الخروج من قصور آيات الله

الجزء الثاني والعشرون

مع ارتفاع حدة الأوجاع البدنية التي كنت أعيشها واحدة تلو الأخرى، كانت التهديدات الأمريكية البريطانية بالعدوان على بلدنا تزداد سخونة مع أن شتاء 2002 ـ 2003 كان قد دخل العراق لتوه، كانت عواصم الدول الكبرى تشهد نشاطات محمومة، ففي واشنطن كانت طبول الحرب تقرعها جوقة الطبالين بقوة في البيت الأبيض والكونغرس، ويرقص على أنغامها الرئيس الأرعن جورج بوش الابن وجوقته الفاسدة من الكذابين والمزورين في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة المخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي، وفي لندن كان الخادم المطيع توني بلير يقتفي خطوات سيده بوش بانقياد وكأنه خروف يقوده ذئب إلى حتفه، وفي مدريد تختلط مصارعة الثيران مع حركات أثنار على وقع موسيقى الفلامنكو وافواج الجنود الذين يرسلهم إلى الكويت، وفي موسكو التي توشك أن تستيقظ من غفوتها، لتشهد قاعات الكرملين عروضا تسفح فيها آلاف القوارير من الفودكا، لتؤكد روسيا أنها ما زالت خارج الزمن، أما رأس الفجل الأحمر البكيني، فما زال يئن تحت ويلات الثورة الثقافية والمسيرة الكبرى.
دول العالم تحشد جنودها في مشيخة الكويت وأميرها يفتح خزائنه لتأمين متطلباتها المتنوعة، كيف لا وهي جاءت لتنتقم له من سيده، الجنرال الأمريكي شوارسكوف ومن بعده تومي فرانكس أو جون ابي زيد، قادة جيوش العدوان والغزو يتأبطون خطط الغزو، فتنشَطّت القواعد الجوية في قطر والسعودية وغيرهما، وتحشّد عشرات الألوف من الجنود من كل الجنسيات واللغات بعض أرسل جندي واحداً ليقول إنه حضر وليمة الشيطان، وهم مدججون بأحدث ما انتجته عقول التدمير الغربية من أسلحة فتاكة لغزو العراق، كان قردة شرق ميزوبيتاميا ينظرون بلهفة إلى من يلقي إليهم بشيء من الموز يتلهون به قليلا انتظارا للجائزة الكبرى.
اجتمع حدادو الشرق والغرب على كسر رمح الله في الأرض، وتحطيم جمجمة العرب، ولو إلى حين، مع كل هذا الضجيج الصاخب الذي يشد الأعصاب ويشل التفكير، حرصا على حدقة العين، العراق.
هكذا مرًت شهور الصيف على عجل وبأسرع مما كنت أريد أو أتوقع، وحثيثاً اقتربت الذكرى الأولى لعودتي من الأسر واستقر رأي زوجتي وأشقائي وشقيقاتي وأقاربي، على احتفالية بعيد ميلادي الأول وذلك بإقامة مأدبة عشاء في منزلي، لهذا فقد جاء اخوتي مع أسرهم من سامراء، اعترضت على الفكرة، لأن العراق يجتاز مرحلة صعبة جدا، وإذا بالجميع يقولون، هذه زوبعة لا تختلف عما سبقها من جرائم دولية شارك بها القريب والبعيد، لنحر العراق، “أنت لم تكن موجودا عام 1991 وعام 1998، عندما دمروا في الأولى حصيلة جهد سنين طويلة، وفي الثانية أجهزوا على ما تم إعادة بنائه، وكذلك سياسة تجويع العراقيين، لم يكتفوا بغلق الحدود، بل أرسلوا غربان الجو لتُلقي بالمشاعل الحرارية بهدف إحراق أكبر مساحات زراعة القمح في العراق في محافظة نينوى، لخلق أزمة غذاء أمام العراقيين، هم لن يسمحوا بالاستيراد ولا يُريحهم انتاج القمح في العراق، لن تختلف هذه الزوبعة عما سبق”، كانوا على يقين بأن العراق سيجتاز المحنة هذه المرة، كان رأيي مختلفا تماما، ولكن ليس من الحكمة إثارة الهلع في النفوس.
في النهاية أذعنت لرغبتهم.
صباح يوم الخميس 22 كانون الثاني 2003 ذهبت مع زوجتي بسيارتي الخاصة التي كانت زوجتي تتولى قيادتها، إلى مكتب شؤون المنظمات الشعبية الكائن قرب جسر الجمهورية في كرادة مريم، لمتابعة بعض الأمور الإدارية التي لم أعد أذكرها، لأنها جزء من تفاصيل ليست على قدر كبير من الأهمية، وكانت هذه آخر مرة أزور المكتب فيها، بعد أن أكملت مهمتي رجعت إلى حي العدل وذهبنا إلى أحد الأسواق في المنطقة، واتفقنا مع إدارته على إعداد كيكة كبيرة تليق بالمناسبة، مع وجبات طعام جاهز للضيوف الذين وجهنا لهم الدعوة لمشاركتنا فرحة مرور عام على العودة.
بعد أن رجعت إلى المنزل مضيت إلى مكتبة المنزل في صالة الاستقبال، فعدت بأحد الكتب الذي احتجت إليه في واحد من الموضوعات التي خططت لكتابتها، بعد أن عدت إلى غرفتي التي تتألف من مقطعين، مقطع للنوم وآخر كمكتب فيه كل المستلزمات من منضدة ورفوف للكتب، تخشّبتُ وأنا واقف في مكاني، ورحت في غيبوبة لم أعرف أنني دخلت فيها، لولا أنني سمعت ما قصّه عليّ الأهل، لقد كان آخر شيء بقي عالقاً في ذاكرتي أنني حاولت الجلوس إلى مكتبي، ولكنني عرفت فيما بعد أنني كنت واقفا ومتخشبا وأنظر إلى لا شيء في سقف الغرفة.
عندما أفقت من غيبوبتي التي لم أعرف كم بقيتُ خلالها غائباً عن الوعي، ووجدت نفسي في مكان غريب على عيني، بدأت أتساءل مع نفسي أين أنا وماذا حصل لي، كانت الأنابيب تحيط بي من كل مكان، فهذا جهاز للتنفس وأخر مغذٍ وثالث لا أعرف الغرض منه، لهذا وجدت نفسي ممنوعا من حرية الحركة، فقد وجدت نفسي في غرفة العناية المركزة في احدى المستشفيات، حينما شعر الآخرون بأنني أفقت تدافعوا نحوي، ولكنني لاحظت أن الطبيب المعالج منعهم من التقدم خطوة واحدة في غرفة الإنعاش، ولكن زوجتي وشقيقتي أسماء “أم ماجد” على ما يبدو، تحدتا المنع وهرولتا ألي بقلق شديد، وأنا بين اليقظة والغيبوبة قالت لي شقيقتي لا تقلق الحمد لله أنت بخير، أما زوجتي فلم تتمكن من الحديث فقد سبقتها دموعها فدخلت مرحلة انعدام الوزن وهي تمر بأسوأ حالاتها النفسية، وخاصة عندما لاحظت يديّ الاثنتين ووجهي، وقد غطتها أسلاك كهربائية، بعد أن أعطاها الطبيب دقائق معدودات لتبقى إلى جانبي ثم اخرجها من الغرفة الزجاجية، كانت تراقبني هي واشقائي وشقيقاتي، وإذا بها تصرخ بصوت عالٍ جدا، (دكتور تعال، وضع نزار غير طبيعي، بعد قليل دخل أخي مأمون وسهام إلى داخل الغرفة الزجاجية، ثم جاء الطبيب مسرعاً، فأجرى فحوصات جديدة وركّب على وريدي عددا من المغذيات الجديدة.
نظرت إلى سهام وتساءلت، أكُتبَ عليها كل هذا الشقاء الجديد بعد عشرين عاما؟ ولكنني أردت أن أعرف ماذا حصل لي بالضبط وأين أنا وكم هو الوقت وفي أي يوم، كل ما سمعته منهم “لا تقلق أنت بصحة جيدة وأنت الآن في المستشفى” كنت أدور بعيني مع الداخلين عليّ والخارجين من دون أن أؤثر على قرارهم.
بعد وقت حسبته طويلا سمح الأطباء لأفراد أسرتي بالمجيء إلي والحديث معي بحرية، عرفت أنني في مستشفى الكرامة في جانب الكرخ، وأن اليوم هو الخميس الثاني والعشرون من كانون الثاني 2003، أي أنني ما زلت في اليوم الذي يصادف مرور سنة على عودتي من الأسر، وقصّت علي زوجتي ما حصل لي، فقالت إن شقيقتك أسماء جاءت إليك في غرفة المكتب، ووجدتك واقفا وواضعا يديك على المنضدة وتنظر إلى السقف، وإنها سألتك على أي شيء تنظر، فلما لم تُجبها تقدمت نحوك وحاولت الإمساك بك، وإذا بك تسقط بين يديها فما كان منها إلا أن صرخت بأعلى صوتها ألحقوا نزار سقط أرضاً واحتمال أنه (…)، ولكنها لم تكمل عبارتها لأنها لم تشأ أن تصرّح بما لا ترغب بوقوعه، وتحوَل يوم الحفل بذكرى عودتي إلى موسم للعزاء إلى أن يثبت العكس، وتعالى الصراخ في كل مكان، في مثل هذه الظروف يُفقد الجميع أعصابَهم وتماسكَهم ورباطةَ جأشهم إلا من رحم ربي، سمع الجيران بما وقع فهبوا لتقديم العون كما هو شأن العراقيين في الملمات، ولم يستفسر أحد عن دين المحتاج للمساعدة أو طائفته وعرقه ووظيفته، فالمروءة والشهامة تعبران فوق كل هذه المسميات، جاء السيد إياد الجبوري هو أحد جيراني على صوت العويل، لم يشغل نفسه بالسؤال عما وقع، بل بادر فورا ونقلني إلى سيارته الخاصة ووضعوني في الحوض الخلفي، وركبت معي زوجتي سهام وتحركنا بسرعة في شوارع بغداد مُطلِقاً، العنان لصوت المنبه في سيارته وكأنها سيارة إسعاف، حتى وصلنا بوقت قياسي إلى مستشفى الكرامة، لأنه يعرف أحد أطبائها، سألت وماذا حصل لي بالضبط؟ قالت زوجتي لا أعرف ولكن الطبيب سيخبرك بكل شيء، حسنا أين هو الطبيب؟ قالوا سيأتي بعد قليل.
جاء الطبيب وكان هو طبيب الخفر في مستشفى الكرامة قال لي “الحمد لله أزمة وعدّت على خير، الآن اجتزت مرحلة الخطر وتستطيع الأن استقبال أقاربك”، سألت وماذا حصل لي قال حصلت لك جلطتان قلبية ودماغية في وقت واحد، وهذه حالة نادرة إلى حد ما، ولولا أن الله لطفَ بك ولو لم يجلبك أهلك للمستشفى في وقت مناسب، لأصبح وضعك في خطر كبير، وأراد أن يمنحني بعض الاطمئنان، فقال لي، لقد كنتَ بحاجة إلى نوع خاص من الإبر لزرقك بها وتسمى الإبرة النافورية، وسعرُها مليون ونصف المليون دينار، ولم نكن نقدر على صرفها لك، لأن مدير المستشفى وحده هو الذي يمتلك صلاحية صرفها، بسبب استمرار الحصار الاقتصادي على العراق، وتقنين المشتريات الطبية من الدواء والأجهزة، ولم يكن مدير المستشفى موجودا في العمل عندما جلبوك، ولكن ابن عمتك الدكتور سالم عبد اللطيف السامرائي الذي جاء إلى المستشفى لمتابعة حالتك مبكرا، وكان أحد أصدقائه طبيبا يعمل في المستشفى، هو الدكتور سلام هادي “ترك العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وهو موجود حاليا في السويد بعد اشتداد حملة استهداف الكفاءات العراقية” وهو صديق أيضا لمدير المستشفى، واتصل به وعرض عليه الحالة، فأمر بصرفها لك ولهذا تحسنت صحتك بفضل الله وحمده، وبالتأثير السريع الذي تتركه هذه الإبرة.
بطبعي ومنذ الصغر أكره المكوث في المستشفى، ولهذا قررت الخروج من المستشفى بمجرد أن أشعر بقدرتي على الحركة مع موافقة مشروطة من الأطباء، فالبقاء في البيت وتلقي العلاج هناك من دون قيود علي وعلى أقاربي، أفضل بكل المقاييس الشخصية، حتى لو لم تتطابق مع المقاييس الطبية، وهي تخفيف للضغط الذي كنت اسببه لاخواني الذين كانوا مصممين على البقاء في المستشفى لحين خروجي منها.
هذا فضلا عن أن العامل النفسي لوجود الإنسان بين أهله وأقاربه وأصدقائه هو ما يساعد على سرعة التعافي، ولم أعد أذكر كم مكثتُ في المستشفى ومتى استعدت قدرتي على الحركة والنطق كما كان الحال عليه قبل تلك الأزمة، وقد رافقني في المستشفى أخي مأمون (أبو زيدون) وأخي عبد الحكيم (ابو مروان)، طيلة رقودي فيها، وقد اخبرهما الطبيب بأن إدارة المستشفى ستطلب منهما المغادرة في حال وصول حالة طارئة.
للتعامل مع مضاعفات الجلطة القلبية تقاليد طبية راسخة من جانب المريض، منها الالتزام بعدم إجهاد النفس فوق طاقتها، مع الالتزام أيضا بالعلاج الطبي وبمواعيده وكمياته المحددة من جانب الطبيب الاختصاص، وكذلك إجراء الفحوص الطبية بمواعيد دورية على أكثر تقدير في كل ستة أشهر مرة مع تحليل مختبري للدم، والتقيد ببرنامج غذائي صارم والابتعاد عن أنواع محددة من الطعام لاسيما تجنب الأغذية التي تزيد من نسبة الكولسترول في الدم، والإكثار من الفواكه والخضار قدر المستطاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى