين الجديد، وقد اصطدمت الكتلتان (الإسلام والمسيحية) في حروب متعددة ادت الى انقسام العالم الى قسمين، الدولة الإسلامية الفتية، وأوربا المسيحية، ولم يمنع ذلك الطرفين من اكتشاف كل منهما للآخر، والبحث عن قنوات حوار بين الإسلام والمسيحية، في عالم كانت فيه الحروب العقائدية قد انطلقت بأقوى ما تكون عليه، وربما تم اكتشاف المبادئ الانسانية التي يقوم عليها الإسلام، كما دلت الحروب التي خاض المسلمون غمارها، على أن المبادئ التي تحكمهما والتي جسدها المسلمون بإنسانية نادرة حتى مع الأشجار، عندما أوصى أبو بكر رضي الله عنه قادة جيوشه المتوجهة إلى جبهة العراق وجبهة الشام، بعدم الاجهاز على جريح أو قتل أسير أو قطع شجرة، وأوضح روح التسامح والعدالة الاسلامية، ومعاملة الاسرى، والأطفال، والنساء، والعجزة وهذا ما يؤكد متانة القيم التي بشر بها الدين الإسلامي الحنيف، وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تدلّ وتدعو الى حسن معاملة الأسرى، واللجوء الى السلم، وعدم شنّ الحرب إلا دفاعاً عن النفس، وعن ديار المسلمين، ولكن الحروب الدينية التي تعمد بابا الفاتيكان إشعال نيرانها، وتلقف دعوته ملوك أوربا الذين أرادوا توسع ممالكهم وممتلكاتهم باسم المسيحية وتحت راية الصليب، فتحوا بابا للصراع في أوربا بين الإسلام والمسيحية، وأخذ أبعادا أخطر مما كان سائدا، مع حروب قشتالة والقوطيين في الأندلس، ولم تنته حتى بعد خروج آخر ممالك العرب المسلمين من غرناطة عام 1492م، إذ سرعان ما اندلعت حروب جديدة لأهداف أخرى، ولكنها بين الممالك الأوربية نفسها.
من المتفق عليه بين غالبية فقهاء القانون الدولي، أن اهتمام الدول الحديثة بتنظيم علاقاتها على أساس واضح المعالم ومحدد الالتزامات المتبادلة، بدأ في أواسط القرن السابع عشر، نتيجة ما شهدته أوربا من حروب طويلة تزامنت مع عصر النهضة، وخاصة حرب الثلاثين سنة التي نشبت بين الدول الأوربية نتيجة للخلافات الدينية بين مؤيدي الكنيسة ومناهضيها، ولعوامل أخرى سياسية واقتصادية، ومن أجل التوسع في أقاليم ما وراء البحار، والبحث عن المواد الأولية، وانتهت بإبرام معاهدة وستفاليا عام 1648م.
وتعد معاهدة وستفاليا فاتحة عهد جديد في العلاقات بين الدول الأوربية وبدأت تأثيراتها تنتقل إلى العلاقات بين سائر الدول في شتى أرجاء العالم، وأشّرت لمرحلة جديدة من القانون الدولي، بوضعه الذي ظل قائما حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914م، والتي أوجدت قانونا دوليا جديدا، وإذا سلمنا بهذا فعلينا أن نسأل، هل كان العالم قبل هذا التاريخ يتحرك على نحو عبثي؟ أي لا توجد قواعد ملزمة تنظم علاقات الدول فيما بينها؟.
من القطعي أن العلاقات الدولية قديمة بِقدم وجود الدول نفسها، ولكن معاهدة وستفاليا هي التي نظمت أسس العلاقات الدولية، وفقا لقواعد جديدة، أملتها ظروف أوربا الخاصة، والتي كانت تشهد مرحلة نهوض ثقافي وفكري وعلمي وفني وصناعي وعلى كل الصعد، وجعلتها تتمسك بها لعدة قرون حتى نشوب الحرب العالمية الأولى، والتي كان من أبرز نتائجها أنها وضعت حدا لنفوذ البابا في ترأسه للدول الأوربية، وأنها أقرت مبدأ المساواة بين الدول جميعا سواء كانت كاثوليكية أو بروتستانتية، ملكية أو جمهورية، كما أقرت نظام السفارات الدائمة بين الدول الأوربية، ودعت إلى تطبيق مبدأ التوازن الدولي، كعامل أساس للمحافظة على السلم في أوربا.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى