جغرافيتنا فرضت علينا القرب والتقارب مع اوروبا كأنظمة وكشعوب، للتعايش معها وتبادل التأثيرات البينية للمنطقتين. خصوصا ونحن نملك موارد طبيعية هائلة، من أراضي خصبة صالحة للزراعة ووفرة في المياه وغزارة في مواد الخام التي تدخل في مختلف الصناعات، وطاقات بشرية كبيرة. وهم بالمقابل يملكون التقدم العلمي والتكنلوجي والتنور الثقافي والاجتماعي وأنظمة حكم متقدمة. فبتعاون الطرفين يمكن ان يتكاملا ويشكلا نموذجا لرخاء العيش ورفاهية الانسان ويكونان مثالا لجغرافيات أخرى من العالم في تعميم السلام والامن والرخاء في ارجاء المعمورة.
ولكن وبمرورنا سريعا على الاحداث التي حصلت في القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى تحديدا، حينذاك لم يف الغرب بوعوده للعرب في بناء وطن قومي لهم في مقابل دعمهم ضد الدولة العثمانية. بل بعكسه، عمد الغرب ومن خلال اتفاقية (سايكس – بيكو) الى اقتسام منطقتنا بين فرنسا وبريطانيا. رسموا خطوطا مستقيمة في جغرافيتنا واسموها حدودا وطنية. وزرعوا في أركانها بؤرا للتوتر تضعف الاستقرار كلما أرادوا ذلك. ولازال ارث الاتفاقية يلقي بظلاله على أزمات المنطقة. كما نفذوا وعد بلفور في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين ودعموها مباشرة بالمال والسلاح والاعلام لاستمرار وجودها. ورغم انها مخالفة قانونية وشرعية وأنها ضد التاريخ والجغرافية، مع ذلك استمر الغرب في دعم هذا الكيان السرطاني وباتت دولة اسرائيل أحدى العوامل الرئيسية في عدم استقرار منطقتنا.
في نهاية الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا منهكة ماليا وعسكريا وبشريا، فتراجع نفوذها على منطقتنا، مما مكن قوى قومية وطنية (بمختلف مسمياتهم) من القيام بثورات عسكرية ضدهم وتحرير الأوطان من براثنهم. ورغم قساوة أسلوب حكمهم وفشلهم في تحقيق تكاملية بين دول المنطقة، لكنهم تمكنوا (أي القوميون) من بناء دول مؤسساتية وطنية معتبرة، واهتموا بالتنمية الصناعية والزراعية مما أنعشت النفوس وازدهرت الفنون. والاهم من هذا كله، انهم (أي القوميون) قد نجحوا الى حد بعيد في تطبيق معايير مهمة في العدالة الاجتماعية قل تنفيذها على المستوى العالمي. فقد حققوا مجانية للتعليم وباتت الصحة للجميع. مما حدي بالكثيرين من الناس بتسمية تلك الفترة “بالزمن الجميل” او “العصر الذهبي”. والجميع يدعوا للعودة اليه.
ان رحيل القوى الاستعمارية الأوروبية من منطقتنا، والاهمية المتزايدة للنفط كمصدر للطاقة، ولحاجة تامين امن إسرائيل عسكريا ودبلوماسيا، أدت الى زيادة مساهمة اميركا في منطقتنا. ولوجود (آنذاك) عالم متعدد الأقطاب، وقرار الأمم المتحدة رقم 1514 المؤرخ في 14/12/1960 والخاص بالإعلان العالمي لتصفية الاستعمار، اُجبِرَت اميركا على السير بمنحى مختلف عن مسار القوى الاستعمارية الغربية السابقة للهيمنة على المنطقة. فاعتمدت على سياسة الزحف الناعم التي تستخدم فيها وسائل الاعلام والعقوبات والتدخل بالوكالة (العملاء)، لإفشال مؤسسات الدولة وخلق تناقضات بين السلطة والناس. كما عمدت على اثارة أحاديث طائفية ومذهبية واثنية لتفكيك مفهوم الهوية الواحدة (القومية والدين) لتأجيج صراعات بينية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتمكن اميركا من قيادة العالم بقطبية أحادية، تسارعت الاحداث في تحقيق ما تصبو اميركا اليه، من اضعاف لدول منطقتنا وتفتيتها (كلما كان ذلك ممكنا)، وسلب جميع مكتسبات شعوبها التي تحققت خلال العقود السابقة.
الان: ان حال دول منطقتنا لا يسر وحال شعوبها محزن. وسنذهب بعيدا عن العقلانية، إذا فسرنا كل هذا الفشل الجماعي (لدول المنطقة) كنتيجة لعوامل داخلية فقط. هناك وبلا شك مساهمة خارجية متعمدة السوء لدولنا واثّرت بنا لضعفنا وتشتتنا. وإذا كانت حقيقة الغرب مشابه لما يدعيه بان أنظمة دولهم متحضرة وتهتم بالإنسان وحريته، فعليهم طي الصفحات السوداء الماضية والشروع بتغيير سياساتهم لتصب بمصلحة الطرفين. وفيما عدا ذلك فلا خيار لدينا الا الاعتماد على النفس والتوجه نحو الشرق والتعاون مع من يعمل على الحد من التأثير السيء للغرب وبتوازن مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على منطقتنا وعلى باقي بقاع العالم على حد سواء. ان هذا التوجه ان حصل، فسيكون الطريق: ليس سهلا ولا معبدا، ولكن بالتأكيد ستكون نهايته أفضل مما نحن عليه