بعد أن استعرضت في الحلقات الثلاث الأخيرة أوضاعي الصحية، والأمراض التي طفت على سطح حياتي بعد عودتي من الأسر، أرجع إلى استعراض أهم المحطات التي مررت فيها خلال السنة الأولى من عودتي مستغلا الفراغات الزمنية الحاصلة بين تفرغ كامل للمرض، والوقوع في حالة مرضية جديدة.
وجدت أن إنجاز مهمة أخرى ترتبط بالوظيفة التي أحببتها، وهي تجديد هويتي في نقابة الصحفيين العراقيين، يعد أمرا حيويا لتجديد ارتباطي بالنقابة، إذ أنني لم أُسدد رسوم العضوية منذ عشرين عاما، خضعت النقابة خلال هذه المدة لكثير من التغييرات في هيكلها الرئاسي، وكان النقيب عند عودتي هو الشهيد عدي نجل الرئيس صدام حسين، والذي قضى وهو يقاتل المحتلين الأمريكان في مدينة الموصل، ببسالة الرجال ولم يستسلم هو وشقيقه قصي ونجله مصطفى، بعد أن وشى بهم نَذلٌ من معارفهم الذي ائتمنوه ولكنه باع نفسه رخيصاً للمحتلين، بعد أن ارتضى لنفسه مذلة قبول الرشوة الأمريكية ودلّ على ضيوف كانوا اصحاب فضل عليه لسنوات طويلة، ولكنه تنكر لفضلهم، والثلاثة بالمقاييس العربية “دخيل”، وهذه الصفة عند العرب تحقن دم قاتل الأب والابن، ولكن ناقص الأصل من أين يأتي بمثل هذه القيم النبيلة.
هذه البطولة الفردية التي أبداها عدي وشقيقه قصي ومصطفى، الذي اعتبره الإعلام الأمريكي أشجع طفل في العالم، لم تلغِ المؤاخذات التي تحسب على الدولة العراقية بشأن الشهيد عدي، فلا أحد يعلم كيف يأتي شاب في مقتبل العمر ولم تمض على عمله في مهنة الصحافة إلا سنوات معدودات، ليصبح رئيسا لنقابة النخبة المثقفة والمشاكسة، رغم أنه كان يُصدر صحيفة بابل والتي كان كثير من الصحفيين يتمنون الكتابة فيها، كما أصدر صحفا أخرى كان لها حضورها في الوسط الصحفي، وكذلك كان قد أطلق فضائية الشباب، إلا أن هذه التجربة لا تتيح له الفرصة ليكون نقيبا للصحفيين، من المعروف أن أهم مهمات الصحافة، إيصال الخطاب السياسي من الدولة للمواطن، وتنقل هموم المواطن للسلطة وتؤدي دور الرقابة الشعبية على أداء مؤسسات الدولة الإدارية والخدمية والانتاجية، بل وتكون سلطة رقابة حقيقية على سياسات الدولة وعلى أداء دوائرها، وحتى القطاع الخاص، فهل يدافع ابن الرئيس عن صحفي ينتقد أجهزة الدولة؟ ربما حصل هذا، ولكنه ليس قاعدة عامة بل ربما كان حالة مقطوعة.
ظننت أن هذا أحد الخيارات الخاطئة التي انزلق إليها البعض من الذين لا يخلو من وجودهم زمن، وفرض إجراءً ما كان لأحد أن يجادل فيه، ليس عن قناعة بل خشية من نتائج المجاهرة بالاعتراض على اختيار ابن رئيس الدولة نقيبا للصحفيين، هل كان الوسط الصحفي يعاني من فلتان كي يُؤتى إليه بابن الرئيس من أجل ضبطه؟ أم أن هذا الوسط أعدم الرمز الصحفي المؤثر في وسطه والذي يتحلى بالشجاعة على مواجهة التحديات ليضعه على رأس النقابة؟
في حين يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن أوضاع الصحفيين الاجتماعية والاقتصادية، باتت بحاجة إلى من يُسند مطالبهم المهنية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي وجدوا في ابن رئيس الجمهورية الذي اشتغل في هذه المهنة الجاذبة، الصوت الذي يستطيع الوصول إلى كل مفاصل الدولة، على الرغم من أن منصب نقيب الصحفيين في العراق أو في غيره، لا يغري الصحفيين البارزين بمنصب النقيب، فيذهب والحال هذه إلى صحفي من ذوي الخدمة الطويلة والذي يحظى عادة بتقدير الوسط الصحفي، وهو خيارهم لحل مشاكلهم وجلب المكاسب المهنية لهم.
لمّا راجعت مبنى النقابة في الوزيرية رحب بي السيدان جواد العلي أمين السر العام للنقابة، وأحمد عبد المجيد نائب النقيب، ذهبت من دون أن اصطحب معي هويتي السابقة لأنها رحلت معي يوم أسري في جبل المشداخ يوم 24 /3 /1982، ولكن الأمر ميسور الحل بالنسبة لنقابة تتعامل مع النخبة الواعية في المجتمع وتحتفظ بسجلات للصحفيين منذ تأسيس النقابة وحتى آخر يوم، بعد انتظار قصير جاء موظف الإدارة برقم الملف والهوية، فأنا كنت عضوا في النقابة يوم لم يزد أعضاؤها على 700 عضو عامل وأحمل الهوية المرقمة 698، لكنني عندما راجعت النقابة عرفت أنها تضم عدة آلاف من الأعضاء.
كنت قبل الأسر أشغل وظيفة رئيس صندوق تقاعد الصحفيين، بحكم وظيفتي كمدير عام لدائرة الإعلام الداخلي في وزارة الثقافة والإعلام، الذي يشغل عادة رئاسة الصندوق، مقابل أجر مقطوع قدره ستون دينارا شهرياً، وهذا الصندوق يتولى دفع رواتب الصحفيين المتقاعدين أو أسر المتوفين منهم من غير منتسبي الدوائر الحكومية، ويعمل في إدارة الصندوق حوالي ثمانية موظفين، واستنادا إلى القانون فقد كان مرتبي من ذلك الصندوق واجب الأداء مع كل المتراكم منه استناداً إلى قرارات مجلس قيادة الثورة، التي كانت تمنع قطع أجور أي منتسب يقع في الأسر أثناء الحرب، إلا أنني قررت عدم المطالبة بمستحقاتي لأنها من أموال الصحفيين من غير منتسبي الدولة، ويجب أن تخصص لهم ولهم فقط، وكان يمثل نقابة الصحفيين في الصندوق السيد سجاد الغازي، ويمثل وزارة المالية مدير عام فيها، على العموم تسلمت هوية نقابة الصحفيين الجديدة من دون أن أدفع فلسا واحدا عن الرسوم السابقة، وربما كان هذا أقصى احتفاء بي بعد عودتي تستطيع النقابة تقديمه لأسير عائد من إيران، إلا أنه احتفاء لا يرتقي إلى مستوى ما يجب على نقابة عاد أحد أعضائها من الرواد من مقبرة الأحياء وبعد أن ظن الجميع أنه لن يعود أبدا.
نائب نقيب الصحفيين السيد أحمد عبد المجيد لا معرفة لي به من قبل، ولكن السيد جواد العلي صديق وزميل من أيام العمل في الإذاعة والتلفزيون، ولكن رابطة العمل الصحفي هي التي كانت صلة الوصل مع السيد أحمد عبد المجيد، بعد استراحة تناولت فيها شاي النقابة، سألني السيد جواد العلي، هل سبق وأن حصلت على قطعة أرض من النقابة؟ أجبته بالنفي، قال هناك قطع أرض معدودة وأمر توزيعها منوط بقرار من النقيب الأستاذ عدي، فإذا رغبت فقد نرتب لك موعدا معه، قال لي الاستاذ أحمد عبد المجيد، دع هذا الأمر لي وسوف أرتبه إن شاء الله.
أردت أن أغادر المكتب ولكن نائب النقيب قال “لم أنت متعجل، أبق قليلا لنتعرف عليك بعد كل هذه الغيبة” ولنسمع منك قصص الأسر ومعاناتكم فيه، وبعد حوارات عن تاريخ الأسر، قال لا أنصحك بمقابلة الأستاذ عدي، لأنه لا يرتاح للأسرى، وأقص عليك الواقعة التالية وأترك لك حرية اتخاذ القرار الذي تراه مناسبا، في تبادل سابق للأسرى عاد صحفي إلى العراق ضمن دفعة من الأسرى، وجاءنا إلى مقر النقابة أنجزنا له كل متطلبات تجديد عضويته، وطلب مقابلة النقيب ليعرض له بعض ما عنده من مطالب، وكان له ما أراد فأبواب النقيب مفتوحة أمام الصحفيين كافة، وعرض عليه طلبه بالحصول على قطعة أرض سكنية، ولكنه فوجئ بتغير معاملة النقيب له، من بين ما قال له “لو كنتم رجالا ما وقعتم بالأسر، أنتم جبناء متخاذلون وتعاونتم مع عدو العراق، وبعد كل هذا تأتي وتطلب قطعة أرض؟ لو أردنا التعامل معكم وفقا للقانون فإن علينا سوقكم إلى السجون على أقل تقدير، أخرج من مكتبي ولا تريني وجهك مرة أخرى”، لا أدري إن كان نائب النقيب قد حضر اللقاء أم سمع الحوار عن بعد، ولم أعرف على وجه الدقة حجم المصداقية في هذه القصة وفيما إذا حصلت حقا أم لا، وإن كنت لا أتهم السيد أحمد عبد المجيد بأنه يريد التأليف على النقيب بقصة مفبركة، على العموم إن كانت صحيحة فهي تأتي منسجمة مع قناعات أجهزة الدولة وتصرفاتها معنا، وإن كانت تعكسها بطرق مختلفة، ولم أعرف أيضا من هو الصحفي المقصود بالحكاية لأن السيد أحمد عبد المجيد لم يذكر لي اسم، كما أنني لم أكن حريصا على معرفة اسمه، وحقيقة الأمر أنني لم ألتق المرحوم عدي ولا مرة في حياتي، وبالتالي، فلم يُصادف أن اطلعت على طريقة تعامله مع الآخرين سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وأظن أن من قبيل المنقولات، ما كان سائدا في الشارع العراقي الميال إلى المبالغة في وضع القصص وترويجها، في حالتي الحب والكراهية.
وبعد مضي كل هذه السنوات على هذا الأمر، فأنا أشعر بصدق السيد جواد العلي وحرصه على حصولي على حق من حقوقي على نقابة الصحفيين، لأنني الوحيد من الصحفيين القدامى الذي لم يُشمل بتوزيع الأرض، علما بأن زوجتي كانت قد راجعت النقيب السابق في عقد التسعينيات ولكنها عادت بخفي حنين.
واليوم أشعر أن السيد جواد العلي تصرف تصرفاً نابعاً من موجبات الوفاء لزمالة عمل طويلة ومشتركة في الإذاعة والتلفزيون، عندما كنت معلقا سياسيا لإذاعة بغداد ومديرا للأخبار في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون في النصف الأول من عقد السبعينيات من القرن الماضي، وهو كان يعمل في الإذاعة، وبحكم زمالة متينة بيننا أراد أن يُسدي إلي خدمة مهنية اعتبرها حقا ثابتا، كما أنني أشعر بأن السيد أحمد عبد المجيد كان نزيها أيضا في نصيحته الثمينة لي مع أنني لم أكن على معرفة مسبقة به، ولكنه شعر بأن أسيرا اقترب من الستين من عمره أمضى منها عشرين عاما في الأسر، وهو بوظيفته المرموقة لا يستحق أبدا أن يساء له بأي شكل من الأشكال من أيٍ كان من أجل قطعة أرض، وهذه القصة حصلت بعد عودتي من الأسر بأشهر معدودة.
669