بعد أكثر من أسبوع من حجب شبه كامل للضوء في الأماكن التي اجلس فيها، وامتناعٍ عن مشاهدة التلفزيون، فرضتها على نفسي مستذكرا أيام الأسر، التي مُنع آلاف الأسرى من روية الشمس، بسبب حجزهم في زنازين مغلقة وضيقة، وقطع كاملٍ عن العالم الخارجي ومنع للتلفزيون عنهم وتعتيم إخباري شامل، لما يقرب من عشرين سنة، رأيت أن القرار الإرادي في الامتناع عن شيء سترافقه أسئلة وحوارات داخلية، عن جدوى معاقبة النفس بإجراءات صعبة، لا سيما وأنني عندما رجعت إلى العراق قلت مع نفسي، سأحتضن العالم من خلال التلفزيون وأعوض السنين العجاف، هنا استذكرت قول الله تعالى “بسم الله الرحمن الرحيم سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ” صدق الله العظيم، كنا في الأسر مُكرهين على أوامر سجّان لا يرحمُ أبدا، فمن واجبنا أن نصون كرامتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ونجنبها مزيدا من الظلم والعدوان، بالالتزام بأوامر الآسرين الذين يتحينون الفرصة لإيقاع الأذى بنا.
ولكن لماذا أعاقب نفسي الآن؟ حقيقة الأمر أن أوامر الطبيب واجبة التنفيذ كأوامر السجّان، مع فرق واحد أن السجّان يريد إيقاع الأذى بسجينه، والطبيب يريد مصلحة المريض في الشفاء السريع.
بعد أن شُفيت من عملية عيني اليسرى تماما، ولم أحصل على فرصة العلاج بالليزر في مستشفى ابن سينا، كما حاول الدكتور معيد عبد الحميد، على الرغم من أنني جزء من المؤسسة التي يجب أن تُشمل بخدماتها، ولم تبق لي خيارات أخرى بهذا الخصوص.
قررت مراجعة الدكتور سرمد الفهد الطبيب الاختصاص في أمراض الدماغ والجملة العصبية، في عيادته في شارع السعدون قرب سينما السندباد، وبعد أن شرحت بالتفصيل له معاناتي وآلام الرأس التي تراودني بين وقت وآخر، وكوني أعاني من وقت مبكر من داء الصداع النصفي “الشقيقة”، لذلك نصحني بإجراء فحص بـ “الـرنين المغناطيسي” في مدينة الطب، كان هذا المصطلح غريبا على أذني فلم أسمع بمصطلح “الرنين المغناطيسي” من قبل ولا أعرف كنهه، وبدأت ماراثون الحجوزات الطويلة، كان لي رفيق في الأسر هو الصديق أبو بهاء، وعمل مديرا لمكتب وزير الصحة بعد عودته من الأسر، بعد أن أبلغني بعض الأسرى العائدين بذلك، فاتصلت به هاتفياً، فسألني هل تريد دوراً قريباً أو إعفاءً من الأجور، قلت له، كليهما، بعد ساعة اتصل وأبلغني أن الأجور لا يمكن حذفها ولا حتى تخفيضها، ولكن أقرب دور لك هو بعد أسبوع بسبب الازدحام الشديد على هذا الجهاز الذي هو الوحيد الذي تم استيراده للعراق قبل العقوبات الاقتصادية، ثم تم حظر استيراد “الأجهزة الطبية الحديثة” التي يحتاجها العراق لخدمة المرضى الذين يعانون من مختلف الأمراض التي لا يمكن تشخيصها بدقة إلا من خلال أجهزة حديثة تم تطويرها لتكون في خدمة بني البشر، وليس لمعاقبتهم بسبب الخلافات السياسية التي تنشب بين البلدان، كما فعلت الولايات المتحدة مع العراق، والتي ظهرت على حقيقتها كأكبر دولة إرهابية في التاريخ، والتي تحمل سجلا حافلا في جرائم متصلة ضد الإنسانية منذ حروب إبادة الهنود الحمر والتنكيل بالزنوج، ثم بعد خروجها من حدودها السياسية ومشاركتها في الحربين العالميتين، ولا سيما ضرب هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين ذريتين، في عملية استعراض قوة على طريقة الكاوبوي، ثم الحرب الكورية وحرب فيتنام، وآخر صفحاتها في تزييف أهداف الحرب على العراق وتدمير بنية الدولة فيه، مع كل هذه الصور المتلاحقة، استذكرت قول الكميت الأسدي…..
إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ذهبت إلى المستشفى في اليوم المُحدّد، وباشرت الإجراءات الإدارية من تسجيل الاسم والعمر ومحل السكن ودفعت الأجور مقدما، ومقدارها 200 ألف دينار، وبعد استحضارات سريعة، وضعوني على سرير متحرك يدخل في جوف جهاز كأنه قبر حديدي مخيف.
جهاز مدينة الطب من الأجهزة التي ما تزال تعمل بلا وهن وهو من جيل السبعينيات أو الثمانينيات في أحسن الأحوال، ولا أعرف بالتحديد تاريخ دخوله إلى العراق، دُفعت فيه إلى عالم موحش تماما، تساءلت مع نفسي ترى كيف ستكون وحشة القبر حيث لا صريخ لي؟ لم ألاحظ وجود أي تدابير لتخفيف الأصوات العالية التي يطلقها الجهاز، وتطرق بقوة داخل محيط مغلق من جميع الجهات إلا من الجهة التي دخلتُ في جوفه، ولو كنت أمتلك فرصة الانسحاب والتخلص من هذا العذاب الإرادي، لخرجت ولا ألوي على شيء ولا أتأسف عليه، هناك وأنا في وسط هذا التعذيب تذكرت قول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)، صدق الله العظيم، فتصورت نفسي يوم النفخة الأولى، حتى أنني من الضجر الذي أصابني أثناء الفحص قلت ساخطا لهم، أبعدَ هذا التعذيب تأخذون أجراً عليه أظنكم أنتم الذين يجب أن تدفعوا لي تعويضا عن عذابي؟ إن هذا الجهاز ليس للرنين المغناطيسي، إنه جهاز الضجيج الكارثي.
أخذت التقرير الطبي من المستشفى ومضيت به مساءً إلى عيادة الدكتور الفهد، فأخبرني بأنني أعاني من كدمات في رأسي وقد تحولت مع الوقت إلى تخثر غير خطر على الصحة، ثم كتب لي دواء وأخبرني بأن استمر عليه ما حييت، ولكنني أخذت الأمر على غير محمل الجد، واعتبرت ذلك نابعاً من حرص طبيبٍ على مريضه كي يسدّ عليه طرق الافلات من الالتزام بالتعليمات.
كانت الأيام تخبئ لي ما لم أكن لأفكر فيه، ولم يخطر لي على بال، ذلك أنني بدأت في شهر حزيران من عام 2002 أعاني من آلام شديدة في صدري وداخل أضلاعي وبخاصة منطقة الثدي الأيمن مع وجود ورم صغير في المنطقة، فاستشرت عمي الدكتور شامل السامرائي رحمه الله بما ينبغي عليّ فعله، فنصحني بمراجعة أطباء متخصصين بالأورام، وأوصاني جميع الأطباء الذين راجعتهم بإجراء تحليل من خلال أخذ عينة “خزعة” من المنطقة وإخضاعها للزرع ومعرفة نوع الورم، وبعد أن ذهبت إلى المختبر أخذوا العينة ولكنهم بعد مرور أكثر 72 ساعة أبلغوني بأنهم فشلوا في أخذ العينة المناسبة واللازمة لإجراء الفحص الدقيق عليها، بعد ذلك شعرت بتطور الألم في أكثر من موضع من جسدي وخاصة الرقبة وتحت الإبط، فنصحني أحد الأصدقاء بمراجعة الدكتور فائق السامرائي المتخصص بالأورام السرطانية، والذي ارتأى إجراء عملية جراحية فورية لرفع الغدد اللمفاوية والثدي الأيمن، ونصحني بمراجعة الدكتور خالد القصاب وهو جراح حاذق جدا.
كان عمي الدكتور شامل السامرائي يتابع كل هذه الملفات الصحية على الرغم من أنه تجاوز الثمانين من عمره ويرسل لي برسائل التطمين، ولأنه على علاقة طيبة مع الدكتور خالد القصاب فقد اصطحبني إلى عيادته وتم الاتفاق على ترتيبات العملية، والتي يجريها عادة في مستشفى الراهبات في الكرادة الشرقية، وأصر الدكتور القصاب على عدم تقاضي أجرته إكراما لعمي شامل، فهما زملاء مهنة وصديقان قديمان، وقد سبق لهما أن تطوعا معاً في حرب فلسطين عام 1948 وكان ثالثهما الدكتور عبد اللطيف البدري، رحم الله هذه النخبة من الأطباء الذين يحملون هذا الهاجس القومي المتدفق، واللافت أن تطوعهم تزامن مع تطوع كتائب البعث للدفاع عن فلسطين، وكان على رأس تلك المهمة القومية الاستاذ ميشيل عفلق مؤسس البعث ومفكره.
بعد أن اقترب موعد مغادرتي للمستشفى دفعت مبلغ 500 ألف دينار أي حوالي 250 دولارا أمريكيا فقط، أجرة الرقود والتخدير، ولا يفوتني أن أذكر أن عمي شامل “أبو أندلس” كان يتحمل معظم تكاليف علاجي في المستشفيات الأهلية وكذلك أجور الأطباء، وأود أن أشير أيضا إلى أن هذه العملية لو تُجرى خارج العراق لوصلت تكاليفها إلى آلاف الدولارات، ولكن تكاليف الخدمات الطبية في العراق كانت على الدوام زهيدة جدا، إذا ما قورنت مع أي بلد في المنطقة والعالم، كان هذا هو السائد قبل الحصار وبعده، إلى أن وقعت الفاجعة الكبرى بالاحتلال الأمريكي عام 2003، إذ تغير كل شيء بعده وانقلب وضع العراق رأسا على عقب، فقد دمر المحتلون الغزاة المؤسسات الطبية التي كانت توفر لهم ولغيرهم العلاج شبه المجاني.
الأطباء العراقيون مشهود لهم بالكفاءة بسبب قوة الدراسة في الكليات الطبية العراقية التي أقيمت على القياسات الجامعية المعتمدة في أرقى الجامعات في العالم، كان ابن عمتي الدكتور صباح عبداللطيف يتابع القضية عن قرب من دون أن يُشعرني بالأمر، إذ بادر إلى أخذ ما تم نزعه من جسمي إلى مختبر الدكتور راجي الحديثي، وبعد أن خرجت أخبرني أبو مصطفى “الدكتور صباح” الذي تحرك بسرعة كبيرة بين المستشفى والمختبر، بأن نتائج التحليل أظهرت أن الورم كان ورماً حميداً وليس خبيثا، حمدت الله كثيرا على نعمة رزقه لي محبة أقاربي لي ومتابعتهم لشأني، وحمدته على هذه النتيجة، التي ستتيح لي فرصة رؤية العراق كما خططت لذلك قبل نيلي الحرية، مع أنني مؤمن بالله إيمانا عميقا وبقضائه وقدره، وأن ما كتب الله لي واقع لا محال ولا رادّ له، ولهذا سلمت أمري إليه.
مكثت في مستشفى الراهبات عدة أيام، كانت زوجتي هي مرافقتي خلالها وتؤمن متطلباتي وأشعر أنها تعاني من وجع في داخلها، وتتساءل مع نفسها وإن كنت أقرأ تساؤلاتها بعيونها، هل عاد الغائب الموجوع كي يستريح أم ليعاني من آلام جديدة؟
كان اخوتي وأخواتي وأبناؤهم وأزواجهم متواجدين في المستشفى طيلة الوقت المسموح لهم بذلك، وزارني كثير من الأقارب والأصدقاء ممن كنت أعرف قبل الأسر أو ممن يعرف منهم أحدا من أقاربي.
احتجت إلى عمليات تمريض يومية لمرتين على الأقل، كنت خلال الأيام الأولى أذهب إلى عيادة الدكتور خالد القصاب في عيادته في المنصور، كانت زوجة أخي إياد وابنة عمي شامل غزوة “أم فاطمة” تأتي معنا أنا وزوجتي لهذا الغرض، وأذكر في آخر زيارة أنها وبناء على أمر من عمي شامل أخذت له هدية ثمينة هي مزهرية من الكريستال المتوفر في الأسواق، تعبيرا عن الامتنان له لإجراء العملية الجراحية مجانا.
بعد مكوثي في البيت لعدة أسابيع لم تحصل زيارة من قبل الجهاز الحزبي، فمرة أخرى يتكرر تجاهل التنظيم الحزبي لي في إبداء التعاطف معي في أزمتي الصحية الخطيرة، كما حصل بعد عودتي من الأسر، ولكن وضع شعبة العدل لحزب البعث العربي الاشتراكي في تعاملها مع الحالة كان مؤلما أكثر، لأنها هي التي ينبغي أن تتابع شؤون البعثيين بل وحتى المواطنين في منطقة عملها، ولكنها لم تفعل، بدا لي أن التنظيم فقد كثيرا من خواص التواصل الرفاقي أو الاجتماعي، مع من هم بوضع خاص يشبه وضعي، ليس بعد عودتي فقط وإنما حتى بعد أسري عام 1982، ومع ذلك فقد ضغطت على الجرح، وتحملت التحول الذي طرأ على سلوك البعثيين في زمن الحصار الذي أدى إلى تغييب لكثير مما كنا عليه في الماضي من تعاضد وتضامن إنساني ورفاقي ونفاخر به غيرنا، ولكن ضغوط الحياة اليومية كفيلة بتغيير قناعات الناس وطباعهم.
555