الديمقراطية … من طريق الثورة !

عقيل عبد الستار

      اتهام صدام حسين بالدكتاتورية ليس له معنى ! فلم يكن العراق قبله ديمقراطياً ولا أصبح كذلك بعده ! . كل القوى التي حاربت صدام في عهده كان هدفها انتزاع السلطة ومغانمها لاغير . ولم تكن تسعى من أجل الديمقراطية ، بل ان معظمها ، على اٍختلاف مذاهبه الدينية ، كان ينتمي الى الاسلام السياسي ، ويعد الديمقراطية من المحرمات في قاموسه السياسي ، فهي اقرب الى الكفر إن لم تكن بذاتها كفراً بواحاً !

      ابراهيم الاشيقر (الجعفري) ، اصبح رئيساً للحكومة التي نصبّها الاحتلال في بغداد ، وكان الرجل الاول في حزب الدعوة حينئذ . أجاب عل سؤال يتعلق بالديمقراطية قائلاً : ” اننا نأخذ من الديمقراطية آلياتها فقط ( ويقصد صندوق الانتخاب ) ، أما الديمقراطية كفلسفة فإننا نرفضها قطعاً ” ، أي أنه يقبلها شكلاً ويرفضها مضموناً . وعندما خلفه في موقعه نوري المالكي ، زاد الأخير على ذلك بأن أعلن صراحة معاداته للعلمانية والحداثة ، وأعلى من رايته الطائفية على راية الوطن .

مقالات ذات صلة

      الديمقراطية ، كما نعرف ، ليس لها جذر في موروثنا الثقافي ، فهي لم تكن من نبت تربتنا العربية ، ولم تنجح لحد الآن محاولات غرسها في هذه التربة أو تأصيلها في ثقافة المجتمع ، اذ لايكفي ان تحملها رياح العصر إلى بلداننا دون أن نتولى العناية بها وتوفير البيئة الصالحة لنموها .

       ولهذا نرى ، أنه ليس في العالم العربي حزب ديمقراطي ، بمعنى حزب يضع الديمقراطية في مقدمة أهدافه وبرامجه السياسية ، ويجسدها في بنيته وحياته الداخلية . فهي ان وجدت بين الأهداف ففي مرتبة ثانية ، وكثيراً مايكون وجودها من كماليات الزينة ، دون أية مضامين حقيقية .

     وليس هناك من فكرة أسيء استخدامها في معظم البلدان العربية ، ولحقت بها سمعة سيئة كما هي فكرة الديمقراطية . فمنذ دخولها العالم العربي في القرن الماضي على يد الاستعمار الغربي رافقها التشويه والتزوير . وكانت أولى البرلمانات لا تضم سوى عينات من الطبقات التي تخدم مصالحه . واذا مانجح بعض الوطنيين في الدخول الى هذه البرلمانات ، كما في العراق البريطاني ، سرعان ما يجري تعطيلها او حلّها . وربما كان لهذا الدخول المشوّه للديمقراطية الى بعض البلدان العربية عاملاً في أن تبقى فكرة الديمقراطية على الهامش في اهتمامات الناس وكفاحهم ، وأن يبقى التزوير قرين لها .

     ومما زاد الطين بلّة، ما سماه الاحتلال الامريكي للعراق في العقد الماضي بالعملية السياسية لاٍقامة ” عراق ديمقراطي جديد ” ، كانت اكثر سوءاً بما لايقاس عن تجربة البريطانيين في العراق في النصف الاول من القرن الماضي . فالطبقة الحاكمة التي انشأها الاحتلال الامريكي واقتصرت مؤسسات الحكم عليها ، بما فيها البرلمان ، ارتكبت من جرائم الفساد والنهب ما ليس له شبيه بحجمه في العالم ، بل وفي التاريخ الانساني كله . هذا فضلاً عن جرائم القتل والاٍبادة والتهجير وغيرها … ، وهكذا رأينا ” ديمقراطية ” تقوم على ركني الفساد والارهاب ، وتقبل بها احزاب الاسلام السياسي التي حوّلت الناس الى قطعان يقودها الى الهلاك ذئاب بعمائم ! ، وجعلت الانتماء الى الخرافة بديلاً من الانتماء الى الوطن . وخرّبت العراق لكي لايفكر احد انه الوطن او يمكن ان يعود وطناً يجمع بين الارض والحرية والحضارة .

    الدكتاتورية أفضل من الديمقراطية الفاسدة القائمة على التزوير ، لأن الدكتاتورية نظام ، أما الديمقراطية الفاسدة فهي فوضى وخراب ، والنظام بكل تأكيد هو افضل من الفوضى . الدكتاتورية قد تبني دولة قوية لكنها تضعف المجتمع ، والديمقراطية الفاسدة تهدم الدولة وتخرب المجتمع ، وهذا هو حال العراق اليوم ، يعيش حالة اللادولة ، وتسيطر على مقدراته سلطات مليشياوية لم تكتف بإيقاف تطوره الحضاري ، بل أعادته القهقري بما ينحط به قرنا من الزمان .

        وكانت المتغيرات الدولية ، التي جرت في اواخر الألفية الثانية  وبدء الالفية الثالثة ، قد نقلت العالم الى عصر لم يعد يقبل فيه بوجود النظم الشمولية والسلطوية . في وقت كان فيه العراق يتعرض الى العدوان الخارجي ويعاني من حصار جائر على شعبه دام 13 عاماً وانتهى بغزوه واحتلاله . كل تلك الظروف ، فضلاً عما كان يشوب العمل السياسي في العراق من قصور في الوعي والفهم والنظرة الى الديمقراطية ، قد حال دون انضاج تجربة ديمقراطية بمعايير مقبولة .

        وبعد الاحتلال ، تسلم حكم العراق من جاء بمعيته أو تعاون معه من الخونة والعملاء ، وعديمي الخبرة والمؤهلات ، والمتعطشين الى النهب والسرقة ، الذين يفتقرون الى اي وازع اخلاقي او شيء من ضمير . ومعظم هؤلاء ينتمون الى الاسلام السياسي ، وتعشعش الخرافة في أدمغتهم ، ولا صلة لهم بما اٍنتهى اٍليه العالم من تطور وحضارة . فجرى تدمير الدولة العراقية ، وتخريب كل ما شيدته من صروح العلم والثقافة والحضارة خلال قرن من الزمان ، ومطاردة وقتل كوادرها وخبرائها وعلمائها وقادة جيشها الافذاذ . وبموجب صيغة الحكم التي صممها الاحتلال ووضع دستورها جرى تشكيل حكومة وفق مفاهيم مشوهة للديمقراطية ، تقوم على ما سمي بالمكونات الطائفية والعرقية ، ولا علاقة لها بمفهوم المواطنة وبمصالح الناس كافة . وكان الغرض منها تمزيق الجسد العراقي ، اعتقاداً من الاحتلال بأن ذلك يحول دون سريان الروح من جديد في جسد ممزق . وعلى هذا الاساس قام حكم ميليشياوي في العراق ، استقطب طبقة فاسدة وتافهة ، وكان اشد قمعاً للشعب وإجراماً بحقه .

      ولكن الشعب العراقي كشعب عريق أصيل ، تمتد جذوره الى اول حضارة عرفتها الانسانية ، استطاع ان يجمع اشلاء جسده الممزق ، وأن يعيد إليه لحمته الوطنية ، فانبعثت من جديد روحه الوثابة ، وتجسدت في “ثورة تشرين” ، التي كانت ومازالت بحق ثورة شعبية بكل ما في الكلمة من معنى . شارك فيها العراقيون من كل الفئات والاعمار ، وكان في طليعتها الشباب ذكوراً وإناثاً ، الذين قدموا ارواحهم رخيصة من اجل مستقبل العراق ، وسالت دماؤهم لكي تطهر الوطن من رجس الخيانة والعمالة والفساد .

        وفي ظل حالة اللادولة التي يعيشها العراق ، نتيجة سيطرة الميليشيات ومافيات الفساد على مقدراته ، اضمحلت آمال الناس في إمكانية قيام ديمقراطية حقيقية ، أو في أن تؤدي تلك الترقيعات التي تقوم بها الطبقة الحاكمة الى ذلك . وهكذا وجد الشعب نفسه أمام خيار الثورة طريقاً الى الديمقراطية . ثورة تستعيد الوطن من مغتصبيه ومبددي ثرواته ، وتعيد بناء نظامه السياسي بما ينسجم مع مصالح الشعب وطموحاته . وكل ما عداها تزييف لاٍرادته وامتصاص لنقمته ، وتشتيت لجمعه بهدف الانقضاض عليه من جديد . ليس هناك من طريق الى الديمقراطية ، من دون إسقاط ما يسمى بالعملية السياسية بكل هياكلها وما اعتمدته من سياسات مشبوهة ومنحرفة ، وتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين واصحاب الشهادات المزورة ومن ليس لديه روح الانتماء الى الوطن العراقي . فطريق الثورة لابد ان يشمل إجراء تغييرات جوهرية في بنية المجتمع ومؤسساته وفي الثقافة السياسية السائدة .

           يجب ان يتحرر المجتمع من سلطوية المليشيات ، وسلطوية رجال الدين ووكلاء الولي الفقيه الايراني في العراق ، وسلطوية كثير من الزعامات العشائرية والاقطاعية عربية أو كردية التي أعاقت التقدم الاجتماعي واغرقت البلاد في الفساد . ولكي يكون المجتمع العراقي حراً ، من دون اية قيود تكبل ارادته ، لابد له من التحرر من الثقافات الرجعية لتيارات الاسلام السياسي ، بكل مذاهبه ، التي اشاعها وفرضها على المجتمع بدعم من الاحتلال الامريكي والنظام الايراني . تلك الثقافات القائمة على التحريم والتكفير ومعاداة الاخر ، والتي تنطلق من رؤى سوداوية للعالم ، تتسم بالتزمت والانغلاق ، وتحض دائما على الكراهية للغير والانتقام منه .

        تلك هي المهام التي تنتظر ثورة الشعب العراقي ، وحذار من القبول بتغييرات جزئية تبقي الطبقة الفاسدة في الحكم ، وتضمن لها استمراريتها في نهب ثروات الشعب . فهناك فرق كبير بين ديمقراطية تفتح الطريق لقوى الشعب الحية ، وتعبرعن مصالحه الجوهرية ، وبين ديمقراطية تدور في فلك الطبقة الفاسدة الحاكمة ، وتلحق بالشعب مزيداً من الفقر والبؤس والحرمان .        وليعلم الجميع ان ثورة تشرين ليست وليدة حالة يأس عند الشعب ، بل هي نابعة من وعيه ، وثقته  بنفسه ، وايمانه بالمستقبل الأفضل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى