الفساد المالي والإداري ينهش في جسد العراق

لقد كُتِبَ الكثير حول موضوع الفساد المالي في العراق وتم تناوله من جوانب عديدة واعطيت فيه الكثير من الآراء، لكن جميع هذه الدراسات تؤكد أن الفساد المالي والإداري في العراق لا مثيل له، وان الفساد قد تغلغل في جميع مناحي الحياة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بحيث أصبح يشكلخطراً جسيماً على العراق وشعبه.

فالعراق ووفق تصنيف وكالة (غوبل اكونومي)، يعتبر ضمن اسوأ الحكومات في العالم، مسجلاً المرتبة (174) من أصل (192) دولة، ويتم قياس ذلك من حيث الأداء والفاعلية، ويتم تحديد ذلك من خلال الفعاليات الاتية، السيطرة على الفساد، الجودة، الاستقرار السياسي، والأمني، والجوانب الاقتصادية وغيرها من الفعاليات وكما قالت مندوبة الأمين العام للأمم المتحدة (جنين بلاسخارت) “ان الطبقة السياسية الحاكمة في العراق فشلت حتى الان في وضع المصلحة الوطنية فوق أي شيء آخر”. فالفساد أصبح يمثل جزءاً أساسياً من المعاملات اليومية، واصبح يشكل سمة أساسية في الاقتصاد السياسي ومنهجاً يعمل فيه بالعراق.

فالفساد في العراق قد مد جذوره في الأرض بحيث أصبح لا يمكن السيطرة عليه، وبدأ يستنزف الإمكانيات المادية والبشرية للعراق، وبالتالي يشكل عائقاً وسداً منيعاً امام التنمية الاقتصادية للبلد، فالفساد المالي الإداري هو العدو اللدود للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فمنذ عام (2003) يشهد العراق وضعاً اقتصادياً متقلباً لا سيما انه يعتمد بنسبة تزيد على الـ (90%) من الموازنات العامة على مبيعات النفط، وان هذه الموازنات المليارية لم تنعكس إيجابياً على الوضع العام للبلد، بسبب الفساد المالي والإداري..

أن الدخول في دراسة الفساد المالي والإداري يعتبر مجازفة علمية لا حدود لها، كون الفساد في العراق وصل الى درجة غير معقولة وغير مطروقة على الاطلاق، ومن جهة ثانية هو عدم توفر معلومات او إحصاءات دقيقة حوله، فضلاً عن صعوبة الحصول عليها لان الفاسدين هم أنفسهم المهيمنون على السلطة في العراق، وهم أصحاب القرار، لذلك فهم قادرون وبكل الطرق على إخفاء ما يقومون به من فساد وافساد.

وينطبق على ذلك المثل الشعبي المشهور ((حاميها حراميها)) فقد أجتهد الكثير من الباحثين في إيجاد تعريف للفساد المالي والإداري، من الناحية القانونية والإدارية والاجتماعية وغيرها، وان منظمة الشفافية العالمية عرفت الفساد ((إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق كسب خاص)) ونحن عرفنا الفساد ((بأنه عمل منحرف يقوم به الفرد او الجماعة او الأحزاب مستغلين نفوذهم في السلطة من اجل تحقيق مكسب خاص على حساب المنفعة الاجتماعية والاقتصادية للبلد)).

وعلى هذا الأساس فأن الفساد إن ساد في أي مجتمع سوف يؤدي بالضرورة الى تفكيك المنظومة القيمية للمجتمع، فالفساد ينتشر عند غياب القوانين والتعليمات والقيم الأخلاقية وضعف السلطة بشكل عام، أو غيابها تماماً على ضبط المجتمع. وهذا يكون عندما يحدث تحول في السلطة يؤدي الى ترك فراغ اداري وقانوني ودستوري ويستغل ذلك ضعاف النفوس والذين يستغلون نفوذهم من اجل تحقيق أعلى المكاسب على حساب المال العام.

إن ما جلبه الاحتلال من تدمير شامل لكل ما بناه العراقيون منذ تأسيس دولة العراق عام (1921) ولحد عام (2003) قد تم تدميره. ويمثل ذلك السبب الرئيسي لتفشي هذه الظاهرة وانتشارها على أوسع نطاق بحيث اعتبر العراق من بين اكثر الدول فساداً في العالم. نعم كان فساد في العراق ومنذ عقود من الزمن، ولكن لن يتجاوز حدوده، كما تجاوز كل الحدود ومنذ عام (2003) وحتى يومنا هذا.

لقد تفاقمت وانتشرت أزمة الفساد في العراق وبشكل خطيرا جداً، وذلك بعد عام (2003)، أي بعد أن قامت قوات الاحتلال بتفكيك الدولة العراقية وحل الجيش العراقي واجهزته الأمنية، حيث ساد العراق وضع خطير جداً، تمثل بانعدام الامن والاستقرار وسيطرة المليشيات والعصابات المسلحة والمدعومة من قبل ايران وامريكا، بحيث تدهورت الأوضاع الاقتصادية وتفشت ظاهرة الفساد المالي والإداري والتي أحتلت هذه الظاهرة في العراق مركز الصدارة في العالم.

ان الفساد المالي المستشري في العراق منذ عقدين من الزمن وفي ظل حكومات الاحتلال، أصبح هذا العراق البلد الغني بالنفط يغرق في بحر من الفساد الذي استنزف معظم ايراداته، مما أدى الى غرق المواطنين في بحر عميق من الفقر رغم ما يمتلكه العراق من ثروات هائلة، فقد نخز الفساد المالي والإداري جسم العراق عمودياً وافقياً، وأصبح من الصعب علينا ان نعطي تفاصيل كاملة عن الفساد كونه تغلغل في جسم العراق كله!!

وسنحاول أن نسلط الضوء على بعض أوجه الفساد من ما توفر لدينا من معلومات، ليطلع الشعب العراقي عليها من اجل العمل على محاربتها، حيث كلفت الشعب العراقي مليارات بل عشرات المليارات من الدولارات الامريكية وان اكثر من 80% منها هربت الى خارج العراق بل تحديداً ذهبت الى ايران..

فحادثة سرقة (2.5) مليار دولار امريكي، من العائدات الضريبية للدولة العراقية خير دليل على حجم الفساد الذي يعاني منه العراق، وليست هذه الحادثة الأولى بل هناك مئات المليارات من الدولارات سرقت واختفت من العراق وبطرق وأساليب مختلفة.

فعلى سبيل المثال وفي عام (2015) صرح وزير النفط العراقي (عادل عبدالمهدي) بان موازنات العراق منذ عام (2003) والى يومنا هذا بلغت (850) مليار دولار امريكي، وفقدنا بسبب الفساد اكثر من (450) مليار دولار ولا نعلم أين ذهبت؟

وأن هذا المبلغ متحصل من عائدات النفط فقط ولا نعلم اين ذهبت أموال المتحصلة من الموارد الأخرى؟

وفي عام (2016) خسر العراق نحو (150) مليار دولار بسبب صفقات تسليح القوات العراقية وحدث ذلك في زمن (المالكي).

ويمثل قطاع الكهرباء واحداً من ابرز ملفات الفساد التي انفق العراق لاجلتوفيرها اكثر من (80) مليار دولار خلال العشرين سنة الماضية، في حين لا زال العراقيون يعانون من غيابها!!

وبحسب التقديرات التي أصدرتها اللجنة المالية في مجلس النواب فان حجم الخسائر التي تكبدها العراق جراء الفساد في السنوات قبل حكم (المالكي) بلغ نحو (450) مليار دولار من بينها (360) مليار دولار خلال فترة حكم المالكي.

كما أن الفساد طال قطاع التعليم ايضاً من اجل افساده وتدميره حيث تم منح شركة إيرانية مشروع بناء (200) مدرسة من هياكل حديدية بتكلفة (250) مليون دولار الا ان المشروع لم ينفذ؟؟ وغيرها الكثير من المشاريع الوهمية التي قبضت مبالغها ولم تنفذ وكانت المبالغ بملايين الدولارات.

فضلاً عن ذلك، فان لجنة التربية والتعليم النيابية ذكرت أن (90%) من الشهادات الممنوحة لطلبة الدراسات العليا من خارج البلاد مزورة، وهذا مما يجعل الواقع التربوي يزداد سوءاً، وأن هذه الشهادات حصلوا عليها من خلال الأموال، والدارسة عن بعد ومن جامعات غير معترف بها، علماً أن أكثرية المسؤولين في الدولة وفي البرلمان وابنائهم حصلوا على مثل هذه الشهادات، فهناك اكثر من (300) شهادة مزورة لمرشحي انتخابات مجالس المحافظات في العام (2009) وحوالي (500) شهادة مزورة لمرشحي للانتخابات النيابية لعام (2010) ومثلها لانتخابات النيابية لعام (2014)!!

وهنالك اكثر من (10) ألاف شهادة مزورة أخرى صادرة عن الجامعات والكليات العراقية، وهناك اكثر من (120) الف شهادة دراسية مزورة لموظفين يعملون في مؤسسات حكومية.

وما فضيحة الشهادات المزورة للدراسات للعام (2021) عن قيام ثلاث جامعات لبنانية ببيع (27) الف شهادة مزورة لطلاب عراقيين عاديين أو مسؤولينوغيرهم كل ذلك مما أدى الى انهيار منظومة التعليم في العراق وعدم اعتراف العالم بالشهادات العراقية.


كما صرح رئيس هيئة المنافذ الحدودية، ان نسبة الضياع والهدر في إيرادات المنافذ الحدودية تقدر بنحو (8) مليار دولار سنوياً، بسبب عدم سيطرة الحكومة على منافذها، علماً أن اكثر هذه المنافذ تدارمن قبل الجماعات المسلحة ويتم تمرير البضائع غير القانونية كالأسلحة والمخدرات والاتجار بالبشر وغيرها.

علماً انه وحسب التقديرات المؤكدة فان حجم الإيرادات المطلوبة جبايتها من هذه المنافذ تقدر بـ (10) مليار دولار سنوياً وان المتحقق الفعلي هو (2.4) مليار دولار فقط، علماً، ان العراق يستورد سنوياً مواد مختلفة (غذائية، وإنشائية، وكهربائية، وكماليات مختلفة، وسيارات، ومعدات وغيرها) تبلغ قيمتها أكثر من (40) مليار دولار، وتدخل العراق عبر (22) منفذاً حدودياً تفصله مع إيران وتركيا والكويت والأردن. إضافة الى الموانئ البحرية والمطارات.

ويؤكد رئيس الهيئة ان أكثر من (75%) من إيرادات المنافذ ينالها الفساد.

أما بالنسبة لواقع شراء العملة الأجنبية والتي يشرف عليها البنك المركزي العراقي، وتبنى البنك المركزي العراقي ذلك من اجل تحقيق استقرار صرف الدينار العراقي والسيطرة على الكتلة النقدية والسيولة العامة بهدف خفض التضخم واستقرار المستوى العام للأسعار، وتم تطبيق ذلك منذ عام (2003) وما زال العمل به، وفي هذا العام تم طرح (18) مليون دولار، وبسبب الارتفاع الكبير لمبيعات شراء العملة الأجنبية في البنك المركزي بحيث يفوق احتياجات تمويل تجارة القطاع الخاص وهيمنة عدد قليل من المصارف على اغلب مبيعات شراء العملة الأجنبية أدى الى ظهور نوع من الاحتكار، وتبين ان هذه المصارف هي مصارف إيرانية، وبسبب ضعف الرقابة والمراقبة والتدقيق وضعف التنسيق بين السياسة المالية والنقدية، لم تؤدِ مبيعات الدولار الأمريكي دوراً في زيادة قيمة الدينار العراقي، بل أصبحت هذه السوق وسيلة تهريب العملات الصعبة الى الخارج (ايران على وجه التحديد) فقد  تم تهريب اكثر من (160) مليار دولار أي ما يعادل (40%) من اجمالي مبيعات البنك المركزي والبالغة (400) مليار دولار خلال السنوات (2007 2016).

إن مزاد العملة يمثل الملف الأكثر خطورة، كونه يمثل المناخ المناسب لتهريب العملة الصعبة (الدولار) الى الخارج فمنذ عام (2003) وحتى عام (2016) باع البنك المركزي أكثر من (400) مليار دولار عبر مزاده وان اكثر من (85%) من هذه المبالغ لا تبقى في العراق بل تحول الى الخارج، وهناك إحصائية تشير إلى ان حجم الأموال المهربة تتراوح بين (500 600) مليار دولار وذلك للفترة من عام (2006 ولغاية 2018).

فعلى سبيل المثال في عام (2020) فقط باع البنك المركزي (40) مليار دولار في مزاد العملة، والمفترض ان تقابلها القيمة ذاتها من الاستيرادات بـ (40) مليار دولار ولكن قيمة الاستيرادات في هذا العام بلغت (14) مليار دولار فقط، وهذا يعني ان قيمة عمليات الفساد في هذه الحالة قدرت بنحو (23) مليار دولار امريكي.

وفي العام (2021) بلغ حجم العملة المباعة في المزاد (30) مليار دولار، في حين بلغت قيمة الاستيرادات (13) مليار دولار فقط والفارق بينهما هو (17) مليار دولار يمثل ما يخسره العراق جراء عمليات غسيل الأموال!!!

علماً ان مجموع خسارة العراق بسبب غسيل الأموال تجاوزت الـ (360) مليار دولار، وذلك عن طريق بيع الدولار في مزاد العملة في بغداد والذي يشرف عليها البنك المركزي ويجري تحويل هذه المبالغ عن طريق شركات أهلية ومكاتب الصيرفة وتحول الى ايران وسوريا وحزب الله وبعلم الولايات المتحدة الامريكية والكيان الصهيوني.

ومن خلال دراستنا التحليلية للموازنة العامة للعراق لسنة (2020) وجدنا ان الموازنة اعتمدت على معدل سعر النفط الخام (40.51) (أربعون دولار وواحد وخمسون سنت) للبرميل الواحد، وان العراق يصدر يومياً بمقدار (3.033) مليون برميل يومياً، معنى ذلك ان إيرادات العراق من بيع النفط الخام ما مقداره (123) مليون دولاراً يومياً ولم تأخذ الموازنة العامة بنظر الاعتبار التذبذب الذي من الممكن ان يحصل بكمية الإنتاج وكذلك الأسعار، ومقابل ذلك تشير الكثير من الإحصاءات ان مبيعات البنك المركزي من العملات الصعبة تتراوح ما بين (150 200) مليون دولار يومياً.

وهذا يعني ان البنك المركزي يبيع أكثر من تدفقات العملة الصعبة المتأتية من مبيعات النفط بمقدار (77) مليون دولار يومياً أي (2.3) مليار دولار شهرياً.علماً أن مبيعات البنك المركزي بلغت خلال شهر أيلول لنفس السنة فقط بمقدار (4.6) مليار دولار.. فلا نستغرب اذن من وجود عجز في الموازنة العامة لسنة (2020) بمقدار (64) مليار دولار، مما تضطر الحكومة من تغطية هذه الفروقات عن طريق الاقتراض الداخلي والخارجي.. فقد تم تغطية هذا الطلب على الدولار من احتياطي البنك من العملة الصعبة.. وهكذا إذا استمر الوضع على ما هو عليه، والذي تصر حكومة الاحتلال على هذا السلوك، فنحن مقبلون على انهيار اقتصادي وشيك والذي سيؤدي الى عجز الحكومة عن صرف مستحقات الحياة من رواتب الموظفين والمتقاعدين وبقية النفقات التشغيلية.

أذن هكذا يدار الاقتصاد العراقي من قبل ناس أميين وسراق ويجرون البلد من كارثة الى أخرى بحيث وصل نسبة العجز في الموازنة الى (54%) وهي تمثل اكثر من نصف الايرادات وبذلك تكون هذه النسبة مخالفة لقانون الإدارة المالية للدولة.

وبسبب الفساد المالي الإداري للعراق، ظهر لدينا مؤشر شديد الخطورة الا وهو المخدرات، آفة خطيرة جداً تفتك بجسد المجتمع، وتستهدف الشباب بشكل خاص.

كان مجلس القضاء الاعلى في العراق قد أعلن مطلع شهر يونيو الماضي ان نسبة الإدمان على المخدرات قد تصل الى (50%) وسط فئة الشباب وقد تصل الى (70%) في الاحياء الفقيرة التي تكثر فيها البطالة وذلك في العام (2021).. بعد ان كان العراق خالٍ تماماً قبل عام (2003) من المخدرات وتجار المخدرات، اما الان فأن المخدرات تفتك بالعراقيين حيث أعلنت السلطات تفشي المخدرات بالمدارس، ويزداد تعاطي المخدرات بين مختلف الفئات العمرية بسبب البطالة والفقر وغير ذلك. وتدخل المخدرات عن طريق ايران وسوريا الى العراق وبسهولة كبيرة كون المليشيات الموالية الى ايران هي التي تتحكم بأغلبية المنافذ الحدودية، ففي هذه الحالة يعني ان هذه المليشيات هي التي تسهل عملية دخول المخدرات الى العراق، حيث أعلنت السلطات الحكومية القاء القبض على (12) الف متاجر بالمخدرات ومن هذا الرقم يمكننا ان نتصور حجم المتاجرة بالمخدرات وحجم الكارثة التي تعم على العراق.

وبسبب الفساد المالي والإداري وغياب الرؤية الاقتصادية لحكومات الاحتلال وغياب التنسيق بين السياسة المالية والنقدية، كل ذلك جعل العراق يغرقبالديون رغم ما يمتلكه من احتياطات نقدية كبيرة، ورغم ارتفاع أسعار النفط وزيادة التدفقات النقدية المتأتية من بيع النفط..

ففي تصريح للمستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي بان الدين العام للبلاد يبلغ (70) مليار دولار، من بينها ديون داخلية تقدر بـ (50) مليار دولاراما عن الدين العام الخارجي فأنه ينخفض تدريجياً حيث بلغ عام (2005) بنحو (125) مليار دولار واليوم وفي العام (2023) بلغ الدين العام الخارجي بنحو (20) مليار دولار.

أما حسب توقعات صندوق النقد الدولي، فان الديون الخارجية للعراق تتجه الى الانخفاض، فمن المتوقع أن ينخفض في العام (2021) بمقدار (1.2) مليار دولار ليصل الى (22) مليار دولار مقارنة بالعام (2022)، ومن المتوقع ان ينخفض الدين الخارجي للعراق في عام (2024) ليصل الى (20.8) مليار دولار..

كما ان سياسات الاقتراض التي ينتهجها العراق، ستحمل الاقتصاد العراقي عبئاً ثقيلاً على الأمد المتوسط والطويل، علماً ان حجم قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على العراق لا تتجاوز (2) مليار دولار لكل منهما. فضلاً عن القروض اليابانية والكورية والصينية وغيرها من بلدان العالم. وان الدين الخارجي المستحق التسديد لهذا العام (2023) لا يتجاوز (3) مليارات دولار.

كما سجلت نسبة الفقر في العراق مستويات مرتفعة قياساً بالدول المجاورة، وذلك بسبب الفساد المالي والإداري وسوء التخطيط فضلاً عن الخلافات السياسية بين أطراف العملية السياسية الفاشلة وتوقف الأنشطة الاقتصادية انعكست كلها على الواقع المعيشي للفئات الهشة داخل المجتمع. حيث أعلنت وزارة التخطيط العراقية ان نسبة الفقر في البلاد بلغت أكثر من (25%) وهذا يعني بوجود اكثر من (12) مليون فقير في العراق يعانون بشدة من فاقة العيش، وتتصدر محافظة المثنى الأشد فقراً بنسبة (52%) تليها محافظتا الديوانية وذي قار بنسبة (49%) وبمحافظة نينوى وصلت الى (41%).. ووصلت نسبة الفقر في محافظات وسط العراق ما بين (15 17%)، وكانت نسبة الفقر في العاصمة بغداد نحو (12%) وهذه النسبة تنطبق على مدن إقليم كردستان.. فهكذا اثرت الحروب والفساد الإداري والمالي والانسداد السياسي بثقلها على احد اغنى البلدان بالنفط، حيث تصل احتياطات العراق من النفط الخام الى اكثر من (150) مليار برميل.

وعلى الرغم من تحسن وضع الدولة العراقية المالي وارتفاع احتياطات البنك المركزي الى أكثر من (50) مليار دولار وانخفاض الديون الخارجية الى (20) مليار دولار، فان ذلك لم تؤثر في تحقيق اصلاح الملف الخاص بالبطالة، حيث كشفت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية اكثر من (20%) من البطالة الفعلية لقوة العمل؟

ان الانفلات الأمني والسياسي والاقتصادي كون حكومات الاحتلال المتعاقبة لم تمتلك مقومات الحد الأدنى لإدارة شؤون البلاد، فهم عبارة عن سراق واميين جلبتهم أمريكا ومن معها لتنفيذ اجندة الصهاينة وأمريكا وايران لتدمير العراق وارجاعه الى عصر ما قبل الصناعة وذلك من خلال سرقة أموال الشعب العراقي وتبديد ثرواته البشرية والمادية والنفطية على وجه الخصوص، والعمل على زرع الفتنة الطائفية والاثنية والدينية وتغيير ديمغرافية العراق العربي من اجل طمس هويته العروبية.. ونشر الفساد المالي والإداري وتأكيدا على ذلك، صرح المنسق الاممي للشؤون الإنسانية من بوجود أكثر من (3.4) مليون نازح داخل العراق ويتطلب الامر من توفير أكثر من نصف مليار دولار لتقديم الخدمات الأساسية لهم.

وبنفس الوقت وبرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة عن عدد النازحين من العراق الى دول العالم، الا ان التقديرات الأولية لهذا العدد وصل نحو (3) مليون نازح، وبذلك يكون عدد النازحين في الداخل والخارج بنحو (6.4) مليون عراقي ويثمل ما نسبته (15.2%) من عديد السكان وقد وصلت في سنة (2023) لاكثر من (18%).

إضافة الى ما تقدم فهناك مؤشرات عامة عن الفساد المالي والإداري في العراق حيث تفيد المعلومات الموجودة لدى هيئة النزاهة الى:

1- وجود أكثر من (150) ألف شهادة مزورة، أصحابها حصلوا على وظائف مختلفة في دوائر الدولة ووزاراتها وفي البرلمان.
2- أكد المفتش العام لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وجود أكثر من (11) الف حالة تزوير في الوثائق المدرسية وهؤلاء يدرسون في الجامعات العراقية.
3- ان سعر بيع شهادة البكالوريوس    70 100 دولار.

وان سعر بيع شهادة الماجستير    350 500 دولار.

وان سعر بيع شهادة الدكتوراه     700 دولار فما فوق.

علماً ان أسعار هذه الشهادات تضاعفت في السنوات الأخيرة!!

4- ان سوق مريدي، فاقت شهرته غالبية أسواق التزوير في العراق، كونهم يمتلكون جميع الاختام الخاصة بدوائر الدولة ويزودونك بما تريد، من هوية الاحوال المدنية وشهادة جنسية وجوازات السفر والشهادات الجامعية وغيرها من الوثائق والمستمسكات.
5- تجاوز عدد المنظمات غير الحكومية (منظمات المجتمع المدني) في العراق وحسب قول المتحدث باسم الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ان عدد هذه المنظمات والمسجلة رسمياً في دائرة المنظمات غير الحكومية تجاوز الـ (5) الف منظمة. أضافة الى تسجيل اكثر من (100) فرع لمنظمات اجنبية عاملة في البلاد حالياً.. ولا احد يعلم عن عمل هذه المنظمات ودورها الضبابي ومن هم وراء تأسيسها، فضلاً عن وجود اكثر من (268) حزباً مسجلاً رسمياً ضمن الاستعدادات للانتخابات المحلية في عام (2023)، علماً ان جميع هذه المنظمات والأحزاب السياسية تقوم بنفس الوظيفة المعروفة لدى الشعب العراقي وهي النصب والاحتيال وسرقة أموال الشعب.
6- ونتيجة للفساد المالي والإداري والحكومي، اصبح العمل في اكثر من وظيفة أمراً مشاعاً حيث يعمل الموظف في اكثر من مكان ويتقاضى راتبين أو اكثر، وان اكثر من نصف الموظفين الحكوميين لا يلتحقون بأعمالهم وكثير منهم لا يعملون لأكثر من ساعتين او ثلاث ساعات باليوم الواحد. فضلاً عن وجود آلاف الموظفين الاشباح الذين تدفع لهم رواتب لكنهم لا يأتون مطلقاً الى العمل.
7- دفع ضعف الامن بالكثير من العلماء والمتخصصين والأكاديميين الى مغادرة العراق ويقدر ان أكثر من 60% من العلماء غادروا العراق ومنذ عام (2003) ولحد اليوم.
8- أن الفساد الموجود في محطات النفط والغاز يعتبر مثالاً صارخاً للفساد في بلادنا، ويعتبر مشكله مقعدة ومستفحلة. فالشبكة الاخطبوطية التي تشرف على ذلك أصبحت طبقة ثرية جداً ولها تنظيمات وشبكاتها المتفرعة، وبسبب تفرعها، أصبحت الحكومة عاجزة عن متابعتها، رغم الكثير من أعضاء الحكومة وأعضاء في البرلمان وقادة الأحزاب السياسية المهيمنة على كل شيء ضالعين في هذه الشبكات علماً ان اكثر من (30%) من البنزين المستورد تتم سرقته وإعادة بيعه في الخارج بواسطة عصابات التهريب، كما ان اكثر من (40%) من الكازولين الذي يتم استهلاكه سنوياً في العراق يتم شراءه من السوق السوداء، حيث ارتفعت أسعاره حتى وصلت الى مستوى (2.5) دولار للكالون بينما سعره المدعوم من قبل الحكومة (65) سنتاً، فمن مبلغ (1) مليار دولار يتم انفاقه في السوق السوداء يذهب مبلغ (800) مليون دولار كأرباح لهؤلاء المجرمين السراق!!
9- تقدر ديون العراق الخارجية والداخلية بنحو (120) مليار دولار وهو مبلغ ضخم جداً لبلد كالعراق وارداته من النفط الخام بلغت (46.5) مليار دولار في سنة (2020) وارتفعت الى (52.9) مليار دولار في سنة (2021) وفي عام (2023) وصلت الإيرادات النفطية الى (90) مليار دولار وفي عام (2023) وصل الدين العام بنحو (70) مليار دولار، وهذهالمبالغ تتغير حسب التغيير الحاصل على أسعار النفط في الأسواق العالمية..

فلا يجوز للعراق ان تكون ديونه العامة عالية بهذا الشكل وهذا يدلل على الفساد المالي والإداري المستشري في البلد ويدلل على سوء إدارة الموارد المالية للدولة.

10- يحتاج العراق لحل أزمة السكن الخانقة الى بناء (15) مليون وحدة سكنية ولكن لا يستطيع ان يحقق سوى 5% من ذلك.
11- ان كمية الغاز المصاحب المحروق في البصرة وكركوك يعادل (30) مليار دولار سنوياً في حين يستورد العراق من ايران الغاز بأكثر من (5) مليار دولار سنوياً.
12- ان قطاعات التعليم والصحة والخدمات في العراق هي من اسوء عشر دول في العالم.
13- هناك (150) ألف عنصر حماية يستخدمون أكثر من (10) ألف سيارة دفع رباعي تبلغ تكاليفهم سنوياً (7) مليار دولار، علماً ان تكاليف الوزير العراقي الذي قام بشراء منصبه من أحد المتنفذين في السلطة شهرياً (150) الف دولار عدا ما يسرقه من وزارته.

أن ما ذكرناه هو عبارة عن غيض من فيض، كون الفساد المالي والإداري قد تغلغل في جسد السلطة السياسية وفي جميع مفاصل الحكومة العراقية ومؤسساتها وتوابعها، وأصبحت عبارة عن خلية فساد دخلت في الجزئيات الدقيقة للدولة العراقية.. فالفساد مستشري من اعلى الهرم حتى أسفل قاعدته فالجميع مشتركون بالسرقات واخذ الرشاوي، واستغلال المواطنين أبشعاستغلال.. فالجميع دون أي استثناء مشاركون بنهش جسد العراق وتدميره.. وكما هم يصرحون الى وسائل الاعلام دون خجل من كونهم سراق!! ويتقاسمون الكعكة العراقية فيما بينهم.

ومن الواضح جداً ان الفساد سوف يؤثر بشكل مباشر او غير مباشر وبشكل فعال على عرقلة التنمية ومن ثم عن التطور الحضاري للمجتمع كون الفساد يؤدي وكما ذكرنا الى تبديد الثروة الوطنية ومن ثم يزيد من عدم فاعلية الاقتصاد وانخفاض إنتاجيته. وبسبب الفساد ستنخفض معدلات النمو الاقتصادي وسيؤدي الى ضعف الاستثمار وهروب رؤوس الأموال الى خارج البلاد، وما يتبعه من قلة فرص العمل وزيادة البطالة وانخفاض دخل الفرد وزيادة الفقر والحرمان. وان الهدر الذي يحصل بسبب الفساد المالي يعني ضياع أموال الدولة والتي كان من الاجدر استخدامها واستثمارها في مشاريع تخدم المواطنين، كما ان هدر الأموال وسرقتها سيؤدي بالضرورة الى عجز في العرض الكلي والإنتاج الوطني مما يؤدي الى الاتجاه نحو استيراد السلع والخدمات من الخارج وهذا بدوره يؤدي الى زيادة الطلب على العملة الأجنبية وتخفيض قيمة العملة الوطنية وهذا ما يحدث الان في العراق تماماً.


وبالتالي فأن الاقتصاد الوطني سيتحمل عبء هذا الفساد وعلى هذا الأساس نجد ان هناك علاقة عكسية بين الفساد والكفاءة الاقتصادية فانتشار الفساد يؤدي الى تقليل الكفاءة والعكس صحيح.

ان الفساد يضع قيوداً على الدولة وعلى تأدية وظائفها الاقتصادية والاجتماعية وسيؤثر بشكل او بآخر على السياسة المالية والنقدية للبلد كونه يقلل من الإيرادات العامة ويزيد من حجم الانفاق العام ولأسباب كثيرة، منها زيادة فرص التهرب الضريبي او الحصول على الإعفاءات الضريبية بطرق غير مشروعة.. ويبدو لنا من وجود علاقة قوية بين الفساد ودرجة اللامساواة في المجتمع، وكل ذلك سيخلف توزيعاً غير عادل بين السكان وسيزيد الفقير فقراً والغني غناً وسينعكس ذلك على مستوى التنمية البشرية وسيؤثر على مستوى رفاه المجتمع بشكل عام. وبنفس الوقت سيؤثر على العدالة التوزيعية للدخل والثروات لصالح الطبقة الأكثر قوة في المجتمع والذين يحتكرون السلطة والنفوذ وتؤدي الى خلق فوارق طبقية في الدخل وما لذلك من تأثيرات سلبية على النسيج الاجتماعي للبلد.ان هذه الطبقة الفاسدة التي تتحكم بالعراق ستستمر بنهش جسد العراق حتى تتركه هيكلاً عظمياً وستدافع عن مصالحها والبقاء في السلطة.

ومن أجل العمل على تحجيم الفساد ومن ثم القضاء عليه لا بد من العمل على تغيير شامل وجذري للوضع الشاذ القائم في العراق، واعتماد برنامج وطني عراقي شامل تتبناه حكومة وطنية غير مرتبطة بالأجنبي، تعمل من اجل العراق واستقراره وتنميته على أسس علمية وذلك من خلال وضع سياسة اقتصادية شاملة عن طريق منظمات المجتمع المدني المهتمة بالشؤون الاقتصادية وان يكون مكافحة الفساد شرط أساسي لسلامة فعالية الأنشطة الاقتصادية وشرط للمنافسة العادلة. وخلق مناخ وبيئة استثمارية صالحة لجلب الاستثمارات الأجنبية.. كل ذلك يتطلب دولة قوية تعمل على توفير الخدمات بفاعلية وكفاءة وتعزيز دور الرقابة المالية واستخدام الموارد العامة بشكل مثالي وتعمل على حماية حقوق الانسان والعمل على زيادة النمو الاقتصادي وتوطين التكنولوجيا. والعمل على خفض العجز المالي والتجاري واستخدام سياسة مالية ونقدية فعالة والتحكم بالتضخم والعمل على تشجيع القطاعات الاقتصادية الأخرى كالصناعة والزراعة وقطاع الخدمات وخلق تنمية مستدامة من اجل زيادة الدخل القومي ومن ثم دخل الفرد وتحقيق رفاه المجتمع. أن تحقيق مثل هكذا سياسات اقتصادية اجتماعية ستكون نتيجتها بالضرورة تحجيم الفساد شيئاً فشيئاً وصولاً الى دحره!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى