استنسخت إيران كل ما في القاموس من خبث فارس على مرّ التاريخ وألبسته أردية دينية جذابة، ونشطت بكل دهاء تختزنه الشخصية الفارسية المنطوية على الخديعة والغدر في عرضه في الأسواق الدولية عموما والإسلامية خصوصا تحت لافتة الدفاع عن آل بيت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ورفع المظلومية عن أتباعهم، وربما أجد لزاما عليّ أنْ أعترفَ وإنْ على كراهةٍ مني أنّ إيران استطاعت منذ عام 1979 أن تحقق خلال فترة وجيزة تحت سلطة العمامة الطائفية، ما عجزت عن تحقيقه في عقود كثيرة تحت القبعة الأمريكية، ولا في ظل سياسة التحديث التي اتبعتها نظم حكم توالت على فارس من قبل أن يتحول اسمها إلى إيران في العيد القومي الفارسي “نوروز” عام 1935 بقرار من رضا خان الذي كان شاه إيران في ذلك الوقت، ذلك أن العمامة توصلت إلى استنتاج “وهو صحيح” أن الشعارات الوطنية والقومية مهما تمكنت من النفوس وسيطرت على المدارك تبقى “في مجتمعنا الشرقي على الأقل” واهنة كثيرا أمام قوة المعتقد الديني الغلّاب وخاصة في حال طرحه على هيئة مظلومية، وفي تقديري أن الحكم بنجاح أي مشروع أو فشله لا يقاس بتطور العلاقات الرسمية بين الدول، بقدر ما يقاس بقدرة البلد الذي يمتلك مشروعا عابرا لحدوده على تصدير هذا المشروع، وينجح في تحويله إلى بضاعة مطلوبة على المستوى الشعبي حتى بفرض وضع قيود رسمية من الدول الأخرى على آلياته ومفرداته التي تتحول إلى سلاح خارجي مضاد للخيارات الوطنية.
ولكنّ إيران لم تعتمد طريقا واحدا للوصول إلى هدفها النهائي الذي رسمه دستورها لعام 1979، فقد تعاملت مع كل بيئة ما يناسبها من طرائق وأساليب وإن تصادمت مع بعضها بين قطر وآخر، هذا يقتضي بداهة أن تتدارس إيران مفاتيح كل مجتمع دراسة ميدانية دقيقة وتضع لها المفاتيح المناسبة لرسم برامج سياسية ثقافية مذهبية بما يناسب المزاج الشعبي السائد، ولمّا كان التحرك الإيراني الحالي تحركا مذهبيا يعتمد التشيّع، فقد وجدت في وجود أقليات شيعية في مختلف بلدان العالم رافدا غنيا في إعداد البحوث والدراسات لوسائل التغلغل والانتشار فيها كون تلك الأقليات تعيش ظروف المجتمع بتفاصيله الدقيقة مع مستلزمات التحرك، وهنا تبرز أمام إيران التجربة الإسرائيلية التي ظلت تعتمد على وجود الأقليات اليهودية في مختلف قارات العالم وتوظيف مهاراتهم العلمية وخاصة في علم الاجتماع وكذلك الامكانات المالية والاقتصادية لخدمة المشروع الصهيوني التوسعي حتى في ملف الرصد العسكري والتعرف على مكامن القوة والضعف في كل مجتمع وماذا يحب وماذا يكره، وهنا يستطيع الراصد الحاذق اكتشاف التخادم بين الصفوية والصهيونية حتى وإن لم يكن تخادما متفقا عليه أو تخادما ميدانيا.
ويلاحظ المراقب أن إيران في عهدها الجمهوري احتفظت بكثير من عناصر النظام الشاهنشاهي السابق باستثناء القيادات العسكرية العليا التي كانت تحمل ولاءً للشاه والوزراء، أما الوظائف الأدنى فقد احتفظ كثير منهم بمناصبهم وحافظوا على درجة ولاء لافتة لإيران حتى وإن كانوا يضمرون عداءً لنظام الخميني وتم توظيف مهارات كادر النظام السابق اقتصاديا وثقافيا ودبلوماسيا كي يستكمل النظام الجديد بناء مؤسساته الخاصة، وهذه مزية تحسب لإيران حتى عند أكثر أعدائها بغضا لها، بل إن نظام الخميني لم يغفل توظيف الحركات السياسية القائمة بما فيها المعارضة للنظام الجديد ّأو الموالية للشاه في خدمة الدولة الإيرانية، فالمعارضون الإيرانيون في الولايات المتحدة وأوربا كانوا أدوات مجندة لخدمة إيران طيلة الفترات التي كانت بلادهم بحاجة إليهم ولم يسألوا أنفسهم عما إذا كانت تلك المساعي تقوي النظام على حسابهم أو تقوّي بلدهم بوجه الدول الأخرى في التوازنات الإقليمية والدولية، وهذا ما لاحظناه بكل وضوح أثناء الحرب العراقية الإيرانية أو بعد ذلك في توريدات السلاح أو المتطلبات التكنولوجية لتطوير البرنامج النووي الإيراني، في حين أننا لاحظنا أن الآلاف مما يسمى بالمعارضين العراقيين قد حرضوا البلدان التي كانوا يعيشون فيها على بلدهم، أما أسرى الحرب خلال حرب الثماني سنوات فقد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى “توابين” فقاتلوا جيش وطنهم في ظاهرة نادرة على مر العصور، فهل أن هذه الظاهرة ناجمة عن خوف من الآسرين فقط؟ أم وراء ذلك السقوط أسباب أخرى؟
لا شك أن المعتقد الديني والعرقي والطائفي وحتى الانتماء السياسي يتفوق في العراق على الانتماء الوطني للعراق وفي العراق فقط للأسف الشديد !!!!!!!!!!!!!!.
وكانت إيران تراقب خطواتها بشكل دوري فتعيد النظر بأساليبها وتُطورُ برامجها في البلدان التي حققت لنفسها موطئ قدم فيها، تبعاً لما تحققه من نجاحات أو ما تصادفه من إخفاقات، ومن خلال تبادل الخبرات بين الساحات المختلفة التي تنشط فيها، وكانت إيران تحقق نتائج مبهرة في توسعها وتمددها على حساب القيم الوطنية للبلدان التي تنشط فيها، مستغلة في كثير من الأحيان التنسيق الميداني بين مرجعية النجف ومرجعية خامنئي على الرغم من ظاهر الصراعات بينهما على قيادة الشيعة في العالم، فمرجعية النجف تتبارى مع خامنئي في فتح المدارس والمراكز الصحية في آسيا وأفريقيا استدراجا للفقراء والبسطاء لقبول التشيّع طالما يوفر لهم الأموال والخدمات المجانية، تحت شعار خدمة المذهب.
اعتمدت إيران لتنفيذ خطتها في السيطرة على البلدان الأخرى على سلسلة من المفاتيح الثقافية والاجتماعية والسياسية ثم تنتقل تدريجيا إلى طرح فكرها الديني التكفيري بهدف إزاحة العوائق التي تظن أنها تحول دون انتشارها السلس في البيئات الجديدة، وفي كافة مراحل التحرك، تُغدق إيران الأموال مهما كانت باهظة التكاليف على ميزانيتها، فالإنفاق على المنظمات الخارجية الإيرانية الرسمية أو التي تأخذ طابعا محليا بأسماء غير إيرانية والتي يتم ربطها لاحقا بالجهات الدينية والرسمية الإيرانية، يستنزف موارد إيران مهما كانت عظيمة، لأن إيران تضع على رأس جدول برامجها دعم الانتشار الخارجي لأنه الضمانة الأكيدة والسياج المتين لها مستقبلا.
وتقوم الحسابات الإيرانية على أن أي إنفاق خارجي حتى وإن بدا نزيفاً لمواردها وعلى حساب رفاهية الشعب الإيراني، فإنه أي هذا الإنفاق سيتحول في القريب المنظور إلى أنجح استثمار سياسي اقتصادي على المدى البعيد، فضلا عن كونه مشروعاً أمنياً عالي المردود تقيم فيه إيران سواتر توزعها على مسافات متباينة لحماية أمنها الوطني، فإيران تشبه إسرائيل في أنها لا تتحمل نقل المعركة إلى داخل أراضيها.
وبعد أن تُثبّت إيران أقدامها ولو جزئياً في إحدى الساحات وتصبح لها أدواتها السياسية المحلية التي تأتمر بأمرها أو تنسق معها، تنتقل إلى مرحلة متقدمة في هيمنتها، وهي القبول ببعض حقائق الحياة السياسية في ذلك البلد والإقرار للقوى السياسية التي كانت حتى الأمس القريب ممسكة بمفاتيح الحياة السياسية بما تمتلكه من امتيازات تقليدية، كي لا تستثيرها كمرحلة أولى ثم تدجينها والتهامها لاحقا، وهذا يحصل من دون التعرض لتقاليد العلاقات الخارجية للبلد، فهذا النهج وحده هو الذي يضبط إيقاع التمدد الهادئ على حساب الأطراف الأخرى.
وتتدرج الخطوات الميدانية تحت إشراف مباشر من دولة الولي الفقيه، ابتداءً من الإعلان عن قبول المشاركة الجزئية في الحياة السياسية حيثما أتيحت للقوى المرتبطة بإيران المشاركة في حكومات الدول الأخرى، واستنادا إلى مبدأ خذ وطالب تتصاعد الضغوط المفروضة على الشركاء لتوسيع نطاق الشريك الجديد ليتناسب إما مع رصيده الشعبي المفترض وإما مع قدرته على التحرك النشيط في البيئة التي يتحرك فيها.
ولعل لبنان يقدم لنا أصدق نموذج لتطور الهيمنة الإيرانية عليه، فقد كان ممكنا لإيران أن توظف الجو الديمقراطي للإجهاز على الديمقراطية في البلد الذي كان الآخرون يطلقون عليه رئة الشرق الأوسط السياسية، وبقدر ما نجحت إيران في استنبات حركة شيعية فاعلة منذ عهد الشاه باسم حركة المحرومين (أمل) ثم في عهد الخميني من استنبات حزب الله، فقد نشطت الحركتان وبدعم مالي مفتوح لشراء المطبوعات وفتح قنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعي تفوق كثيرا طاقة بلد مثل لبنان بتنوع تضاريسه السكانية التي تشبه تضاريسه الجغرافية، على تحمل هذه الأعداد الكبيرة من أجهزة الإعلام والصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، فدخل لبنان في سباق تسلح إعلامي غير مسبوق أدخل المواطن في شبه غيبوبة من وعي كان هو الأعلى في الوطن العربي.
كان اسم فلسطين يتردد بمناسبة ومن دونها في أدبيات المتصارعين العرب وامتداداتهم حتى فقد المواطن العادي بوصلته ولم يعد يميز بين من هو جاد فعلا في تبني هدف الحق العربي في فلسطين وبين من يتخذها لافتة تجارية لدكان كبير أو بسطيّة صغيرة على أحد أرصفة شارع قصي في بيروت أو غيرها من المدن اللبنانية.
ولمّا شعر حزب الله اللبناني أنه تمكن من خصومه عبر سلسلة من الخطوات المرسومة في معبد النار في فارس والمنسقة في الضاحية الجنوبية، عبر توظيف ما يسمى بالمقاومة لإرهاب الداخل اللبناني أفراداً وجماعات وأحزابا ودولة بكل أجهزتها ومؤسساتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، ومارس أعلى درجات الإرهاب في الداخل واستعرض القوة وبالغ كثيرا في تصوير قوته، حتى خضعت لسلطته الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية فاختزل الدولة بالكامل، انتقل من الثلث المعطِّل في الحكومة إلى الكل المتحكم في القرار السيادي اللبناني وكأن الزمن أعاد إلى الذاكرة تجربة الحزب الواحد في كوريا الشمالية هذه الأيام، ولكن حزب الله استنبط منهاجا حكوميا فريدا من نوعه في أي مكان في العالم، فقد صادر الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية في البلاد، وشلّ جميع القوى من خلال السيطرة على البرلمان اللبناني إما بالأغلبية المقتنعة بخطه، وإما بالخوف من عمليات تصفية لكل من يخرج على رغباته وإرادته، وبعد أن أطبق على كل مفاصل الدولة لم يشأ أن يقطع كل خطوط الاتصال مع الدول الكبرى، لذلك خرج علينا بمشروعه الأكثر خطوة من الاستيلاء العلني والرسمي الكامل على لبنان، فأوجد لعبة ثنائية الحكم أو السلطة الحقيقية المتحكمة بكل القرارات والسلطة التي تتعامل مع العالم أي أن لبنان يعيش الآن تحت سلطتين الحكومة الرسمية والتي (لا تحل ولا تربط كما يقال) والحكومة الموازية التي تملك وتحكم ولكنها مصونة غير مسؤولة، ويبدو أن حزب الله اقتبس من الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين مقولة (خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء) من أجل الوصول إلى هدفه المرحلي وصولا إلى هدفه النهائي الذي أعلنه حسن نصر الله صراحة، من إنه (لا يريد دولة إسلامية في لبنان وإنما يعمل من أجل أن يكون لبنان جزءً من جمهورية إيران الإسلامية التي يحكمها الولي الفقيه علي خامنئي) في خطبة معلنة على أجهزة الإعلام.
ويهدف حزب الله من خلق حكومتين، الأولى رسمية منزوعة الصلاحية، والثانية موازية تمتلك كل أدوات التحكم في البلاد، أن يضمن عدم الدخول في صدام متعدد الأطراف وخاصة مع الولايات المتحدة، تأسيساً لمقولة (كن قريبا من عدوك أكثر من قربك من صديقك) هذا على فرض أن هناك عداءً حقيقياً بين الجانبين، من جهة وأن يُبقي على خطوط الاتصال مع الولايات المتحدة كمُحاورٍ عن نفسه وكوكيل عن إيران عند الضرورة من جهة أخرى، وهكذا بتنا نرى اليوم في لبنان حكومتين رسمية بنكهة أمريكية، وإيرانية القلب والوجه واللسان موازية وأكثر تحكّماً.
ويبدو أن ما حصل في لبنان بخطواتٍ بطيئة امتدت منذ عام 1982 وحتى 2005، يراد استنساخه في العراق بسرعة أكبر، مع اختلاف جذري وهو أن العراق ثروةٌ وله عُقدٌ تاريخية مع جيران كُثر، في حين لبنان له ثلاثة جيران البحر المتوسط وهو مصدر للقوة إذا ما تم توظيف امكاناته، وسوريا مع عُقدّ الأخ الكبير مع أخيه غير الشقيق، وفي الجنوب الكيان الصهيوني الذي باسم التصدي له سُفكت دماءٌ عربيةٌ كثيرة ولكن بأسلحة عربية مستأجرة من إيران أو من بلدان أخرى.
في الفكر الاستراتيجي، أن أي إنجاز مهما كان ضئيلا، يقدم إغراء عالياً للبناء عليه واتخاذ كل ما من شأنه الحفاظ عليه وتطوير البرامج لتوسيع نطاقه والبحث عن ميادين أخرى لمباشرة العمل فيها على أساس ما تحقق، وهذا هو الشيء بعينه الذي باشرته إيران في العراق بعد أن تسلّمته من الولايات المتحدة بتخطيط رسمته أجهزة مخابرات دولية، بلداً مدمّر المؤسسات تعبث به المليشيات الطائفية التي تحركها عُقُدُ التاريخ والجغرافية وصحوات باعت نفسها بثمن بخس للمحتلين.
لم يكن بوسع إيران أن تحقق برامجها التاريخية والطائفية في العراق دفعة واحدة، لحسابات تعرف أن مردودها سيكون أقل بكثير من التضحيات والخسائر التي عليها تقديمها لتحقيقها، فكان عليها أن تعود إلى خزين التقاليد الفارسية الحافل بعقدِ التحالفات مع الأضداد وانتظار الوقت للإجهاز على الجميع، وهذا هو ما حصل فعلا، وربّ سائلٍ يتبادر إلى ذهنه تساؤل مرير، إذا كانت إيران تسيطر على كل أوراق اللعبة في العراق على هذا النحو فما هي الموانع من إعلان الخطوة النهائية أو ما الذي يجعلها تتريث كثيرا بحيث تجازف لاحتمال ضياع الفرصة التاريخية السانحة الآن منها إلى الأبد، فلَم تعلن إلحاق العراق بدولة الولي الفقيه دفعة واحدة؟ أو لم تتح الفرصة لعملائها لإعلانه دولة شيعية كمرحلة تمهيدية لإلحاقه بإيران فيما بعد؟ وما الموانع الداخلية والخارجية في هذا الشأن؟ ربمّا يقارن من يفكر بهذه الطريقة بين ما كان يحصل في الأزمان الغابرة من إلحاق دول بأخرى بعد إزالتها من الخارطة نتيجة لاحتلال عسكري، أو بين ما يمكن أن يحصل مع وجودِ مركزيْ الاستقطاب الدولي أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، وبين عالم اليوم المحكوم بتوازنات المصالح الاقتصادية المرتبطة بالأمن الإقليمي والدولي والذي تفرض فيه الولايات المتحدة رأيها في نهاية المطاف، ولكنها تتحرك من دون أن تعطي فرصة للمقابل أن يتكهن بخطوتها اللاحقة أو من هم أعداؤها الحقيقيون ومن هم حلفاؤها وأصدقاؤها وشركاؤها، فأمريكا بكل قوتها العسكرية الجبارة التي لم تتهيأ لأية إمبراطورية سابقة على مر التاريخ، لا تريد أن تبدو وكأنها تريد ابتلاع العالم لقمة واحدة، أو تتحول إلى قوة احتلال عسكري علني وصريح، لأنها تعرف الكلفة العسكرية والسياسية والمالية المترتبة على مثل تلك الخطوة وردود الفعل التي قد تُعيد بعضا ًمن تحالفات الأمس، فهل يُعقل أن تخرج إيران عن هذه القاعدة وتجازف بالإقدام على خطوة ضمِ بلدٍ بحجم العراقِ ووزنهِ مع كل منظومة العلاقات الدولية الشائكة القائمة حاليا؟
في ضوء كل هذه الحقائق أطلقت إيران لوكلائها المحليين في العراق حرية التحرك في خدمة مشروعها النهائي، من دون أن تعطيهم فرصة التفكير بمعزلٍ عنها، لأنها تعي جيدا أن عملاءها سيتبارون في مزايداتهم لكسب رضاها بما يمكن أن ينعكس ضررا كبيرا على مشروعها الاستراتيجي في العراق وفي مناطق أخرى، فيتهاوى كل شيء نتيجة نزقِ عميلٍ موالٍ لها استعجل الوصول إلى رضاها قبل أن يسبقه طرفٌ آخر، وربما كانت إيران تبذل في لجم بعض المليشيات الولائية جهودا أكبر من تحجيم القوى المعادية لها، فإيران تخطط بأعصابٍ باردةٍ وتعرف إنها إن قدّمت للقوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة ما يرضيها، فإن الأخيرة على استعداد لمقايضة مناطق النفوذ والمصالح مع دولة الولي الفقيه والاعتراف بها قوة إقليمية تتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط والوطن العربي مع تركيا وإسرائيل، وعلى الرغم من أن إيران ترفع عاليا شعار الموت لإسرائيل، وأن تحرير القدس هو هدفها المقدس، إلا أنها على استعداد للجلوس مع تل أبيب على مائدة تقاسمِ المصالح معها، ارتكازا على موروث مقتبس مع ودّ قديم بين الفرس واليهود يعود إلى عهد قورش الملك الفارسي الأكثر حضورا في الوجدان السياسي والموروث الشعبي للفرس عبر التاريخ، ولولا بعض الحياء والمصالح السياسية والمذهبية لما تردد خميني في خطابه الأول بعد وصوله إلى السلطة من إعلان دولته كامتداد لدولة قورش.
ومن أجل إحكام السيطرة الكاملة على القرار السياسي في العراق، فإن إيران لم تعدّ تطيق وجود شريك لها في تسيير دفة الأمور حتى لو كان ذا فضل تاريخي في وصول التحالف الحاكم شكلا لا مضمونا في العراق، أو كان ذا فضل ممتد على عدة عقود في إدخال إيران الشاه عبر السافاك وبعد ذلك إدخال إيران الولي الفقيه عبر الحرس الثوري في كل أجزاء العراق منذ عام 1958 وحتى الاحتلال الأمريكي الأطلسي الصهيوني الصفوي عام 2003، لهذا يلاحظ المراقبون تصاعد حدة الاحتكاكات الأمنية بين مليشيات الحشد الشيعي وبين قوات البيشمركة الكردية، فإيران تريد العراق لها بلا شريك في القرار والثروة والسياسة، على الرغم من أنها لا تريد الظهور على المسرح كبطلٍ لمسرحية من ممثل واحد، بل تريد أن تلعب دور المؤلف والمخرج والملّقن، ولكن إلى متى تستطيع إيران ضبط النفس أو ضبط النار مع وجود شركاء متشاكسين لا يطيق أحدهم التخلي عن سنت واحد من التركة لصاحبه؟ لا شك أن لصناعة السجاد في إيران تأثيراته على السلوك الجمعي، بحيث تثور تساؤلات مشروعة، بعنوان أيهما سبق الآخر طول الصبر أم صناعة السجاد؟ أي بعبارة أخرى من أوجد الآخر هل كان الصبر سببا في نجاح صناعة السجاد اليدوي الإيراني؟ أم أن صناعة السجاد هي التي أعطت للفارسي هذه القدرة العجيبة على تحمل الوقت الطويل في إنجاز سجادة صغيرة؟ حتى أن هذه الصناعة مستمرة على الرغم من أن التكنولوجيا قد دخلت على عالمها، إلا أن قطاعات واسعة من الإيرانيين ما تزال تمتهن هذه الحرفة.
لقد أثبتت تجربة نحو ثمانية عشر عاما تحت الاحتلال الإيراني، أن إيران إذا خُيّرت بين أن تأخذ سلطة رسمية من دون السيطرة الحقيقية على مطبخ صنع القرار، أو الاستحواذ على الثروة، فإنها تفضل الخيار الثاني حتى لو اُتهمت بأنها فقدت كل نفوذها في البلدان التي تواجدت فيها حقبة من الزمن، ولهذا فإننا نلاحظ أن إيران تركت للأمريكان هامشا واسعا في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة، وللأكراد والعرب السنة أن يلعبوا فوق السطح لعبتهم المفضلة أي لعبة المباهاة والتبجح، أما القوى الولائية فلها كل المفاتيح المالية والأمنية وسلطة اتخاذ القرار السياسي بلا منازع، ولهذا فإن طهران لن تسمح بإفلاتِ خيوط اللعبة من بين أصابعها، ولذا تتحرك على المحاور التالية:
1 – تحريك مليشيا الحشد بالكيفية التي تخدم علاقاتها مع الولايات المتحدة سلبا ًوإيجاباً لتجعل من مفردات هذا التحرك أداة ضغط على الشارع العراقي بكل مكوناته وعلى السفارات العاملة في بغداد، أو إيقاف هذه الممارسات مقابل مكاسب ميدانية، واختطاف النشطاء والمثقفين من أجل تكميم الأفواه بل وقطع الألسن لمنع أي صوت معارض من الارتفاع ضد النفوذ الإيراني أو ضد عملائها من المنظمات السياسية والمليشيات المسلحة، بما يؤمن إيصال رسالة إلى الولايات المتحدة من أن من يريد التعامل مع الملف العراقي عليه أن يفتح قنوات اتصال مع طهران مع كل ما يرافق ذلك من تنازلات لإيران في ملفات إقليمية أخرى، وليس مع حكومات شكلية في بغداد لا تملك ولا تحكم، لها وجاهة السلطة وبعض امتيازاتها المالية من دون قرار سيادي واحد.
2 – تحريك ما يسمى بنواب التحالف الشيعي الحاكم لممارسة أعلى درجات القمع الفكري لإخراس أعضاء المجلس ممن يسمون بممثلي المكونات، ومواصلة الحديث بلغة الأوصياء على الآخرين لإجبارهم على الخنوع والخضوع لإرادة الطرف الحاكم المتحكم بمقاليد الأمور، والذي أبقى نتيجة استمرار شراكته في العملية السياسية، على ما يسمى بالمؤسسات الدستورية كالبرلمان كي تبقى شاهد زور تسوّق نظام الحكم القائم كسلطة شرعية منتخبة من قبل الشعب في المحافل الدولية.
3 – فرز قوى مسلحة هي بالأصل جزء من مليشيا الحشد وبأسماء وهمية وإطلاقها لممارسة أعلى درجات القمع السياسي والفكري، وارتكاب جرائم قتل جماعي تتوزع جغرافيا على مساحات مختلفة من أجل ترويع الناس وتطويع سلوكهم ومنع أيةِ بادرة منهم لرفع الصوت المعارض، وبعد كل جريمة من هذا القبيل تتبارى الحكومة الصورية مع قيادات الحشد وكذلك مجلس النواب المسخ ورئاسة الجمهورية الهزيلة، في إصدار بيانات الشجب والاستنكار وكأنها منظمات دولية أو إنسانية، مع الإعلان عن تشكيل لجان للتحقيق حتى بات العراق اليوم صاحب الرقم القياسي في عدد اللجان التحقيقية المشكلّة في معظم الملفات من جرائم الأموال والفساد السياسي والإداري والعمليات الإرهابية، أو في الهجمات التي تتعرض لها السفارات والمقار الرسمية والممتلكات العامة والخاصة، مع أن قادة المليشيات أو قادة سياسيين محسوبين على التحالف وعلى إيران يمارسون دوراً تحريضيا وأنهم يريدون جر العراق إلى قعر الهاوية، ولكنهم بعد ارتكاب تلك العمليات والجرائم سرعان ما يتحولون إلى مدافعين عن هيبة الدولة وعدم السماح للمس بالأمن الأهلي، أما المعممون ذوو الحصانة القضائية والسياسية عن أية مساءلة والذين يتوزعون على المنابر فإن خطبهم وتصريحاتهم هي التي تؤجج نيران الفتنة بأكثر مما هي عليه.
4 – مواصلة السطو المنظم على ثروات العراق وخزينته والبنك المركزي، وتدمير مشاريعه الزراعية والصناعية بهدف تحويل العراق إلى سوق مفتوحة للمنتجات الإيرانية التي تدخل من دون أن تُفرض عليها رسوم كمركية، ومنع العراق من إقامة مشاريع الطاقة وحصر استيراد النقص فيها من إيران ومنع العراق من استيراد حاجته من دول أخرى وبأسعار تقل عن ربع التكلفة من إيران.
على هذا فإن إيران لا تهمها شكليات الدور الذي ينسب إليها بقدر ما يعنيها ما تكسبه من كل خطوة من مكاسب على الأرض، ولهذا نراها تقدم بعض التنازلات في تشكيل الحكومات كما هو حاصل في العراق ولبنان، وتوزع الوزارات على الأتباع والمحاسيب، فهي لا يهمها مثلا من يشغل منصب وزير الخارجية أو الدفاع أو الداخلية في العراق، طالما أنها تمتلك أدوات تجعل من تلك الوزارات مجرد دواوين ملحقة بمكتب أحد قادة المليشيات أو الأطراف الفاعلة في الدولة العميقة أو الحكومة الموازية، هل لاحظ أحد من المراقبين أن لقاءات وزير الخارجية غيّرت شيئا من أوضاع العراق نحو الأحسن؟ وبالتالي فإن الدولة الموازية التي تعمل في العراق لها واجبات محددة وهي جلب الأموال وتهدئة جبهات النار الخارجية لا أكثر، وعندما نقول إن المناصب السياسية لا تهم التحالف الولائي لإيران، فليس هذا معناه أنها زاهدة بتلك المناصب، ذلك أنها ممسكة بكل مفاتيح الدولة نيابة عن فيلق القدس الإيراني، ثم أن ثروات العراق وخاصة النفط والمنافذ الحدودية بيد مليشيات تمثل دولة عميقة موازية هي التي تحكم.
فهل يمكن أن تنجح محاولات الاحتواء العربي للعراق تحت لافتة إنقاذه من براثن الدولة الأولى المصنّعة للإهاب والمصّدِرة على مستوى العالم؟
لا إيران ولا المنظمات الإرهابية (المليشيات) المسلحة بأسلحة أقوى مما تمتلك القوات الرسمية النظامية من جيش وشرطة تمانع في المضي وراء هذا الشعار، لأنها تخطط للاستيلاء على كل ما يدخل من أموال عربية لدعم ميزانية العراق أو إطلاق مشاريع تنموية، سواء بأخذ حصتها التي تقررها بنفسها أو تفرض على الوزارات المعنية بتنفيذ مشاريع التنمية الاستحواذ على مقاولات التنفيذ لشركات وهمية أو لمقاولين فاشلين ومدانين مرارا بالفساد والرشى وعقد الصفقات لحساب إيران.
وعلينا ألا نغفل أن الولايات المتحدة التي تضغط على أصدقائها في الخليج العربي لمد اليد إلى العراق وتعتبر ذلك جزءً من خطة سحبه تدريجيا من خانة التحالف مع إيران، هي التي صممت بدقة إبقاء نافذة مواربة مع إيران كي لا تخنقها تماما، وما قرارات وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين بتجديد استثناء العراق من العقوبات المفروضة على إيران إلا تصديقا لهذا التفسير، لا سيما وأن استيرادات العراق من الكهرباء الإيرانية تستنزف موارد العراق، وتحت هذا البند تسمح الولايات المتحدة بإبقاء العراق سوقا لتصريف المنتجات الزراعية والصناعية وبمبالغ تصل قيمتها الكلية إلى عدة مليارات سنويا، هذا بخلاف ما يتم تحويله نيابة عن إيران لتغطية أنشطة القتل التي يمارسها نظام بشار الأسد أو جرائم حزب الله اللبناني أو الحوثيين أو أنشطة إيران الدعوية في آسيا وأفريقيا وخلاياها النائمة في أوربا وأمريكا اللاتينية.
هناك من يوجه اللوم إلى العرب ويتهمهم أنهم أخلَوا الساحة العراقية لإيران كي تثبت أقدامها فيها، وهذا اللوم لا ينطلق من حرص حقيقي على إبعاد العراق عن تأثيرات المشروع الإيراني بقدر ما هو محاولة للبحث في ملفات الحقد على العرب استغلالا لأية تهمة باطلة ولكنها جاهزة في الوجدان الشعوبي، فإيران تسلمت العراق كاملا من الولايات المتحدة عن إرادة أمريكية وسبق إصرار ووعي بأن بقاء العراق في عمقه العربي، لا بد أن يؤدي إلى استعادة عافيته ذات يوم مهما طال الزمن، أما إذا تحول نحو الساحل الآخر أي المشروع الفارسي الطائفي التوسعي، فإن زمناً طويلاً وجهداً منسقا ًهائلاً يحتاجهما العراق للعودة إلى وجهه وضميره العربي، فإيران تمتلك أدوات طائفية محلية تنشط في سباق مع الزمن لإقامة جبال من الكراهية وبحار من الدم مع العرب بحكم التباين القومي والاختلاف المذهبي وخاصة هذا الأخير الذي تعاملت معه النظم العربية بطريقة مختلفة جذريا عن نهج دولة الولي الفقيه وخاصة في مجال التكفير وسب الصحابة وزوجات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهنا يتساءل البعض عما إذا كانت النظم العربية اللاطائفية بما فيها النظام الوطني في العراق قبل الاحتلال قد كانت على خطأ في إهمال الدور الطائفي السري وارتباطه بتنظيمات سياسية، في توسع دائرة النفوذ الإيراني في مختلف الأرجاء عندما نظروا إلى الممارسات الموغلة في التخلف والتي ترافق عاشوراء وذكرى أربعين الحسين في 20 صفر من كل عام؟ بل السؤال الأكثر إلحاحاً هل أن النظام الرسمي العربي استوعب درس العراق وبدأ في التعاطي المطلوب أمنياً وثقافياً وسياسياً؟
هذا هو السؤال الذي من خلال الإجابة عنه نستطيع أن نعرف عمّا إذا كنا سنبقى أمة عربية ذات إطلالة حضارية لها بصمتها على التاريخ الإنساني، ومعزولة سياسيا عن النفوذ الإيراني؟ أم أننا سنتحول إلى قمر تابعٍ للإمبراطورية الفارسية التي ستحكم باسم الإسلام عدّة قرون كما حكم العرب ثم جاء من بعدهم الأتراك العثمانيون؟