من لا يرزق بأولاد كما هو الحال معي، يبقى مرتبطاً بأبويه بصورة تختلف كثيرا عمن يتزوج ويرزق بأطفال، كما تبقى علاقاته مع اخوته وأخواته وذرياتهم تفاعلية ومتينة، وينظر إليهم كأبناء له ويمنحهم حبه وحنانه لا سيما إذا كان هو الأخ الأكبر لهم.
الإنسان عندما يرزق بأولاد، يجد أن قلبه أصبح مشغولا بكائنات جديدة غير الأب والأم والأخوة، لأنهم بحاجة إلى رعايته والإشراف على تربيتهم وتنشئتهم على أسس قويمة، وربما يتقلص منسوب الانشغال بالأهل ويذهب بعضه إلى عالمه الجديد، إنه شعور طبيعي لا يتقمصه الإنسان، بل هو طبع مغروس في النفس البشرية منذ أن خلق الله سبحانه آدمَ عليه السلام وإلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها، لهذا أوصى الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز الناسَ ببر الوالدين ولم يوصهم ببر أبنائهم، لهذا كانت صدمتي بفقدان أبي وأمي، كبيرة ومرة جدا على قلبي وعقلي عندما أخبرني مأمون برحيل والدي ووالدتي، ولم يكن بوسعي تحمّلها وإن تجلدت جهد قدرتي، ولكنني وإذ جئت من رحلة ما ظننت ولا ظن أحدٌ من أهلي أنني عائد منها، فقد كان حريا بي أن اكتم جزعي وأتصبّر وأبدو أمام الجميع بكامل رباطة جأشي، وخاصة أنني عائد من مدرسة مفروضة للصبر، لهذا سألت نفسي هل عليّ أن أبدأ رحلة من تحمل مفروض لألم فوق طاقة الرجال؟ أم أتصرف كطفل فقد أبويه لتوه فلم يجد غير البكاء لمواجهة ما يمر به.
غير رحيل أبي وأمي، كان موسم الحصاد العائلي خلال العشرين سنة التي أمضيتها في إيران كبيرا جدا، فقد رحل عمي المرحوم عبد الرحمن، ورحل جدي لأمي المرحوم بدر رحمه الله، وكان لما غادرت إلى الجبهة طاعنا في السن، وكذلك رحلت جدتي لأبي رحمها الله وهي التي تربيت في كنفها منذ أن كان عمري ثمانية أعوام حتى بلغت مبلغ الرجال، فقد عشت طفولتي في بيت عمي شامل رحمه الله من عام 1952 وحتى عام 1968، كما وجدت أن أخوالي فرحان وإسماعيل رحمهما الله قد رحلا أيضا، ورحل كل من أخوال أبي وأخوال أمي كل من الحاج جاسم والحاج مهدي والحاج إبراهيم تغمدهم الله برحمته، وبهذا فقد كانت الأنباء السيئة أكثر بكثير من الأنباء الجيدة وإن كانت عودتي من الأسْر قد غطت على كل المصائب والمحن.
إن لحظة حزن لا تستطيع كل أفراح الكون أن تخفيها أو تخنقها، وكذلك لحظة الفرح، وإذا أُضيفت هذه الأخبار إلى أوضاع الوطن الحزين جراء معاناة الحصار الاقتصادي، وخروجه من حرب الكويت بالقوة العسكرية نتيجة قيام تحالف ثلاثيني بقيادة الولايات المتحدة، دمرت فيه كل الشواهد العمرانية والبنى التحتية والمصانع والمراكز العلمية والطرق والجسور التي أقامها طيلة ثمانين عاما، فامتصت كل ما فيه من خيرات وتركت شعبه يئن تحت فاقة غير مسبوقة لولا عبقرية العراقيين بتصميم أذكى بطاقة تموينية، بحيث باتت ذكريات التموين خلال الحرب العالمية الثانية مجرد حكايات لتسلية الأطفال في الأماسي الباردة والليالي الطويلة والمظلمة.
مقابل الحزن كانت هناك أسباب للفرح فقد وجدت أخي مأمون وقد تزوج وأصبح لديه أربعة أولاد وابنتان، أما أخي عبد الحكيم والذي عندما ذهبت إلى الجبهة كان متزوجا ولديه ولد واحد هو مروان، فقد رزقه الله بولدين آخرين وخمس بنات، وتزوج محمد ولكنه لم يرزق بأولاد أما جمال فتزوج ورزق ببنت واحدة هي سارة ولم يرزق بغيرها، وتزوج إياد ورزق بأولاد ولكنهم كانوا يفارقون الحياة وهم صغار السن، حتى استقر معه الحال على ابنتين هما فاطمة وآية.
في مساء يوم الأربعاء 23 كانون الثاني 2002 وهو اليوم الأول لوصولي إلى منزلي في حي العدل، احتفل الأهل والأقارب كما لم يحتفلوا من قبل عشرين سنة، فقد خرجت إليهم من وراء الغيب وكأنني خرجت من الجَدَث السميك العميق، فنفضت ترابه عني وناديتهم ها أنا قادم إليكم فما أنتم فاعلون؟ كانت أفراحهم حزينة حد الاختناق وضحكاتهم تختلط فيها دموع الحزن مع دموع فرح لا يعرفون كيف يُعبّرون عنه، لا يلبث أن يزول فالأفراح تذّكر بالأحزان وتُعيد تفاصيلها بقوة، هكذا هم العراقيون هم يُحيون اعيادهم بزيارة القبور.
ترى كم أُسرة لازمها الحزنُ لوقوعي في الأسر؟ انتشر الحزن على مساحة واسعة، ولكن هذه السعة لم تخفف من وطأته شيئا لا عليٌ وأنا في اسري، ولا على اي بيت من بيوتهم، لهذا كان الفرح نقياً صادقا بعد أن عاد الغائب الحاضر، على الرغم من غياب أبدي لأعزاء لهم مكانتهم في القلوب.
لم تكد تمضي ساعتان على صلاة المغرب في يوم عودتي إلى المنزل، إلا وكانت ليلى ابنة عمي شامل رحمه الله، وعقيلة السيد إبراهيم الدهان، تفاجئ الجميع بأنها دخلت البيت المشرّع الأبواب مع فرقة للموسيقى الشعبية التي يطلق عليها شعبيا اسم (المزيقا)، وهي فرقة مؤلفة من عازفي طبول كبيرة ومزامير تطلق أصواتا قوية جدا، وكانت هذه إحدى مظاهر الفولكلور الشعبي البغدادي الذي يعتز بمثل هذه الفعاليات، جاءت بها خصيصا لتفجر ينابيع الفرح في بيت خيم عليه الحزن عشرين سنة مُرّة، وإذا بالفرقة الموسيقية الشعبية تبدأ عزفها لتشد الآذان ويتطلع إليها الحاضرون بتفاعل وفضول شديدين، حتى ولو كان عزفها صاخبا ومن دون انسجام، لكنها تبقى واحدة من أهم تعبيرات الفرح العراقي، ومن كل المستويات الاجتماعية الفقيرة والغنية، وهذه الفرق الشعبية تحيي مناسبات الفرح العراقي من زواج وختان وغيرها، وتنتقل إلى حيث تؤدي مهمتها كما تعَودَ الناس عليها، نقلتنا الفرقة الموسيقية إلى عالم جميل من ذكريات الطفولة وبغداد في تقاليدها التي لا تبارح الذاكرة العراقية، وعاش الحاضرون وقتا رائعا من المشاركة الوجدانية بين العائد والمحتفلين به.
خلال الشهر الأول لعودتي، كان بيتي في حي العدل قد تحول إلى مثابة لحشد من الأهل والأقارب، وبعض الأصدقاء القدامى، قليل من الأصدقاء الذين كانوا يحتلون مواقع متقدمة في مفاصل الحزب والدولة والذين كانت تربطني بهم صلة حميمة، ظلوا محتفظين بمواقعهم، وكثير من الأشخاص الذين أصبحوا في مناصب أو درجات حزبية عليا، لم تكن تربطني بهم علاقات خاصة، هذا أمر طبيعي في الأحزاب الثورية، وفي بلد مثل العراق وعاش ظروفا قاسية وصعبة بعد حرب لصد العدوان الإيراني استمرت ثماني سنوات، وحرب عالمية كبرى خاضها العالم ضد العراق بعد دخول العراق إلى الكويت، وكانت تأثيراتها أكبر بكثير من نتائج حرب الثماني سنوات، على الرغم من أنها لم تستمر إلا أياما معدودات.
بعد العدوان الثلاثيني عاش العراق ظروفا داخلية في غاية التعقيد، فمن انسلاخ المنطقة الشمالية عن سلطة الدولة العراقية، تحت مظلة الحماية الأمريكية وصدور قرار خطوط الحظر الجوي، إلى ما تعرضت له بعض محافظات وسط العراق وجنوبه، من فوضى منظمة ومخططٍ لها، وعبث بالأمن الداخلي والممتلكات العامة والمشاريع الكبرى التي كانت قائمة، وحتى سجلات الدوائر العقارية والأحوال المدنية تم حرقها، كل ذلك بعد أن تسللت قطعان من عناصر الحرس الثوري الإيراني وما يسمى بفيلق بدر، للإشراف على تلك العمليات وتنفيذ أخطر صفحاتها على الوجه الذي يزيل أسس المواطنة عن هذا البلد العريق، فهل يتوقع مراقب أن يحصل كل هذا من دون تواطئ مسبق بين الولايات المتحدة ودولة الولي الفقيه.
لقد تم تدمير معظم ما نجا من القصف الجوي الأمريكي، ثم بدأت بعد ذلك تأثيرات الحصار الاقتصادي الظالم على الأوضاع المعاشية للمواطن، والذي أدى إلى هجرة كثير من العراقيين، على الرغم من أن الحصار لم يكن وحده الدافع لتلك الهجرة، بل دخلت على خطها التوجهات السياسية المعادية لنظام الحكم الوطني الذي يقوده الرئيس صدام حسين رحمه الله.
وعندما تسللت الخلافات إلى داخل بيت الرئيس صدام حسين رحمه الله، فإنها تركت رسائل غامضة ومقصودة لدى مواطنين تحركهم تيارات وتوجهات سياسية معادية، فاستغلوا هذه الخلافات إلى طرح تساؤل خبيث ومغرض، لا يخلو من اللؤم عن قدرتهم على قبول التعامل مع رئيس يواجه رفضا من داخل أسرته.
432