الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين

الجزء السادس

اختلف فقهاء القانون الدولي في إيجاد تعريف واحد لمفهوم الدولة، ولكنهم اقتربوا من بعضهم البعض، حينما عّدوا الدولة مؤسسة سياسية، تقوم حين يقطن مجموع من الناس بصفة دائمة في إقليم معين، ويخضعون لسلطةٍ عليا تمارس سيادتها عليهم.
ووفق هذا التعريف يجب أن تتوفر للدولة مقومات ثلاثة، لا تستقيم إن فُقد أحدُها وهي:
1 – العنصر البشري
2 – العنصر المادي (الإقليم)
3 – العنصر التنظيمي

العنصر البشري
وهو مجموعة الأفراد الذين يعيشون معاً كمجتمع واحد، بصرف النظر عن اختلاف اللون والدين واللغة والمستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الطبقي، وهنا يكمن الفرق بين لفظ الشعب كمفهوم قانوني أو كمفهوم اجتماعي، ففي المفهوم الأخير يشترط لوجود شعب ما وحدة أفراده في العرق والتاريخ واللغة والدين والأماني، والمفهوم الاجتماعي هو الأقدم في الوجود من المفهوم القانوني للشعب، وكانت المجاميع السكانية من عشائر وقبائل تتنقل بحرية بين أقاليم جغرافية مختلفة من دون قيود، وتُقيم حيثما تُريد إذا وجدت أن ذلك في مصلحتها، ويؤمّن لها عيشاً أفضل وأكثر أمنا، وقد أدت التدخلات الخارجية في الوقت الحاضر من قبل الدول الكبرى، تحت لافتة حق تقرير المصير إلى تعريض وحدة البلدان وشعوبها، إلى خطر التقسيم والتحول إلى كيانات صغيرة متجاورة على كراهة، ومتصارعة على الحدود والمصادر الطبيعية، من ثروات سطحية أو في باطن الأرض، تعزيزا لمكانتها إزاء جيرانها، وتقوية لبنيتها احترازاً من كل الاحتمالات المتوقعة، إن العلاقات الدولية تشترط تطابقا في مفهوم الشعب بين لفظي الاجتماعي والقانوني، ففي مختلف دول العالم اليوم يعيش أكثر من شعب بالمفهوم الاجتماعي.

العنصر المادي (الإقليم)
لا بد لوجود الدولة من وجود إقليم، له حدوده المعلومة ويقيم فوقه شعبها، والإقليم هو بقعة الأرض التي بدونها لا يمكن أن يطلق اسم الدولة، وتمارس عليه سيادتها ويسوده سلطانها على المجاميع السكانية مهما كثرت، لأنها ستفتقد إلى أهم عناصرها وهو الإقليم.
الإقليم والحدود البرية: والإقليم هو بقعة محددة من الأرض لها حدودها البرية المعروفة، وهذه الرقعة المحددة (الحدود البرية) اكتسبت شرعيتها عبر احدى الوسائل التالية:
أ – تطور كيان القبيلة على نحو لا يمكن بدونه أن تعبر عن تطلعها المشروع للتحول إلى كيان سياسي، يأخذ تنظيما أوسع وأحدث من التقاليد المحدودة للقبيلة، والتي تتطلع بموجبها إلى دور يمتد إلى ما وراء منطقتها إلى مناطق مجاورة، وعادة ما تأخذ هذا الدور، القبيلة الأكبر في منطقة جغرافية واحدة لتضم إلى سلطتها القبائل الأصغر أو الأضعف، فتنشأ المدينة أولا، ثم تمر بمرحلة الصيرورة والتوسع حسبما يتوفر لها من رجال ومال لجلب القبائل الأخرى، أو لإخضاع المجاميع السكانية القريبة أو قهرها لتنضم إلى سلطة (المدينة الدولة)، التي ستتحول مع الزمن وعلى وفق ما يتوفر لها من شروط ذاتية وموضوعية، إلى دولة فتية ولكن لها قدرات الدولة الحقيقية.
إن نشوء الدول كان عبر التاريخ لحظة فاصلة في حياتها، وكان للأفراد الأكثر طموحا ووعيا والأكثر قدرة على القيادة، ويحملون مشروعا وطنيا، كان لهم الدور الأبرز والأكثر تأثيرا في نشوء الدول من العدم وتطورها فيما بعد.
ب – الاستيلاء: وهو إدخال الدولة في حيازتها المادية إقليما غير مملوكٍ لها أو لدولةٍ أخرى، وإخضاعه لسيادتها بالقوة العسكرية، أي أن بقعة الأرض هذه كانت إقليما مشاعاً قبل ذلك، فسارعت الدولة إلى ضمه إلى ممتلكاتها، وبعد الاستيلاء عليه أصبح جزءا من إقليم الدولة ويدخل ضمن حدودها البرية، بما فيه من سكان وثروات، وعلى ضوء هذا الاستيلاء تتعدل الحدود البرية للدولة الضامة، ولا وجود لهذا النوع من الأقاليم المشاعة في عالم اليوم، لأن عصر الاستعمار القديم والاكتشافات الجغرافية قد ولى، بل يفترض أنه ولى إلى غير رجعة، وأصبح العالم صغيرا أكثر مما ينبغي، نتيجة الرصد على مدار الساعة، لكل أجزاء الكرة الأرضية عبر الأقمار الصناعية، التي تحلق في الفضاء الخارجي من دون سيطرة إلا من الدولة التي تمتلكها، ولو كانت هناك أقاليم مشاعة لتعرضت للغزو منذ زمن بعيد، وعلى هذا يفترض بالاستيلاء أنه قد أصبح جزء من مخلفات الماضي، على الرغم من وجود شواهد كثيرة تؤكد استمراره، كما فعلت إيران مع إقليم الأحواز الذي احتلته إيران عام 1925م، بالتعاون والتنسيق مع بريطانيا، أو ما فعلته إيران أيضا مع الجزر العربية الثلاث التابعة للإمارات العربية في الخليج العربي، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، والتي احتلتها إيران في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1971م، بعد قرار بريطانيا الانسحاب من شرقي السويس، بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، أو كما فعل الصهاينة في فلسطين قبل ذلك في عام 1948م ، أو كما فعلت روسيا عندما احتلت جزيرة القرم وهي جزء من أراضي جمهورية أوكرانيا التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، أو جزر كوريل اليابانية، بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن إيران وإسرائيل تعرفان أن إقليم الأحواز والجزر العربية الثلاث وفلسطين، لم تكن في أي وقت أرضا مشاعة، وإنما كانت أراضٍ مملوكة ولها هويتها الخاصة، ومأهولة بالسكان وتعود لدول أخرى ومع ذلك نفذت غزوها لها، استنادا إلى منطق القوة العسكرية الغاشمة وخلافا لمبادئ القانون الدولي.
ت – التنازل: وهو على نوعين، إما بمقابل أي أن تبيع دولة ما جزءا من إقليمها لدولة أخرى، كما حصل بالنسبة للأسكا، عندما باعت روسيا القيصرية هذا الجزء من أراضيها للولايات المتحدة بثمن بخس، فأصبحت ولاية من الولايات الأمريكية فيما بعد وتمددت حدود الولايات المتحدة إلى محاذاة الحدود الروسية في أقصى الشمال الغربي لكندا، على الرغم من أن كندا تفصل بين الأسكا وبقية الولايات الأمريكية، وعلى الرغم من أن اعتراضات جدية قدمتها السلطة التشريعية الأمريكية على هذه الصفقة، والتي اعتبرتها صفقة خاسرة في حينها إلا أن الإدارة الأمريكية تمسكت بالصفقة، وقد اضطرت روسيا عليها اضطرارا بسبب ضائقة مالية حادة مرت بها.
لقد أعطى الوضع الاستراتيجي للأسكا، للولايات المتحدة مزية فريدة في اطلالتها الجغرافية المباشرة على روسيا، مع كل ما يحمله ذلك من مزايا عسكرية نادرة، وسيطرتها الكاملة على جزء مهم من شمال شرقي المحيط الهادي والقطب الشمالي، هذا غير الثروات الطبيعية الهائلة التي يحتويها جوف الأسكا مما لم يستثمر حتى اليوم.
وإما من دون مقابل أو بتبادل قطعة أرض بقطعة أخرى، مما يدخل تعديلات ملموسة على الحدود البرية كما حصل بين العراق والأردن بموجب المعاهدة رقم 17 لسنة 1984م والتي وقعت في 19/3/1984م، والتي نصت على إعادة ترسيم الحدود بين البلدين استنادا إلى اتفاقية الحدود لعام 1932م، وبموجب الاتفاقية الأخيرة تم تبادل أراضٍ بين البلدين.
أو تبادل يعطي فرصة لإطلالةٍ بحرية للدول غير البحرية، أو نتيجة لعوامل سكانية ترتبط بالعرق والدين، وعادة ما يحصل مثل هذا الأمر بين الدول المتجاورة لفك اشتباك أو تعديل مسار الحدود أو لتقاسم الثروة.
ث – الفتح أو الاحتلال: وهو إخضاع دولة ما كلاً أو جزءً، لإقليم دولة أخرى نتيجة احتلالها بواسطة القوات المسلحة، وضمه إلى ممتلكات الدولة الغازية، لكن هذا الاسلوب لم يعد قائما، وغير مشروع أبدا على الأقل من الناحية الشكلية، كما جاء في عهد عصبة الأمم (م 10) وأكده ميثاق الأمم المتحدة (م 2 / 4) مع أن هذين العهدين لم يتم احترامهما من قبل الدول الكبرى، عندما اعترفت بقيام دولة إسرائيل، بعد سنوات طويلة على صدور عهد عصبة الأمم، وبعد ثلاث سنوات على تأسيس الأمم المتحدة، ولا يعتد القانون الدولي بسعة رقعة إقليم الدولة، فهناك دول كبيرة مثل روسيا وكندا والولايات المتحدة والصين والهند، وهناك دول مساحة إقليمها صغيرة جدا مثل البحرين وجيبوتي، على الرغم من أن الدول تسعى للمجد والتوسع في حدودها والرفعة في مكانتها بين الدول الأخرى، وبالتالي فإن الدول الصغيرة لا تستطيع المحافظة على كيانها واستقلالها في عالم الكبار، أو تجد في ذلك صعوبة بالغة، ولذلك يُولي العالم في وقتنا الراهن، اهتماما كبيرا للحدود المعترف بها بموجب معاهدات أو وثائق دولية، مع أن المساحة وعدد السكان في أحيان كثيرة يضيفان قوة إلى الدول الكبيرة، ولا تكفي اتفاقات الهدنة لتحديد إقليم الدولة، وعلى العموم فإن الدول الصغيرة المساحة والسكان تبحث عن اتفاقيات ومواثيق مع دول أخرى، مجاورة أو بعيدة لضمان استقلالها وسيادتها.
ج – الانفصال: ويؤدي انسلاخ بعض الأقاليم من دولة واحدة نتيجة الصراعات السياسية والدينية والعرقية والمذهبية، إلى قيام دول جديدة ترسم حدودها بحساسية أعلى من الحساسيات القائمة بين الدول المتجاورة فعلا، ويمكن أن تجر هذه الحساسيات إلى حروب عرقية أو دينية أو على الثروة أو الإطلالة البحرية، أو للفصل بين مكونات متباينة حصل الانفصال بسببها، كما حصل بالنسبة لشبه القارة الهندية التي ما تزال تعاني من مشاكل حدودية مستعصية، وكذلك الحال بالنسبة لدولة تيمور الشرقية التي انفصلت عن اندونيسيا، وكذلك الحال مع دولة جنوب السودان التي انسلخت عن السودان رسميا في تموز 2011، والخلافات بينهما تهدد باندلاع نزاع مسلح على منطقة أبيي المنتجة للنفط ومناطق أخرى ذات ثروات طبيعية كبيرة.
لم يعرف العالم في الماضي، الحدود المرسومة بنفس درجة الوضوح الذي تعرف به في الوقت الحاضر، بل إن الحدود بين الدول والامبراطوريات كانت تأخذ طابعا اعتباريا صرفا، فلا نقاط حدودية بينها، ولا جيوش ترابط بين الدول إلا في حالة استعداد إحداها للغزو، أو التوسع مما يستدعي تأهبا في الدولة الأخرى، ولا مراكز للجوازات والكمارك، حتى بدأ التطور بطيئا في رسم الحدود ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه في الوقت الحاضر، بسب الافتقاد إلى المعدات الحديثة التي تساعد على مسح المناطق الحدودية تمهيدا لرسمها، أو لأن التداخل بين مختلف دول العالم وعدم وجود النقاط الحدودية المدنية الفاصلة بين الدول، إضافة إلى العدد المحدود لهذه الدول من جهة ومحدودية عدد سكانها من جهة أخرى، كان يجعل من ترسيم الحدود أمرا في غاية الصعوبة، وعدم تنظيم وثائق التنقل من بلد إلى آخر كما هو حاصل في الوقت الحاضر، كل ذلك كان يعني أن حدود الدول إنما ترسمها القوة المسلحة والقادرة على حمايتها، أو البحار بالنسبة للدولة الجزيرة والدول البحرية أو العوارض الطبيعية الفاصلة بين الدول، فليس كل دول العالم قادرة على بناء أسوار حولها كما فعلت الصين، ثم أن سور الصين الذي يخترقها من وسطها، لم يُبنَ من أجل أن يكون حدا بينها وبين دولة أخرى، وإنما تم بناؤه كخط دفاعي لحماية كيانات ودول قامت وراءه، وجاء بناء الولايات المتحدة لجدار من الكونكريت على حدودها مع المكسيك، لأهداف غير عسكرية، ويهدف إلى منع الهجرة غير الشرعية من دول امريكا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، وكذلك الحد من تهريب المخدرات.
ولعل أكثر بلد في العالم بحاجة إلى بناء جدار حدودي فاصل، ويشبه سور الصين العظيم ويفوقه ارتفاعاً، وبعرضه ومنشآته لأغراض الرصد والمراقبة، هو العراق المستهدف من جاره الشرقي، ليضع حدا لكل أشكال التسلل التخريبي وتهريب السلاح وعبور الارهابيين، وتهريب المخدرات والبضائع المختلفة، مما يؤدي إلى إرباك الاقتصاد الوطني العراقي، ويؤثر على الانتاج المحلي زراعيا وصناعيا، ذلك أن إيران تعتمد سياسة إغراق أسواق البلدان المجاورة والقريبة، وخاصة العراق بالبضائع الرديئة والرخيصة، بهدف القضاء على كل نشاط اقتصادي وطني.
إن هذا الجدار لو أقيم، سيضع حدا للهجرة غير المشروعة من إيران إلى العراق، ومنه إلى دول أخرى، وأرى أن يباشر ببنائه فور تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي الإيراني، وزوال الحكم الخاضع لهيمنة إيران، وأن يبدأ خط هذا الجدار من أول متر في مثلث الحدود العراقية التركية الإيرانية، وحتى آخر نقطة في الجنوب، مع الأخذ بنظر الاعتبار، الصفة المؤقتة لجزء الجدار المقام على المناطق الفاصلة بين جنوبي العراق وإقليم الأحواز العربي المغتصب.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى