بعد أن نشرت كتابي (في قصور آيات الله)، والذي صدر في ثلاث طبعات حتى الآن منذ عام 2009، ونتيجة المطالبات الملحّة من كثير من الرفاق الذين عشنا معاً الزمن الصعب في معسكرات العدو عشرين عاما، أو من أصدقائي القدامى والجدد، وجدت أنني يجب أن أتحدث عن الجوانب الإنسانية التي عشتها كأسير عاد إلى وطنه وكيف وجده، ثم كيف عاش مع أسرته وأقاربه وأصدقائه، ولم أجد صعوبة في اختيار عنوان الكتاب الذي أزعم أنني أنجزته منذ عدة سنوات، ولكنه وكنتاج سياسي وأدبي، كنت أضيف عليه وأعدل فيه وأحذف منه كلما وجدت ذلك نافعا بحيث لا يخل بالمعنى ولا بحقيقة ما حصل، حتى أستقر على هذه الصورة التي سأنشرها تباعا في الفيسبوك، على أمل أن تتاح لي فرصة نشره ككتاب بين جلدين، والله من وراء القصد.
نزار السامرائي
عمّان 15 /8 / 2021
1
مقدمة
وجدت أن إصدار هذا الكتاب (الخروج من قصور آيات الله)، يعتبر استكمالا للصورة التي رسمتها في كتابي “في قصور آيات الله” وعرضت فيه تجربة عشرين سنة من العذاب والمعاناة في قبور الأحياء في إيران، والتي دفع فيها آلاف الأسرى العراقيين ثمنا باهظا من عمرهم وأجسادهم، وأحيانا من كرامتهم نتيجة المعاملة البالغة الوحشية، التي تعمّد الإيرانيون خلالها إذلال الأسرى بكل الوسائل المتاحة لهم، من تجويع وعزل عن العالم الخارجي واهمال طبي متعمد من أجل القتل بلا رصاصة، حتى دفع كثير منهم حياتهم في معسكرات الأسر الإيرانية التي تعيد للأذهان أكثر سجون العالم القديم وحشية وقسوة.
بعد هذا كله، وجدت أنّ عَرضَ ظروف ما بعد العودة، ستبدو أمرا في غاية الأهمية سواء من قبلي أو من وجهة نظر القرّاء، تعبيرا عن مشاعر شخصية، لا أريد لها أن تبقى حبيسة بين الضلوع، ورصداً لظواهر سياسية واجتماعية كان العراق يعيشها نتيجة الحصار الاقتصادي الظالم بعد العدوان الثلاثيني عليه، هذا الحصار غير المسبوق حتى في الحصار القاري الذي فرضه نابليون على الجزر البريطانية مطلع القرن التاسع عشر، الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق، أمريكا التي يحلو لها أن تنعت نفسها بزعيمة العالم الحر، ومعها كثير من الدول التي وجدت نفسها تدور في الفلك الأمريكي طائعة أو كارهة، ففقدت سيادتها وقبل ذلك فقدت إنسانيتها، حصل هذا بعد أن تحولت الولايات المتحدة إلى مركز الاستقطاب الدولي الوحيد، نتيجة خروج الاتحاد السوفيتي مهزوماً بالضربة الفنية القاضية، ووحدة الألمانيتين بعد تهديم سور برلين وانهيار المنظومة الشيوعية وحلف وارشو، هذا فضلا عن العزلة السياسية التي عانى منها العراقيون كافة، جرّاء القرارات السياسية والاقتصادية الظالمة التي أملتها الولايات المتحدة على المجتمع الدولي عبر مجلس الأمن، ومسارعة بعض من الأشقاء العرب للالتزام بها، بل والتشدد في تطبيقها أكثر مما هو منصوص عليه في القرارات الدولية.
لقد فوجئ كثير من الأسرى بعد عودتهم إلى العراق، بما حصل لبلدهم، لأنهم شاهدوا الدمار الذي سببه قصف فاق في حجمه ووزن المقذوفات التي ألقيت على مؤسساته المدنية بما فيها الملاجئ التي صُهرت فيها أجسادُ أطفال ونساء وشيوخ طاعنين في السن، ما أستخدم من متفجرات في الحرب العالمية الثانية، شاهدوه بأعينهم التي بكت دما على تلك الوحشية التي يمتلكها الغرب والأشقاء على العراق، مما سبب لهم صدمة لم يكن ميسورا هضمها من قبلهم بيسرٍ وسرعة، وهم الذين رسموا في أخيلتهم صورا مشوقة لما ينتظرهم في وطنهم بعد طول غياب، خاصة أولئك الأسرى الذين قارعوا السلطة الإيرانية في عقر دارها، ولم يساوموا على المبادئ ولا على الوطن ولم يتعاونوا مع عدوهم وعدو بلدهم، إيران الشر التي خاضت حربا طاحنة ضد وطنهم ولم تكتف بظلمهم أثناء الحرب، بل واصلت ظلمهم وتعسفها مع كثير منهم، حتى بعد وقف إطلاق النار بعشر سنوات.
أنا لم أضع نفسي في أي يوم من الأيام في صف المعارضة السياسية أو الدينية لنظام حكم البعث ولا للرئيس صدام حسين رحمه الله، لأنني كنت وما أزال أنظر إلى نفسي على أنني ابن التجربة وجزء منها، وأنا من الذين يرون في صدام حسين رحمه الله، القائد الذي يحتاج إليه العراق زمنا طويلا، وسيبقى فنارا ومنارا للعراق حتى مئات السنين، رغم أنف كارهيه ومن خانوه في لحظة اهتزاز المبادئ، إلا أن القارئ سيمر على ملاحظات نقدية من داخل التجربة ليس للإساءة لها بقدر ما أشعر أنها ملاحظات جديرة بأن تُقال من أجل إغناء مسيرة الحزب في الحكم وتأشير السلبي منها من قبل أبناء التجربة كي لا يتلقفها الأعداء وينفخون فيها من نار كراهيتهم، وفي التقييم الموضوعي لتجربة 35 سنة من قيادة العراق، وعلى الرغم من أن الغزو الأمريكي أسقط أعظم تجربة عرفها العراق في عصره الحديث، في غزو 9 نيسان/أبريل 2003 الهمجي، إلا أن ما سأقوله سيأتي بلّغةٍ ما كان لي أن أطرحها بهذا الشكل، لولا أنني كنت أنظر إلى صدام حسين على هذا النحو من الإكبار والاعتزاز، ولولا أنني كنت أظن أن وطني كان يمتلك الرؤية السياسية الناضجة والفكرية والقدرة والإرادة على تخطي أكبر الصعوبات التي يواجهها، ولولا أنني رأيت العراق وقد تسلم سلطَته أكثرُ أعدائهِ حقداً عليه وأكثرهم ضحالة وجهلا ودناءة نفوس، وهم الفرس وأعوانُهم وأدواتُهم الرخيصة، إذ تحوّل العراق العظيم في زمن قصير بعد الاحتلال، إلى غابة يأكل فيها القويُ الضعيفَ والبندقيةُ تقتل الأعزلَ بلا رحمة، بعد أن تم تجريد السُنّة من كل أسلحتهم المادية والمعنوية وبعد أن خذلهم الأقربون وتآمر عليهم العالم.
عندما أوجه نقدا لتجربة البعث وحكم الرئيس صدام حسين في سياق هذا الكتاب، إنما أقصد توجيه النقد إلى مؤسسات الدولة وتدابيرها وإجراءاتها، وليس تناول السياسة العليا للبلاد، فإنما كنت أنطلق من وجع القلب الذي طعنَ صدري كأبن في بيت أبيه أو كأخٍ في بيت شقيقه، وهو يراه يتهاوى تدريجيا بفعل حشرة الأرضة (النمل الأبيض) أو الفئران وسائر القوارض التي نمت في غفلة من الزمن، نتيجة التحالف الأمريكي الإيراني الخليجي الصهيوني، مع حفنة ضالة من قادة الشيعة الذين خانوا قيمهم وانتماءهم الوطني، وبعض الأكراد الذين باعوا أنفسهم أكثر من مرة لمن يدفع أكثر، ومنافقون من الُسنة الجبناء، والباحثون عن السحت والطمأنينة الخاصة ولو على حساب شرفهم، جاء هؤلاء المجردون من أية مهارة لقيادة الحكم، باستثناء تقاليد السطو على المال العام وإدارة الفساد بمهارة فائقة، وطقوس اللطم وتعليق الآمال على الإمام الغائب (المهدي المنتظر)، وبقية ما يسمونهم الأئمة الاثني عشر المعصومين، فهل يمتلك هؤلاء ذلك لغيرهم صلاحا أو فلاحا بعد موتهم؟ ويسيرون عميانا وراء ما يسمى بالمراجع الذين لا يحسنون إلا فتاوى الحيض والنفاس والجنابة وتفخيذ الرضيعة، والذين لم يمتلكوا لأنفسهم ضرا ولا نفعا في حياتهم، ولكنهم يمتلكون قدرة فائقة على التحكم بعقول السذج والبسطاء من الناس، أو إصدار فتاوى خيانة العراق وتجويع العراقيين، من أجل تأمين مصالح إيران التي صارت قبلتهم في العبادات والمعاملات على حد سواء، وكذلك الإرث الانتقامي من كل ما يمت لأربعة عشر قرنا منذ نزول رسالة الإسلام على النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ثمانية عقود من عمر الدولة العراقية الحديثة، وما كان بإمكانهم تحقيق هدفهم بالوصول إلى الحكم في العراق لولا الاحتلال الأمريكي وتقديمه العراق لإيران هدية مجانية، كي لا تقوم فيه دولة تهدد مصالح التحالف الصليبي الصهيوني الصفوي، فمهد الأمريكيون لإيران الشر كل السبل لدخول العراق، على خط التحكم بالملف العراقي سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا، فما كتبته هو صرخة غضب وألم جُرح كنت أتمنى إلا يحصل للوطن ولا للعراقيين الشرفاء، الذين يحبون وطنهم وضحوا من أجلهم بأرواحهم، ولهذا جاء النقد مرّاً كمرارة المحنة التي عشتها سنوات الأسر الثقال، وأعيشها وعاشها العراق بعد القائد صدام حسين رحمه الله، وهي مساوية على ما أظن لما يشعره أسير سقطت البندقية من يده ساخنة فلم يكمل مشوار قتال أعداء الله والعراق، لا لخطأ ارتكبه هو وإنما لخطأ وقعت فيه القيادات الميدانية في بعض قواطع العمليات لأنها استخفت بما كانت إيران تعلنه من أهدافٍ توسعية بتصدير الثورة والتي تبدأ من العراق، أسير في أكثر بلد يكره أن يراه أو يسمع اسمه، ناهيك أن يعيش فيه لمدة عشرين سنة، ثم ليرى هذا البلد الذي يُبغضه كما لم يُبغض أي بلد آخر على الأرض، وقد ابتلع وطنه وحوّل أحلام العودة إلى كابوس مرعب ومرحلة ضياع وغربة في المنافي من دون أن يبزغ فجرٌ ينبئ بنهاية سعيدة لهذا التشرد الطويل، بعيدا عن أرض الوطن.
ولكنني عندما استعيد بعض صور المعاناة الطويلة في الأسر التي لا تريد مبارحة ذاكرتي التي أتعبتها السنون، وكيف ظهرت معادن بعض عرب الجنسية، تأخذني غصة خانقة لولا ما تختزنه الذاكرة عن خيانات حصلت في التاريخ العربي، ما زال العرب والمسلمون يرجمونها في موسم الحج، كناية عن رجم الشيطان وهو الموقع الذي دلّ أبو رغال أشهر خائن في التاريخ العربي، دلّ إبرهة على مكان الكعبة، فاستحق غضبا إنسانيا مدعوما من السماء، لكن هذا لم يُسعفني في نسيان إن الإيرانيين كانوا يتعمدون عرض صور لزيارات بعض رموز الإسلام السياسي في الوطن العربي، للمشاركة في ما يسمى بأسبوع الوحدة الإسلامية، الذي تم توقيته بين 12 و 17 ربيع الأول من كل سنة هجرية، كي يحاولوا تلفيق عيد ثالث للمولد النبوي الشريف، ولكن اختيار أسبوع واحد من كل سنة للوحدة بين المسلمين، ترمز إلى افتقادها طيلة أيام السنة الأخرى.
كان أكثر المترددين على طهران “سعيد شعبان” رئيس إحدى الجمعيات المنافقة في مدينة طرابلس في لبنان، وكان يزايد على الإيرانيين، في ولائه لهم وفي تحريضه على إسقاط نظام “البعث الكافر”، كما كان يحلو له أن يلوك الكلمات المسمومة التي تخرج من بين أنيابه، حتى أننا كنا نسميه تهكما “تعيس ثعبان” بدلا من اسمه، أما بقية جوقة الوافدين تسولا للتومان، أو للبركة من نظام الخرف خميني، فقد زار طهران “الصادق المهدي” الزعيم السوداني المتقلب مع زوجته سارة الفاضل، زيارة أوجعتنا كثيرا لأن عشمنا بأهل السودان لم يكن ليتوقع مثل هذا السلوك الشاذ، فقد خطب في صلاة الجمعة في طهران خطبة مستقلة كما كان قادة الحرس يلقون كلمات فيها لرفع الروح المعنوية وتحريض الإيرانيين على الصبر، وبدأ خطبته بعبارة هي مثل عربي قديم “الحق أبلج والباطل لجلج”، فبدأ كلمته بالكفر عينه، فقد أراد أن يقول للإيرانيين أنتم على حق فامضوا في طريق الحرب حتى النهاية.
وكان هناك من يتردد على طهران بنفسه، حاملا حقيبتين، الأولى لوضع ملابسه فيها، والثانية ليحمل فيها السحت من إيران ثمنا لقوادته على أمته، منهم حسن الترابي زعيم الإخوان المسلمين في السودان والتونسي راشد الغنوشي والجزائري عباس مدني، والمصرية صافيناز كاظم، يزورون طهران وهم يعرفون أنهم محتقرون من قبل خميني وبقية شلة المعممين الحاكمين في إيران، كالعاهرة التي تفقد قيمتها بعد الانتهاء من الفراش، وتموج في عقولنا تساؤلات عن مدى صدق انتماء هؤلاء للأمة العربية التي كنا ندفع الدم رخيصا من أجل حمايتها من شرور تصدير الثورة، لاسيما وأن إيران تستعرضهم لتقول للإيرانيين، “هؤلاء قادة السُنّة العرب يدعمون إيران في حربها”، وإذا ما التقت تلك المواقف السياسية مع فعل ميداني للنظام السوري، ولنظام العقيد القذافي بتزويد إيران بالصواريخ التي سقطت على رؤوس الأطفال في مدرسة “بلاط الشهداء” وغيرها من المراكز المدنية، فإننا لن نستغرب من سقوط الدولة العربية الإسلامية والأموية في الأندلس على يد أبنائها أكثر مما فعل أعداؤها، فهل ننسى ابن العلقمي وكيف سلم مفاتيح بغداد لهولاكو؟.
ولكننا عندما نعود إلى أنفسنا ونستعرض أسماء الخونة العراقيين الذين التحقوا بإيران من حزب الدعوة العميل أو المجلس الأعلى والذي كنا نطلق عليه “الأعمى” للثورة الإسلامية في العراق، والذي ترأسه في أول دورة له، الإيراني الأصل والجنسية والفارسي العرق محمود هاشمي شاهرودي، وجعلوا من باقر الحكيم ناطقا باسمه، كنا نخفف من لومنا على أشقائنا العرب، طالما أن العراق يمتلك كل هذا العدد من مفاقس الحشرات.