الخروج من قصور آيات الله

الجزء السادس عشر

الجزء السادس عشر

عندما تطوعت للقتال في ألوية المهمات الخاصة في تشرين الأول عام 1981، كنت في ذلك الوقت مديراً عاماً لدائرة الإعلام الداخلي في وزارة الثقافة والإعلام، وهي دائرة رأيت بعد عملي فيها أقل من سنة أنها دائرة فائضة عن الحاجة ولا مبرر لاستمرارها، خاصة بعد التطور الحاصل في أجهزة الإعلام الأخرى، لا سيما الإذاعة والتلفزيون ووصول الكهرباء والبث التلفزيوني إلى القرى القصية من أنحاء العراق، لذلك رفعت مذكرة تفصيلية إلى وزير الثقافة والإعلام، طلبت منه فيها مفاتحة الجهات العليا للحصول على موافقتها لإلغائها، ولكن جواب الجهات العليا جاء مخيبا لآمالي، إذ كان الرفض القاطع من دون إعطاء مبررات لذلك الرفض غير أن هذه الدائرة بتشكيلاتها جزء مثبت في قانون وزارة الثقافة والإعلام، هذه الدائرة كان اسمها بالأصل دور الثقافة الجماهيرية، وهي اقتباس عراقي من مصر أيام العلاقات المتينة بين البلدين في الأعوام 1964 وحتى 1968، وكان الهدف من تأسيسها القيام بحملات توعية ثقافية وسياسية في الأماكن النائية والأرياف العراقية والمجتمعات الفقيرة والتي لم تدخلها المدنية، إذ كانت الدوائر الفرعية في المحافظات تسيّر القوافل الثقافية بما فيها السينما المتنقلة التي تعرض أفلاما تربوية وتوعوية وخاصة أيام تطبيق قانون الأمية.
عندما تأسرت كنت أشغل هذه الوظيفة، ولما كان قانون الخدمة المدنية لا يجيز لموظفينِ اثنين أن يشغلا في وقت واحد، وظيفة مدير عام لدائرة واحدة، ولما كانت وظيفة مدير عام دائرة الإعلام الداخلي قد شَغَرت بعد وقوعي في الأسر ويجب إملاؤها، إذن كان يتحتم نقلي من هذا المنصب إلى وظيفة أخرى وأنا في الأسر.
قبل وقوعي في الأسر عام 1982، كان مكتب شؤون المنظمات الشعبية التابع لمجلس قيادة الثورة دائرة تستقبل الموظفين الذين يُراد أن يَبق لهم اعتبارهم ومكانتهم السياسية والاجتماعية، لما تحمله هذه الدائرة من رمزية كونها ترتبط بأعلى سلطة تشريعية تنفيذية في العراق، وكان يُنقل إليها ثلاثة أصناف من كبار موظفي الدولة، ممن هم بدرجة مدير عام أو وكيل وزارة أو رئيس مؤسسة أو سفير أو محافظ سابقين، أو من رتب عسكرية كبيرة أو قيادات حزبية عليا.
الصنف الأول هو مكان لتكريم بعض كبار موظفي الدولة الذين أكملوا خدمتهم التقاعدية إما لبلوغ السن القانونية، وإما لبلوغ خدمتهم حدها الأعلى وهو 30 سنة، ولم تشأ القيادة إقصاءهم من مناصبهم من دون أن تمنحهم تكريماً معنوياً بعنوان وظيفي في موقع اعتباري، يُبقي لهم مكانتهم السياسية والاجتماعية القديمة، وتوفر لهم دخلاً مماثلا لما كانوا يتقاضونه في دوائرهم السابقة أو قريبا منه، وبطريقة لا تشعرهم بانتهاء دورهم في الحياة الطبيعية أو العامة أو السياسية، وعادة ما يكون هذا الصنف من كبار السن أو المرضى الذين لا يستطيعون القيام بالواجبات الموكولة لهم، وعادة ما يَطلبُ مثل هؤلاء الإحالة إلى التقاعد، ولكن القيادة لا تريد لهم الانزواء التام، لأنهم خبرات مهنية في الوظائف القديمة التي شغلوها في الدولة ويمكن الرجوع إليهم وقت الحاجة بتكليفهم بإعداد بحوث في مجال اختصاصهم.
والصنف الثاني هم الموظفون الذين تصرفوا تصرفاً غير لائق أو غير مَرضيٍّ عنه من جانب القيادة السياسية، ولكنه لم يتجاوز حد المخالفة الطفيفة، ولم يصل حد الغضب عليهم الذي يستدعي إجراءً رادعا بحقهم أقسى من رَكنِهم في زاوية لن تقطع حبل الود معهم وتُشعرهم بتقصيرهم، ولا تسمح لأي منهم بمواصلة تصرفاته التي أدت إلى اتخاذ عقوبة “جر الأذن معه”، فيتم عزلُهم من وظائفهم وركنهم في مناصب بلا صلاحيات ولا مسؤوليات محددة، مع احتفاظهم بعناوين وظيفية لها كثير من بريق ووجاهة المنصب من دون مسؤولياته، وهؤلاء يمكن استدعاؤهم عند الضرورة إلى وظائف حكومية بنفس الدرجة، أو من ذوي الدرجات الحزبية الأعلى إذا شعرت القيادة في ظرف لاحق أنها بحاجة إلى خبرتهم، أو أنهم غيّروا من سلوكهم السابق ودشنوا صفحة جديدة من حياتهم الحزبية والوظيفية.
أما الصنف الثالث فهم من الذين تعرضوا لعقوبات حزبية أو وظيفية لأسباب مختلفة، ولكن ظروف معاقبتهم تغيرت وزالت أسبابُها، وخدَمَتهم الظروفُ السياسيةُ التي استجدت فيما بعد، فتم التراجع عن قرارات العزل الوظيفي أو الحزبي، من دون أن يُعاد الاعتبار الكامل لهذا النوع من الموظفين، بل يتم الاكتفاء بتعيينهم بوظائف في مكتب شؤون المنظمات الشعبية، لاسيما أنهم لا يُطالبَون بالدوام في تلك الدائرة، ولا يمتلكون سلطةً للتأثير على الموظفين الذين كانوا يعملون في دوائرهم السابقة، لكن وجودهم في مواقعهم هذه ستجعلهم تحت عين الرقابة على سلوكهم.
لا شك أن مثل هذه الخطوات جديرة بأن تُشعرهم بدور ما، ولا تحولهم إلى خصوم سياسيين لا ترتجى مودتهم، كما أنها تضمن ألا يتحركوا بما يسيء للوطن والقيادة، خاصة وأننا في العراق مجبولون على معارضة السلطة لأي سبب كان بل أحيانا حتى من دون سبب منطقي، فالمعارضة في العراق تبدو أحيانا نوعا من الترف الفكري والسياسي وأحيانا الاجتماعي، وبالمقابل يمكن أن يُحوَلَ العراقيون أيَ موقف يُتخذ ضد واحد منهم في مجال العمل الوظيفي، إلى سبب لتَحوْل الولاءِ السياسي، وعدم إبقائه محصورا في نطاقه الشخصي الضيق.
لكن مكتب شؤون المنظمات الشعبية تم سحبه من مجلس قيادة الثورة، في وقت لاحق وإلحاقه بديوان رئاسة الجمهورية، بعد أن تمت تسميته باسم “قسم شؤون المنظمات الشعبية”، من دون أن يطرأ على وضع العاملين فيه شيء من التغيير.
في عام 1985 واستنادا إلى قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 462 والمؤرخ في 17/4/1985، والمبلّغ لوزارة الثقافة والإعلام بموجب كتاب ديوان رئاسة الجمهورية المرقم ق/2/ 12635، صدر الأمر الوزاري بنقل خدماتي إلى وظيفة مدير عام في “مكتب شؤون المنظمات الشعبية في مجلس قيادة الثورة” بموجب الأمر الوزاري المرقم 7/5/13/ 5317، وهذا القرار يعد تكريماً لي، لأنه صدر خلال وجودي في معسكرات الأسر، وقبل عودتي من إيران بسبعة عشر عاما، ومن دون أن تتكون لدى الجهات العليا صورة متكاملة ومباشرة عن وضعي في الأسر ووضع الأسرى عموما، هل هي ثقة القيادة الراسخة بثباتي على موقفي المبدئي وولائي للعراق وطنا وقيادة؟ في وقت تعرض فيه الأسرى لظروف قاسية من التعذيب النفسي والجسدي والتجويع والاهمال الطبي، خلال وجودهم تحت سلطة عدو حاقد على العراق والأسرى الذين حاربوا إيران بكل قوة في جبهات حرب دامية، ولا سيما الضباط القادة والآمرين، وعلى كل من يشغل وظيفة كبيرة في دوائر الدولة المدنية ممن تطوع في ألوية المهمات الخاصة، ترى ماذا كان يمكن أن يكون رد فعل المحقق الإيراني معي لو عرف بوظيفتي الجديدة؟ الحمد لله مرت الحالة، ولم أعلم بها لأنني كنت مقطوعا عن العالم كما هو شأن الأسرى الذين رافقوني في معسكرات الأسر، كما أن تلك المعلومة لم تصل إلى الجانب الإيراني.
لقد تعرّضَ الأسرى لحملة تشنيع بسبب ما وصف بتخاذلهم في المعركة قبل وقوعهم في الأسر، وعلى ضَعف بعضهم بعده، فقد زيف الإيرانيون وضع الأسرى على أسوأ ما يكون التزييف، إذ كانت أجهزة الاستخبارات الإيرانية تبث برامج خاصة على قنوات التلفزيون الرسمية التي يصل بثها إلى بغداد، بقصد تشويه مواقف جميع الأسرى في كثير من البرامج التي تسيء إلى مواقفهم عن طريق اختيارِ عيناتٍ من الأسرى الخونة وتعتبرهم مثالا لبقية الأسرى، نعم كانت قنوات تلفزيونية إيرانية، تبث برامج سياسية وفنية لفعاليات أساءت لعشرات الآلاف من الأسرى، بفعل فاحش لعدد محدود من الأسرى الخونة “التوابين” في معسكرات الأسرى المفتوحة، لتوحي من خلال ذلك أن الأسرى متساوون في هذا السقوط وهذا الانحراف، حتى صار لدى العراقيين أفراداً وجماعات من القناعة بما أراد الايرانيون تصديره إلى الشارع العراقي، وكان يرى ويسمع وربما يصدق ما يُعرض عليه، وحتى الأجهزة الأمنية استسهلت الحكم على كل الأسرى من خلال شاشة التلفزيون الإيراني، بدلا من بذل الجهد المطلوب للوصول إلى الحقيقة، وهذا انطباع خاطئ بأن الأسرى جميعا باعوا أنفسهم لشيطان الغواية الإيراني.
الولاء للعراق لا يرتبط بالولاء لشخص الرئيس صدام حسين رحمه الله، الأمر باختصار شديد يتعلق بمدى ارتباط الأسير بوطنه العراق والأمة العربية، مهما تحمل من عنت وسوء معاملة، كان هناك من لا يحب صدام حسين، وهذا الأمر يحز في نفوسنا، ومع ذلك ثبت على الولاء للعراق أكثر من بعض من كانوا يحملون درجة عضو أو عضو قيادة فرقة في الحزب، أو يشغل وظيفة مدير عام في الدولة العراقية، أنا أؤمن بأن التمسك بالقيم هو جزء من الرجولة والشجاعة، وهما لا يمكن اكتسابهما بالتلقين أو بالتقليد، بل تنموان مع الفرد منذ نعومة أظفاره وحتى لحظة توديعه للحياة.
من تَحول بالولاء نحو إيران، رافقه شعور مدّمر، بأنه فقد رجولته وكرامته وغيرته الوطنية واحترامه لنفسه، وجلب العار لعائلته وتحول إلى سلعة رخيصة، سرعان ما تلفظها إيران بعد امتصاص ما فيها من خير إن كان فيها خير، على الرغم من أن صدام حسين كان رمزا للوطنية والعراق والتمسك بالقيم التي يؤمن بها الرجال

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى