بدأت الأمراض التي ظلت مختفية وراء حالة الشد العصبي التي كنا نعيشها تحت وطأة الخوف من المجهول والجوع والتعذيب والبعد عن الأهل والوطن والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، تظهر تباعا كنت أعاني أولا من ضعف شديد في البصر نتيجة الماء الأبيض الذي أصاب عيني اليسرى وكدت أن أفقد فيها الرؤية، أما عيني اليمنى فقد أصيبت بهذه الحالة مبكرا وأجريت لها عملية جراحية لم تتكلل بالنجاح في إيران عام 1997، ولم أتعرف على كفاءتها إلا بعد أن عدت إلى العراق.
لما لاحظ الدكتور سالم عبد اللطيف السامرائي “طبيب أسنان” وهو ابن عمتي تعثّر خطواتي أثناء المشي وعدم قدرتي على التعرف على كثير من الأهل والأقارب إلا بعد التدقيق، قال لي أتذكر زميلنا في متوسطة كرادة مريم ثم في الإعدادية المركزية مُعيد عبد الحميد، سألته أليس هو صديقنا الصابئي الديانة، قال بلى هو بعينه، قال لي ما شاء الله ما زالت ذاكرتك متقدة ثم ابتسم لأننا نعيش في بيئة مهووسة بالخوف من الحسد، ثم قال إنه الآن طبيب عيون ماهر ومعروف، لذلك فسأحجز لك موعدا معه لمعالجة مشكلتك، بعد أن رتب الموعد راجعته في مدينة الطب، نسينا الحالة المرضية التي كنت أعاني منها لبضع دقائق، واستذكرنا أيامنا الدراسية وكيف عشناها كأجمل ما تكون الذكريات وزمالة التلاميذ وهم يتطلعون نحو غد أمثل، وقال لي إنك من بداية مشوارنا كنت مشغولا بالسياسة، على العموم كان الدكتور مُعيد ابن “محلة” أي ابن كرادة مريم التي أقيم فيها، وابن المحلة في القيم البغدادية والعراقية، تُرتب حقوقاً بالغةً لا يستطيع أحد تجاهلها ممن تشبّع بها طفلا ويافعا وشاباً ثم رجلاً وكان لا يتردد في تقديم العون الطبي لأبناء المحلة بمجرد أن يعرف أنهم كراديّون.
بعد أن شرحت له متاعبي في العيون منذ صغري، عندما أُجريت لي عملية عام 1960 من قبل الدكتور قيس الشذر وهو من أبرز اختصاصيي العيون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ثم تحدثت له عن العملية التي أجريت لي أثناء الأسر في إيران، بدأ فحصا دقيقا بما لديه من أجهزة قديمة، قال “من الجيد أن تحصل على فرصة مثلها في إيران وعلى علاّتها فقد مكنتك من الرؤية الجزئية، ولكن هذه العملية بحاجة ماسة إلى عملية بالليزر لتقويم البصر وإزالة العيب الذي لحق بالعين بسبب عدم كفاءة الطبيب المُعالج أو ما رافقها من ظروف لا أعرفها”، لم يَدّرْ بخُلد الدكتور مُعيد ماذا يعني أن يرقد أسير عراقي مُعاقب في إيران في مستشفى عسكري إيراني، ما لاقيته في مستشفى العيون العسكري في العاصمة الإيرانية قبل العملية عندما جاءوني بورقة لغرض التوقيع عليها، عندما قرأت ما فيها وعلى قدر فهمي المحدود جدا باللغة الفارسية، عرفت أنهم ثبتوا فيها “أنني مسؤول عن النتائج التي تترتب على هذه العملية وهم غير مسؤولين عما يحصل لي”، وقعّت في ذيل ذلك التعهد، وقلت مع نفسي “لقد تساوت كل الأشياء في حياتي ونجاح مهما كانت مساحته فهو أفضل من عمى مؤكد”، وما كدت أنتهي من توقيع تلك الوثيقة إلا جاءوني بوثيقة أخرى، تتحدث عن كُلف العملية وثمن العدسة التي سيتم زرعها في عيني، وأن هذا المبلغ سيتم دفعه من قبل الحكومة العراقية بعد التبادل، وقعت أيضا مع أنني لاحظت أن الثمن المطلوب مُبالغ فيه كثيرا، ربما لغرض تغطية نفقات أخرى داخل المستشفى، لكنني لم أكن أعرف حقيقة الأسعار في قطاع الخدمات الطبية في إيران وما تعرض له من ارتفاع طيلة 15 سنة من أسري، ثم دخلت صالة العمليات وبعد دقائق رحت في غيبوبة طويلة، لم استيقظ منها إلا بعد ساعات طويلة وعندما استفقت وجدت نفسي على سرير وكأنني مثبت بمسامير لا أستطيع التقلب ذات اليمين وذات الشمال، كان جندي يجلس على كرسي وينتظر متى أصحو كي يُبلّغ مضمدا لفتح عيني وتطبيبها ومعرفة نتائج العملية، ولكنني وأنا مخدر وجدت نفسي وقد رُبطتْ أطرافي الأربعة إلى السرير باصفادٍ خاصة، قال لي الجندي بنبرة اعتذارية “إنها الأوامر”، كنت أرقد في غرفة بالطابق الرابع من المستشفى، فمم يخافُ هؤلاء؟ ربما ظنوا اني أمتلك قدرات خارقة واقفز من دون أن اصاب بخدش، ثم أجد طريقي نحو الهرب من الأسر.
هنا استذكرت أيام قصر فيروزة في شهر آب عام 1982، عندما اقتادني ثلة من الجنود إلى مكتب النقيب مهدي كيهاني آمر المعسكر، ومن دون سؤال وُوجهتُ بصفعة قوية من يد ثقيلة اختل توازني بسببها، ثم وُضعت على سرير وتم ربط يديّ ورجليّ إلى السرير، ثم بدأت حفلة سمر بين الكيبل الكهربائي وأخمصي القدمين، يتناوب الجنود والضباط على الجلد بكل ما يملكون من قوة، وكأن كل ضربة تقع على قدمي تُشعل نارا في رأسي، لم أكن لوحدي في تلك الأمسية الصاخبة، كان معي المرحوم الدكتور مضر محمد علي النوري، رئيس المؤسسة العامة للمياه الجوفية، وقد تقاسمنا الألم مع رفاق آخرين، لنجسد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ).
ولكن الأقسى من هذا وذاك، وجود ضابط مخابرات عراقي سابق خائن هو ( الرائد الحاج فارس يحيى الجادر) وهو من نفس مدينة الدكتور مضر النوري، ولكنه تعامل معه بمنتهى الصلف والصفاقة، وكان قد خان الوطن والدائرة التي كرمته بضمه إلى صفوفها بعد عملية تدقيق عالية المستوى، ولكنه عندما نقل من جهاز المخابرات إلى الجبهة للمعايشة والتعرف على ظروف المقاتلين، فباع نفسه بضاعة مزجاة للعدو في زمن الحرب، وحوّل نقمته إلى فعل خياني رخيص، ظنا منه أنه ينتقم من وطنه، لأنه مَنع عنه امتياز المكتب المريح والمكيّف صيفاً وشتاءً مع سيارة وسائق وامتيازات الوظيفة.
المهم فُتحت عيني وجدت أن الرؤية فيها تختلف عما كانت عليه قبل العملية، ثم مكثت ثلاث ليالٍ في المستشفى على الحال الذي كنت فيه مثبتاً على السرير، كنت في كل ساعة أسأل الجندي متى أعود إلى المعسكر الذي كنت أعتبر عودتي إليه نصف حريتي، على الرغم من الظروف الاستثنائية التي يعيشها والعقوبات القاسية التي يتعرض لها الأسرى على يد جلاد آخر، هو عباس بزرك نيا، ومع كل ذلك ربما أستطيع أن أقول “إن الإنسانية بذرة تصلح للإنبات والنمو وسط أكثر المجتمعات وحشية وقسوة” بعد الذي رأيته في مستشفى العيون العسكري في طهران.
بعد أن مرت كل تلك الذكريات المؤلمة، انتبه الدكتور مُعيد إلى شرودي البعيد، ثم استدرك قائلا، إننا لا نمتلك في العراق في الوقت الحاضر إلا جهازا واحدا لليزر بسبب الحصار الاقتصادي، وحتمية موافقة لجنة العقوبات المعبئة بالكراهية للعراق، على أي جهاز يراد إدخاله إليه تحت ذريعة الاستخدامات الثنائية، ومهما كانت الطلبات معقولة ومنطقية فإن اللجنة تعمل بقناعات المراقب الأمريكي، الذي كان يحرص على إثارة الأزمات السياسية بين قيادة البلد وشعبه، سواء في القضايا المعاشية أو في المستلزمات التعليمية أو بالاحتياجات الطبية، إما لأسباب مالية وإما لأسباب أمنية تتعلق بطبيعة الأجهزة التي فيها أجزاء إشعاعية، وقال إن الجهاز موجود حاليا في مستشفى ابن سينا، وهو مخصص لتدريب الكوادر الطبية على هذا النوع من الأجهزة الحديثة بالنسبة للعراق، أما العالم فقد تجاوزها إلى أجهزة أكثر حداثة، ومع ذلك فإن الجهاز مخصص أيضا لمعالجة الانحرافات في أمراض العيون وتقويم البصر، ووعدني بأنه سيسعى ليرتب لي موعدا لاستكمال العلاج لعيني اليمنى، أما عيني اليسرى فهي بحاجة إلى عملية جراحية فورية لإزالة الماء الأبيض منها وتركيب عدسة صناعية فيها.
تم ترتيب حجز العملية في مستشفى الشهيد عدنان والذي وجدته في وضع مناسب قياسا بما يتعرض له العراق من عقوبات لا إنسانية، ورقدت في غرفة “خصوصي” ودفعت تكاليف المكوث في المستشفى لليلتين مع أجور التخدير، وقد حاول الدكتور معيد اعفائي من أجوره الخاصة، ولكنني أصررت على دفع تكاليفها التي بلغت 250 ألف دينار أي 125 دولار أمريكي فقط، وتكللت العملية بالنجاح والحمد لله، عندما خرجت من مستشفى الشهيد عدنان، رأيت عالما آخر غير الذي دخلت به البناية، إنه الصورة على حقيقتها، كم أنت ساحر أيها العراق؟ كم أنت عظيم أيها البلد العصي على التدجين، والآن تُرى هل ستتاح لي فرصة أن أرى العراق بهذا الوضوح؟ متى أرجع إلى بيتي في حي العدل كي أرى الأشياء على حقيقتها؟
كان عليّ الانتظار مدةً مناسبةً رهين محبس البيت بعد العملية الجراحية التي أُجريت لعيني اليسرى، كي تستقر حالها على ما أريد ويريد الدكتور مُعيد، الذي كان حريصا على نجاح العملية بكل صدق ووفاء لأيام الشباب، هذا غير العامل الإنساني الذي يحمله هذا الطبيب الماهر.
ثم زودني بتعليمات صارمة بعدم الظهور تحت الشمس أو الضوء الباهر، وعدم إتعابها بالقراءة أو الكتابة، أو التدقيق في أية مشاهدة، حصلت إذن على إجازة طبية إجبارية داخل إجازة مفتوحة، كانت عمليات تضميد عيني فيها تتم داخل المنزل، بعد أن زودني بتعليمات ووصفة للمواد المستعملة والقطرة والمراهم التي علي استخدامها بتوقيتات صارمة، مع انذار بأن الالتزام بها هو البديل عن فقدان البصر.
بعد حوالي شهر من نقاهة مفروضة حتى استقرت عملية عيني، توالت العمليات الجراحية الصغرى، التي كان علي أن أجريها من دون أن تحتاج إلى رقود في المستشفى مثل عملية إزالة كيس دهني في الظهر وعملية إزالة البواسير، وقد أجريت هاتان العمليتان في عيادة الدكتور صالح حلاب العبيدي في منطقة المأمون.
731