فجر يوم الأربعاء الثالث والعشرين من كانون الثاني 2002 خرجت من قاعة الاجتماعات المغلقة الملحقة بفرع أبي جعفر المنصور في منطقة اليرموك قرب ساحة النسور، إلى عالم الحرية لأول مرة منذ عشرين عاما إلا شهرين، ولأول مرة شعرت بأن بإمكاني مغادرة أي مكان والانتقال منه إلى أي مكان آخر بملء إرادتي وحريتي، ومن دون إشارة أو زجر من أحد، ومن دون أن تمتد نحوي يدٌ جلاد إيراني تحمل سوطا من الكيبلات الكهربائية الغليظة، أو أصفادا تكبلني لمنعي من الحركة أو تضع عصابة على عيني لتعزلني عما يحيط بي، ثم ليبدأ بعد ذلك حوارٌ بين تلك الأسواط وأجساد الأسرى المتعبين بدَنياً، كان هذا أول اختبار عملي لمعنى استردادي لحريتي، ويا له من إحساس غامر وجارف ولذيذ بدُنيا جديدة من دون قيود أو قلق من مجهول يتربص بي في كل لحظة، ومع ذلك مضيت أيضا بإرادة أخرى، هي إرادة زوجتي التي كانت قد وقعّت على استلامي من فرع الحزب، ولولا توقيعها ما كان بوسعي الخروج بحرية، ولو كان هذا وحده ما شعرت به في ذلك الوقت، ربما كان سيغرقني في لجة من سعادة لا يشعر بقيمتها إلا من تم تَقييدِ حركته بصورة تعسفية حاقدة ثم وجد القيود قد تكسرت والجدران قد تهدّمت، لا يمتلك الإيرانيون غير الكراهية والبغضاء تجاه العرب وخاصة العراقيين الواقعين تحت سلطتهم، فحريتي إذن ما تزال مقيدة، مع فارق بين السجّان الإيراني الذي يضمر لي ولبقية الأسرى حقدا يعبّر عنه بين آونة باللسان والتدابير الرادعة حيناً وباليد معظم الأحيان، وبين زوجتي التي اعتبرتها لعدة لحظات مثل سجان رحوم ودود ومحب ومتلهف لرؤيتي بعد انتظار طويل وممض، ولكن هذه الرؤية كانت تتبدد مع الوقت.
عندما خرجت من باب القاعة لسعتني نسمات هواء بارد تجاوزت جلدي فاستقرت في عظامي، ضاعفت من تأثيرها المؤذي قطرات الماء النازلة من السماء بلا انقطاع لتبلل ملابسي الإيرانية والتي لو كنت املك عنها بديلا لرميتها عند معبر المنذرية كما خلعت حذائي هناك، لم أكن أرغب بأي شيء يذكرني بإيران، وها هي ملابسي تكاد تُعصر بعد أن بذلت جهدا من أجل تجفيفها في قاعة فرع الحزب ولم أنجح تماما، لم يشأ أحد من رفاقي السابقين في المقر والذين لم أتعرف على أحد منهم، أن يتبرع لي بقمصلته العسكرية، ولو بكلمة عابرة من لسانه، مع أن كثيرا منهم رأوني مرتديا ملابس عسكرية إيرانية صيفية وفوق ذلك كانت مبللة، والقمصلة “هي جاكيتة من قماش شمعي متين وسميك ويشبه النايلون في قدرته على عزل المطر، ومبطنة بالفرو الصناعي”، ولو فعل أحدهم ذلك ولو من باب تسجيل موقف، ربما كنت سأرفض أن يخلع القمصلة ويبقى نهشا لبرد لا يرحم صغيرا ولا كبيرا.
كانت زوجتي قد ركنت سيارتها بعيدا عن بناية الفرع، لأن الجموع المحتشدة كانت قد احتلت الساحة الأمامية على سعتها، ولما كان خروجنا من المبنى مختلفاً تماما عن دخولنا إليه، لأن الحافلة التي جلبتنا من جلولاء اقتربت كثيرا من البوابة الرئيسية للفرع، فقد اضطررت للمسير بين حشود كنت اخترقتها ببالغ الصعوبة فقد أحاطوا بي يسألون بلهفة عن غائب مكانيا حاضرا في قلوبهم وضمائرهم، فكل واحد يريد الوصول إلى أسير عائد ليسأله عن ابن أو أب أو أخ، كانوا هم أيضا يعانون من البرد الذي عانيت منه لدقائق معدودات، ولكنهم كانوا يرتدون ملابس ثقيلة تقيهم المطر والبرد، أما أنا فكنت أحمل معي تعب السنين وويلاتها، وكان رصيدي من المقاومة على وشك التصفير.
ظننت بعد دقائق من دخولي القاعة بأن من لم يسمع أسم من جاء ليسأل عنه ولم يحصل على نتيجة بسرعة، سوف يغادر عائدا إلى بيته ليرتاح وخاصة أن الطقس لا يساعد على البقاء في فضاء مفتوح، كما ظننت أن فرع أبي جعفر المنصور الذي يعمل في منطقة جغرافية محددة من مدينة بغداد، لن يأتيه أحد من منطقة أخرى، ولكن ظنوني على ما ظهر لاحقا لم تكن في محلها، فالجمهور أصر على البقاء إلى الضحى حين يخرج الأسرى بقافلة واحدة، ليكرر الأسئلة نفسها على الأسرى العائدين، وحتى خروجي من قاعة أبي جعفر المنصور، لم أرَ أسيرا غيري وقد حضر أهله لتسلمه، ربما لم يُسمح للجميع بالدخول إلى القاعة بسبب عدم توفر إمكانية لجهد كهذا أو أن العاملين في الفرع ولكثرة تردد زوجتي عليهم للسؤال عني مع كل دفعة قادمة منذ أول دفعة أسرى عادت إلى العراق يوم 17 /8 /1990 وحتى يوم الخميس 24/ 1 /2002 وهو يوم وصولي إلى بناية فرع أبي جعفر المنصور فجراً ولهذا أشفقوا عليها بعد أن أعلمتهم بأنها سمعت اسم زوجها في قائمة العائدين التي تُليت على المنتظرين في الساحة الخارجية، كانت أسماء الأسرى الذين سُئلتُ عنهم بالمئات، ولكنني لم أتبين اسما واحدا ممن ذكروا أمامي، ربما يعود ذلك إلى التداخل في الأصوات بين الهلاهل (الزغاريد) والعويل والأسئلة والأسماء والتهاني والتبريكات، وربما يعود أكثر أنني كنت من الأسرى المُعاقبين الذين تعمدت السلطات الإيرانية إخفائهم في معسكرات قصية، تداخلت كل المعاني ببعضها، كنت ارتجف من البرد ولم أحصل على ما يكفي من الملابس التي تواجه الطقس البارد وربما شعر المصطفون على جانبي الممر الضيق بمعاناتي فنادى بعضهم دعوه يذهب يرحمكم الله، مشيت عدة دقائق حتى وصلت إلى السيارة حتى أصبحت مثل غيمة تمشي على الأرض وتقطر ماءً.
ركبت السيارة وكانت مع زوجتي فتاتان شابتان، هما ابنتا اختين مختلفتين لها، بعد أن سلّمت عليهما وردّتا علي بحرارة وشعرت أنهما كانتا فرحتين لفرح خالتهما، عرفتني زوجتي عليهما فقالت (هذه هُدى ابنة شقيقتي إلهام وهي تعيش معي منذ عدة سنوات بعد أن تبرعت بها أمها لي، وهذه نادية ابنة شقيقتي أم غسان وهي في زيارة لي لأنني علمت أن دفعة من الأسرى العراقيين ستعود هذه الليلة فصممت أن ترافقني في مجيئها إلى مقر الحزب، وقالت زوجتي “كنا هنا من أول الليل وكنا نعود إلى المنزل للاستراحة ثم نرجع إلى الفرع مرة أخرى، تبعا لما يصلنا من أخبار حركتكم من جلولاء إلى بغداد”، كنت ما أزال ارتجف من شدة البرد وقلت مع نفسي سأشعر بالدفء عند ركوبي في السيارة ولكن آمالي سرعان ما ذهبت مع السيل الذي يجريه المطر في الشوارع.
كانت السيارة بعمر أسري، وقد خلت من التدفئة أيضا، لتضاف إلى رحلة عذاب مناخية متصلة منذ دخولي إلى المنذرية، بعد أن رأت نادية ارتجافي من شدة البرد نزعت جاكيتها المحاك من الصوف وألقته علي، وقالت “عمو ضعه على كتفك حتى نصل إلى البيت، شعرت بشيء من المرارة لهذا الحال المتواصل من عدم الراحة، ولما وجدت مني عدم استساغة لهذا التبرع، وضعته على كتفي لأنها كانت تسمع اصطكاك أسناني ارتجافا.
وإنِّي لَتَعْرُوني لِذِكْراكِ هَزَّةٌ كما انتفَضَ العُصْفُوْرُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
يترك المطر سعادة غامرة ونشوة بلا حدود ومشاعر استبشار عند من يستقبله، حتى لو لم يكونوا من الفلاحين أو المزارعين، فطقوس استقبال المطر عند الأطفال عالية وكذلك عند الكبار، قال كثيرون لنا “إن مجيئكم بشارة خير وبركة”، ولكنني اعتبرت أن أحدا منّا لم يكن صديّقا أو وليّا من الصالحين، كي ينزل المطر من أجل عينيه أو احتفاءً بعودته إلى دياره، حتى لو اجتمع تُقّى جميع الأسرى العائدين في سلة واحدة ما كان المطر لينزل من أجلهم.
ونحن في الطريق إلى البيت كررت سؤالي لسهام عن صحة أمي وأبي، قالت إنهما بخير ولكن أحداً لا يعلم بمجيئك ولهذا عندما نصل البيت سوف اتصل وأبلّغ الجميع بعودتك، كان هذا الجواب منطقيا ولم يتح فرصة للاحتجاج، لذلك سكتُ وأنا اتطلع للكثير من الآتي.
مرقنا من طرق كنت أحفظها عن ظهر قلب شبرا بعد شبر، بسيارة الميتسوبيشي التي أتعبتها السنون الطوال فهي من موديل 1982، كنت أشعر بإعيائها وهي تقطع شوارع بغداد الخالية من السيارات والمارة، إلا من تعوّد على الذهاب إلى أقرب جامع لتأدية صلاة الفجر، أو أن موجبات عمله تتطلب منه التبكير للخروج في وقت كهذا، كانت هذه السيارة قد وصلت لأسرتي هدية من الرئيس الشهيد صدام حسين رحمه الله، بعد أسري بأسابيع قليلة تكريما لجهودي مع عدد من موظفي وزارة الخارجية ووزارة الثقافة والإعلام في إعداد كتاب عن حركة عدم الانحياز، ليتزامن مع اقتراب انعقاد مؤتمرها الذي كان مقررا عقده في بغداد سنة 1982، قبل أن يتم نقله إلى نيودلهي بسبب التفجير الإرهابي الذي نفذه انتحاري من حزب الدعوة في حزيران 1982، وكان يتلقى أوامره من (الحاج أبو إسراء) مسؤول المكتب العسكري في الحزب، وهو جواد المالكي أو نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء في العراق الذي جاء به الاحتلال الأمريكي من الأزقة والسراديب المعتمة، ووضعه في رئاسة حكومة أعرق بلدان الشرق الأوسط، كان المالكي يتخذ من دمشق مقرا دائما له ويشتغل في وظائف حقيرة مثل تهريب العملة إضافة إلى وجوده في بسطة لبيع الخواتيم والمسابح.
أدى ذلك التفجير إلى تدمير جزء مهم من مبنى وزارة التخطيط المطلة على نهر دجلة وبمحاذاة جسر الجمهورية في كرادة مريم، وهي من الأبنية البارزة والمميزة والتي يعتز بها البغداديون، ثم أعقبت التفجير المذكور تفجيرات إرهابية أخرى، كان حزب الدعوة العميل هو من خطط لها، وطالت مبنى المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون وقتل في التفجير الفنان محمد عبد المحسن، وآخر طال مبنى وكالة الأنباء العراقية.
كما أدى التفجير إلى تولد شعور خارجي بانعدام الأمن في بغداد، وخاصة لدى زعماء الدول المدعوين للمشاركة في القمة، فقد رأى زعماء العالم في تفجير وزارة التخطيط بأنه رسالة مباشرة لهم مما تسمى بالمعارضة العراقية المرتبطة بإيران، بأن من تمكّن من الوصول إلى هذه المنطقة المهمة والمحمية جيدا في كرادة مريم، التي تجاور بناية المجلس الوطني والقريبة من القصر الجمهوري، قادر على الوصول إلى أهداف مماثلة في الأهمية، كانت هذه هي بالذات رسالة حزب الدعوة لاسيما وأن قصر المؤتمرات لا يبعد عنها كثيرا.
مع حرصي الشديد على الحصول على نسخة من الكتاب المشار إليه (الكتاب الذي أعددته مع زملائي عن حركة عدم الانحياز) بعد عودتي من الأسر إلا أن جهودي باءت بالفشل، كما أن زوجتي أخبرتني بأن وزير الثقافة والإعلام السيد لطيف الدليمي “رحمه الله” أرسل إليّ ساعة تحمل صورة الرئيس الشهيد صدام حسين، مع مبلغ قدره ألف دينار (في ذلك الوقت الدينار العراقي يساوي أكثر من ثلاثة دولارات أمريكية)، ولما علم الرئيس صدام حسين بذلك قال إن جهدا كهذا لا يمكن أن يتعامل معه صدام حسين بهذا الشكل، لذلك فقد أمر بتزويد كل واحد من طاقم إعداد الكتاب بسيارة من نوع ميتسوبيشي موديل 1982، كنت أرأس الفريق الذي قام بالمهمة وحصل عليها وكانت التفاتة من الرئيس رحمه الله تؤكد أن العمل المتميز جزاؤه تكريم متميز، لقد كان صدام حسين كريما بطبعه ومنذ أن كان شابا يافعا وقبل أن يحتل مناصب عليا في الدولة العراقية.
لقد جاء التفجير الانتحاري الإرهابي المبكّر الذي خطط له حزب الدعوة ونفذه أحد منتسبيه، ليؤكد أن هذا الضرب من الجرائم التي أخذت وصفاً بالعمليات الإرهابية، وخاصة بعد أن تم استهداف برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 أيلول /سبتمبر2001، كانت صناعة ابتكرتها الأحزاب المدعومة من إيران والممولة منها، وخاصة حزب الدعوة الذي أمر شاه إيران بتأسيسه ليمارس به ضغطا على العراق عند الحاجة، ثم تلقفه خميني بعد وصوله إلى السلطة مع أن خميني كان يحتقر قادة الحزب ويعتبرهم صنيعة شاهنشاهية، هذه العمليات الإرهابية يتم التحضير لها فنيا ونفسياً، بعد أن يتم شحن المُنفّذ بجرعات فائقة من الشحن الطائفي، ومن الأحاديث البكائية عن معركة الطف ومقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه، مع جرعة من المخدرات، كما كان الإيرانيون يفعلون مع الفتيان الصغار الذين يأتون بهم من مقاعد الدراسة ويشحنون فيهم تلك الأفكار ثم يوجهونهم لفتح حقول الألغام في جبهات القتال أيام الحرب العراقية الإيرانية، ويدخلون في روعهم أنهم سيلاقون الحسين في استقبالهم في الجنة.
كان العراق من أول البلدان التي تعرضت للإرهاب الدولي والذي كان طابعه العام هو الطابع السياسي الشيعي، والذي تقف وراءه إيران خميني عن طريق خلايا نائمة، كان الحرس الثوري الإيراني يحركها نحو أهداف مرسومة لتحقق لإيران مكاسب سياسية أو مالية، وعن طريق منظمات أخرى مرتبطة بها مثل حزب الله اللبناني، كان هذا قبل أن تظهر شبكة القاعدة إلى الوجود بوقت ليس قصيرا، خاصة إذا ما علمنا أن تفجير وزارة التخطيط كان الثاني بعد تفجير مبنى السفارة العراقية في بيروت في 15/12/1981 وقتل فيه السفير العراقي المرحوم عبد الرزاق محمد لفتة، والسيد حارث طاقة الملحق الصحفي وسكرتيرته السيدة بلقيس الراوي زوجة الشاعر العربي المعروف نزار قباني، وبعد هذين التفجيرين شهدت بغداد عدة تفجيرات هزت مباني وكالة الأنباء العراقية والمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، ومع ذلك فإن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي دفع ثمنا باهظا تحت لافتة مكافحة الإرهاب، وأغفل العالم أجمع أن إيران هي المصنع الوحيد للإرهاب في العالم، ولكنها لا تنفذه باسمها بل تأمر عملاءها للقيام به، ولا مانع عندها أن ترتدي لبوس القديسين ولا تتردد من نقد “جرائم الإرهاب، بل لا مانع عندها من الزعم بأنها أكبر ضحاياه”، ومن مفارقات الزمن الرديء أن مصطلح الإرهاب لم يأخذ قوة الدفع والشجب المعروفة حاليا، لو لم تشكو الولايات المتحدة من نتائجه ويحوله الغرب إلى هولوكوست سياسي ساخن.
200