العصرنة

ا. د. محمد طاقة

أنجزت البشرية ، خلال المئة عام ، المنصرمة ، من تطور علمي – تقني ما لم تنجزه خلال عمرها الطويل كله ، منذ نشأتها حتى الان
ولو تأملنا ما يدور من حولنا من تطورات على مستوى العلوم بأشكالها كلها خصوصا ما وصلت اليه الانسانية ، خلال الثورة الصناعية الرابعة ، من ثورة علمية وتقنية هائلة ، في صناعة الإلكترونيات والهندسة الوراثية وفِي الفيزياء والكيمياء وغزو الفضاء وفِي العلوم البايولوجية وصولا الى الإنترنيت ووسائل الاتصال المختلفة وبالأخص ال (5G).
ذلك كله مما أثر بنحو مباشر وغير مباشر ، على الحياة بمجملها ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية ، ودخلت ، بصفة أو بأخرى على سلوك الانسان نفسه، من حيث دخله وأستهلاكه وطريقة حياته وفِي جميع النواحي.
وفِي الوقت نفسه وسعت من الهوة الحضارية بين الدول المتقدمة والأكثر تقدما وبين الدول المتخلفة ، التي ما عادت تواكب مجمل هذه التطورات الحاصلة في العالم. وذلك بسبب عوامل داخلية كثيرة ومعقدة تتمثل بتخلف قوى الانتاج وعوامل خارجية لعبت دورا أساسا في زيادة تخلف هذه البلدان بحيث لا تسمح لها بالتطور إلا بالحدود التي تحقق مصالحها السياسية والاقتصادية. وبناء عليه ، بدأت هذه الدول تعيش صراعا مريرا بين رغبتها بالتطور واللحاق بالدول المتقدمة وبين التحرر من القيود التي تكبلها وتمنعها هي الاخرى من التطور المطلوب وأهمها الموقف الفكري الذي يجب ان تتبناه هذه الدول وبالأخص بأتجاه العصرنة والحداثة العصرنة ، مصطلحا ومفهوما ، موجودة في مراحل التاريخ كلها ، بسبب تجدد الحياة وتغيرها جراء تجدد فهم الانسان ، وتغيير أدوات فهمه وأنتاجه المعرفي والعلمي.
فالعصرنة في زمن ما تصبح بالية لتحل محلها عصرنة جديدة وهكذا ، فالحياة في تطور دائم ، وما هو جديد اليوم سيُصبِح قديما غدا.
العصرنة تعني الحداثة ، أو تجديد القديم في المجالات الثقافية والفكرية والعلمية وتحديثها.
لقد احدثت التكنولوجيا ثورة في المجالات كافة ، وأثرت على مسارات التطور في العالم ، الثقافية والفكرية والمجتمعية ، والمطلوب من الجميع التكيف مع هذه التطورات وإلا ستبقى في الخلف وتكون دول ضعيفة متخلفة تسوقها الدول المتقدمة. ولذلك أصبح للعصرنة أثر كبير وبارز في حياتنا اليومية وأصبحت ضرورة موضوعية لا بد منها ، والوقوف بنحو جدي عند حيثياتها ، لما لها من دور كبير في حياتنا.
لقد اختلف المفكرون العرب بين ساع الى العصرنة والحداثة والتجديد ، من أجل النهوض بالامة العربية واللحاق بالركب الحضاري والعلمي ، وبين واقف بالضد من ذلك. منطلقا من أنه لايجوز للعربي أن يتخلى عن تراثه وينسلخ من ثقافته ، لأنه اذا فعل ذلك ، ستستأصل جذوره وينفصل عن حقه التاريخي.
لكن ذلك لا يتناقض أبدا مع أخذ النفيس من تراثنا واللحاق في الوقت نفسه بعالم العصرنة. وهل يمنع أن يواكب التراث والدين الحياة ويتفاعل مع تطوراتها ؟ ومن دون ذلك سنجعل التراث والدين خارج الزمن وحركة الانسان.
لماذا نشعر بالخوف من العصرنة والتجديد ، كوننا نعدها تتضارب مع عقائدنا وموروثاتنا أصبحت مقدسة مع مرور الزمن،وإذا كانت هذه العقائدوالموروثات ما عادت تتماشى وروح العصر ، هل نبقى حبيسي تلك الموروثات والعقائد ؟ هل نبقى نجتر بالماضي السحيق والقريب من دون أن نخطو خطوة واحدة اتجاه المستقبل والتعامل الحضاري مع ما وصلت اليه البشرية والامم الاخرى وسبقتنا في كل شيء. هل لدينا الإمكانيات لتحقيق ذلك والسعي الى التجديدوالابداع ؟
نعم لدى الامة العربية من الامكانات المادية والبشرية وطاقات علمية خلاقة بإمكانها فعل المزيد اذا اتيحت لها الحرية والعمل دون قيود تكبلها وتكبل طاقاتها ، هذا يحدث كله ، اذا توفرت للبلدان العربية سلطة سياسية متحضرة تسعى الى التجديدوالعصرنة ، وهذا من الممكن ان يحدث ، اذا ما توفرت قيادات شابة تؤمن بالتجديد والتطور الحضاري ، لقد ابتلت الامة العربية بقيادات وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني جميعها شاخت ، وتكررت علينا الوجوه نفسها ، دون اي تغيير ، على سبيل المثال ، لبنان تتكررفيه الوجوه نفسها، والأحزاب نفسها ، منذ اكثر من خمسون عاما. ومصر والعراق وسوريا وهكذا بقية الدول العربية ، وهذا ينطبق حتى على الدول المتقدمة ، وهذه امريكا ليس فيها سوى حزبين : الديمقراطيون والجمهوريون وجهان لعملة واحدة يتعاقبون على السلطة ، وهنالك الكثير من الدول الأوربية تنحو المنحى نفسه
لقد ملت شعوب العالم من ذلك وبالأخص الشعب العربي. فلدى الامة العربية فرصة تاريخية للتخلص من الوضع السيء الذي تمر به من وهن وضعف وانتهاك صارخ لحقوقها المشروعة في الوحدة والتحرر ، أن تعيد النظر ببرامجها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها (قبل فوات الاوان ) وبما ينسجم وطبيعة التطورات العلمية والفكرية التي حدث. وعلى جميع الأحزاب الثورية وغير الثورية في الوطن العربي والعالم ، ان تجدد وتطور وتبدع وتبتكر ما هو مناسب وينسجم مع ما افرزته الثورة التكنولوجية وان تعمل على إيجاد قيادات شابة يافعة تؤمن بالتجديد والعصرنة ، وتؤمن بالتطور وصولا الى الحداثة.
أن عملية التغيير المطلوبة هذه أصبحت ضرورة موضوعية للتخلص من واقع الحال الذي يعيشه الشعب العربي وحتى الانسانية.
إن أصحاب العقول المتخلفة أوصلونا الى الحضيض ، اصحاب تلك العقول الجامدة المتحجرة ، الذين لا يستوعبون ما يجري من حولهم ، ويقفون أمام التطور والتجديد حتى يحافظوا على مواقعهم التي تعطيهم دعما اجتماعيا وسياسيا ومكاسب لا يستحقونها.
أني في هذه المقالة أدعوا جميع الأحزاب والمنظمات والافراد أن تعيد النظر بقادتها وممثليها وسياساتها وأفكارها ومنطلقاتها وأن تعتمد على الشباب وعلى العلم والعقول النيرة في بناء اوطانهم.
فكما يقول برنارد شو ( ما أجمل النظافة ولكن ما أعظمها عندما تكون في عقولنا )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى