الخروج من قصور آيات الله

الجزء الرابع عشر

فاق احتفاء الأهل والأقارب بي، كل توقعاتي وقدرتي على أي وصف قابل للتدوين، حتى تساءلت مع نفسي أكثر من مرة، هل أن مكانتي عند أهلي وأقاربي بهذا القدر؟ أم أن ما حصل هو محاولة لتخفيف معاناتي من الأسر الطويل؟ وتعويض من الحرمان الذي عشته في إيران؟ وما أشعره من حزن ولوعة لفراق الوالدين؟ إذن كم تركت في نفوسهم من حزن وأسى أرادوا التعبير عنهما بطريقة الاحتفاء التي جرت؟
تَحوَل بيتي إلى مزار ثابت لكثير من أقاربي وأصدقائي وحتى أصدقاء أقاربي، زاروني محمّلين بهداياهم التي ضاق بها بيتي على سعته، ولم يكن ممكنا حصرها من أجل رد الجميل عند أول مناسبة فرح لديهم وما أكثر مناسباتنا، وأقام لي بعض أقاربي احتفالات على مستويات مختلفة، فقد جاءت غزوة (أم فاطمة) وزوجة أخي إياد إلى البيت بفرقة أنوار المصطفى للمدائح النبوية، وهي فرقة للموشحات الإسلامية والتي تتخذ من الأعظمية قرب مرقد الإمام أبي حنيفة النعمان مكانا لنشاطاتها، وكانت ليلة امتزجت فيها أفراح العودة مع التحليق في أجواء روحانية مفعمة بالإيمان لما قدمته من مدائح نبوية.
ولكن ما أقامته زوجة عمي شامل (أم أندلس) وهي الابنة الكبرى للوجيه المرحوم الحاج جاسم السامرائي الذي شيّد جامع السامرائي في بغداد الجديدة، من احتفالية ذات طابع ديني فاق كل ما توقعته من احتفاء بي، فقد تم جلب فرقة انشاد ديني وكانت من أكثر الفعاليات إثارةً للفرح في قلوب الجميع، وتفاعل معها الجميع على نحو غير متوقع.
ما قدمته عائلة عمي شامل رحمه الله، ربما يستدعي سؤالا لماذا هذا التميّز عن سائر الأقارب؟ السبب في غاية البساطة، لأنهم لا ينظرون إليّ باعتباري قريبهم، بل كأبن عاش في بيتهم كل مرحلة نشوئه الأولى، فقد عشت في بيت عمي شامل كما قلت، بعد أن أتوا بي من أمي وأبي اللذين كانا يقيمان في قرية طويبة، لغرض الدراسة في مدارس بغداد، نعم أمضيت في بيت عمي ستة عشر عاما من يوم جئت في نهايات صيف 1952، من تلك القرية، وهي مزرعة مترامية الأطراف تعود ملكيتها للحاج جاسم خال أبي وأمي، وتقع في ناحية يثرب على مقربة من مرقد السيد محمد في قضاء بلد، يومها كان أعمامي شامل وعبد الرحمن وأحمد وغازي مع جدتي وعمة أبي وعمتي الصغرى، يعيشون في منزل يقع على يسار الشارع الممتد من جسر الملكة عالية الذي بدأ العمل بتشييده بعد وصولي بغداد بسنتين، وتم افتتاحه في 23 آذار عام 1957، وهو جزء من مشروعات مجلس الإعمار، وتحول اسم الجسر بعد 14 تموز 1958 إلى جسر الجمهورية.
وتعرض البيت الذي كنا نمتلكه ونقيم فيه للاستملاك الحكومي، لأغراض النفع العام ثم الهدم عام 1955، من أجل فتح شارع يرتبط بالجسر ويمتد حتى معسكر الوشاش الذي تحول إلى متنزه الزوراء بعد ثورة 17 تموز 1968.
لم يكن أي من أعمامي متزوجا في ذلك الوقت (عام 1952)، وكنا نعيش مع جدتي وعمة أبي وعمي عبد الرحمن في منزل واحد، وبعد سنتين تم استملاك المنزل لغرض فتح الشارع العام الرابط بين جسر الملكة عالية “جسر الجمهورية” وقصر المؤتمرات والذي أنشأ فيما بعد، ثم انتقلنا إلى المنزل الجديد في كرادة مريم أيضا على مقربة من كنيسة مار زيّا التي أنشأت عام 1960 في المنطقة أيضا.
نعم كان ما أقامته أم أندلس بمناسبة عودتي متميزا في كل شيء ومعبرا، فقد أقامت في منزلي دعوة عشاء كبيرة، بعد أقل من شهر من عودتي من الأسر مع (مولود نبوي) أحيته مجموعة من المنشدين الذين أدوا مدائح نبوية شريفة، ولم يغب أحد من أخوتي وأخواتي وأقاربي عن هذه الأمسية المؤثرة حتى ضاقت بهم صالة الاستقبال الكبيرة في منزلي، ولكن “شمسي وقمري” أمي وأبي كانا غائبين عن الفعالية، هل أفلا من سمائي يا ترى؟ وكيف يغيب الأب والأم من موضعهما في كبد السماء؟ سرحت بعيدا إذ تخيلتهما وقد عادت الحياة إليهما بعد توقف الليل والنهار عن التعاقب، وشاركا الحاضرين فرحتهم، واحتفلا كما لم يحتفل أي شخص آخر.
نقلتنا هذه الفعالية التي اختلط فيها الموشح الديني مع طقوس فرح عبّر عن أعمق المشاعر والأحاسيس الوجدانية بمناسبة عودتي، تعويضا عن أجواء الأسر المُرة، ولقد أضفى وجود عمي شامل رحمه الله في الحفل، أضفى على الأمسية جوا من الصميمية والنقاء، فعمي شامل كما أعرفه لا يهتم كثيرا بمثل هذه الفعاليات، وهو جاد في حياته إلى حدود بعيدة، ولكنه وكجزء من تعبيره عن سعادته بعودتي تفاعل مع الفعالية، وحرص على التواجد المستمر في بيتي منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة، مع إلحاحنا عليه بأن لا يجهد نفسه ويأخذ قسطا من الراحة.
طيلة أيام كثيرة كانت وجبات العشاء تأتي إلى بيتي من مطاعم تُجهز المأكولات وتصلها إلى البيوت، ولم أكن أعلم من الذي أوصى بها وتحمل قيمتها، ولكنها كانت تأتي بكميات تفيض عن حاجة الضيوف فيتم الاحتفاظ بشيء منها للطوارئ، والباقي يوزع على المعارف وفقراء الحي.
وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك سنة 1422 هـ، أي يوم 22 /2 /2002 جاءت شقيقتي الصغرى أسماء “أم ماجد” بفرقة الموسيقى الشعبية مرة أخرى، مع اختلاف يسير أنها جاءت بها صبيحة العيد وبمجرد دخولها الشارع السابق لمنزلي في حي العدل كانت تعزف موسيقاها بقوة ولفتت انتباه الجيران جميعا.
أعود إلى زيارات الأصدقاء والرفاق القدامى للتهنئة والسؤال عن الأوضاع، كان من بين زواري عدد محدود من أعضاء القيادة السابقين كان في مقدمتهم الأخ العزيز والمناضل الرفيق الشجاع عبد الغني عبد الغفور عضو القيادة القطرية ووزير الإعلام سابقا أسأل الله أن يُنجيه من آسريه البغاة، وعدد من الوزراء السابقين، مع أن طبيعة الظرف السياسي والاجتماعي بل وحتى الأخلاقي، كانت تقتضي صدور تكليف رسمي أو حزبي من جانب الجهات العليا لعدد من كبار المسؤولين للقيام بزيارات للأسرى العائدين، وخاصة أولئك الذين حصلت قناعة بأنهم حافظوا على عراقيتهم وشرف الانتماء للوطن وظلوا مخلصين لبلدهم وقيادته الوطنية، من أجل تأكيد التمسك بالوطنيين وإعطائهم رسالة بأن وطنهم لا يتجاهل المضحين من أجله، وهو أكثر منهم اندفاعاً في رد التحية لهم بأحسن منها، وعدم تجاهل تضحياتهم، على الرغم مما دخل في روع بعضهم من يأس نتيجة طول الأسر وشدة المعاناة، ولكن شيئا من هذا لم يحصل، إذ يبدو أن بعض الناس قد تغيرت لديهم زوايا النظر إلى المناسبات الاجتماعية الكبرى، أو أن الأسير على وفق برنامج التوجيه الثقافي والسياسي والحزبي السائد في العراق في تلك الحقبة، رجل متخاذل لم يقاتل كما ينبغي وفضل النجاة بنفسه على القتال حتى النهاية، كان هذا التوجه على ما كان يُشاع مدعوما من الرئيس صدام حسين الذي قال في إحدى خطبه القديمة إنه كان يتطير من كلمة “أسير”.
ولكنني على يقين أن تلك الصورة قد تبدلت لديه، وليَ على ذلك دليل وهو أنه لو بقي على تلك الفكرة، فكيف قرر منح الأسرى المتميزين منا نوطيْ شجاعة، ولكن أن يصدر عن ولده عدي مثل ذلك الموقف فهذا أمر ممكن، وإن كنت لا أملك دليلاً عن تلك القناعة، ولان لعدي رحمه الله دوراً في الحياة العامة أكثر وضوحاً للعيان كما شعرت مع الأيام، فيمكن افتراض صحة ما كان ينسب إليه.
ربما لكل هذه الأسباب لم تتح لي الفرصة لمقابلة الرئيس رحمه الله أو نائبيه أو أي مسؤول سياسي كبير، بمن فيهم رئيس ديوان رئاسة الجمهورية أحمد حسين خضير السامرائي، الذي تجاهل عن عمد وغرور، عودتي من الأسر على الرغم من أنني مدير عام في الدائرة التي يرأسها وعلى الرغم من سبق المعرفة بيننا.
كما كنت أتوقع أن مدير جهاز المخابرات سيسعى للقاء مع عدد محدود ومنتقى من الأسرى العائدين من ذوي الدرجات الحزبية والوظيفية الكبيرة، ويتداول معهم في أمر تشكيل لجنة لدراسة ملف الأسرى برمته ودراسة مقترحاتهم لتحصين العراقي في تجنب حالات الأسر، والتعريف بمخاطره على الوطن والمواطن، ولكن هذه الدائرة التي يفترض بها التقاط الباحثين في مختلف القضايا الاستراتيجية لأمن العراق، جهلت أو تجاهلت هذا الأمر وكأنها معنية بأمور أخرى، مع أن المواطن لم يلمس لها نجاحا في قضية التعرف على أحوال الأسرى داخل معسكراتهم، ثم كررت غفلتها في إهمال هذا الملف بعد عودتهم.
لو أن أيا من هذه المقابلات والفعاليات قد حصلت، لتم خلالها التطرق إلى أمور ذات قيمة تخص الوطن بالدرجة الأولى ومعاناة الأسرى، ولشرحت بالتفصيل ظروف الأسر القاهرة، وما كابده الأسرى الوطنيون في إيران، وهو بلد معروف عبر التاريخ بأنه أسوأ بلد في تعامله مع الأسرى، ربما لم تكن القيادة على معرفة بها وهذا يؤشر إخفاق الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة في اختراق الداخل الإيراني بالصورة المطلوبة، ولو حصل جانب من هذا لنَقلتُ للقيادة صوراً مشرقة ومشرّفة عن صمود الأسرى وثباتهم على مواقفهم المبدئية، ولتم الانتفاع من رجال مُجرَبين، خرجوا من أصعب امتحان للرجولة والتمسك بالمبادئ في إيران التي لم تترك صفحة من صفحات الضغط عليهم لتغيير قناعاتهم ولهز ثقتهم بوطنهم.
وربما لأن قيادة البلد تعرف كل ذلك جيداً، فهي لا تريد سماع المسموع ومعرفة المعروف.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى