القمع الفكري وأثره في كتابة التاريخ

الجزء العاشر والأخير
عالم اليوم يختلف في كثير من تفاصيله ومرتكزاته عما كان عليه العالم قبل ثورة الاتصالات، وبات العالم على ما يبدو على استعداد لقبول وصاية ما كان ليقبل بها من قبل، لقواعد القانون الدولي الجديد على حساب قانونه المحلي، فتدّخل الجهات الدولية مثل منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية ورعاية الأمومة والطفولة واليونسكو والصحة العالمية والطاقة الذرية الدولية أمراً مفروغا منه في البرامج الصحية والثقافية وبرامج الطاقة، فزحفت سلطات مجلس الأمن الدولي على السلطة السيادية للدول، مما أفقد تلك الدول قدراً كبيراً من سيادتها على إقليمها الوطني، فعلى سبيل المثال صار التدخل الدولي بالمناهج الدراسية “بحجة محاربة الإرهاب” طريقاً مفتوحاً لفرض وجهات نظر مستوردة من دول غربية لها تقاليدها وأهدافها، بل من مجتمعات تحمل موروثاً تاريخياً ثأرياً ومتصادماً مع ثقافتنا الوطنية والقومية والإسلامية بحكم ما حصل من مواجهات وحروب طويلة بين الجانبين.
هذا في واقعه قمعٌ فكريٌ متعدد الأوجه تتعرض له شعوب الدول الصغيرة أو ما تسمى بشعوب البلدان النامية من جانب الدول الكبرى باسم التحضر والتمدن، فهل للواقع الجديد المفروض بقوة القانون المستند إلى قانون القوة، بعد أن بقيَ قروناً طويلة ومفروضاً بقوة الاحتلال الاستعماري المسلح، تأثيره في كتابة تاريخ الأمم والشعوب؟
قد يضطرنا المشهد إلى العودة إلى ما كتبناه في بداية هذا الموضوع، من أن التاريخ يكتبه المنتصرون الذين تسيّدوا مسرح الأحداث الدولية من نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم ما حصل من تبادل لمواقع اللاعبين الدوليين الكبار في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتراجع بريطانيا وفرنسا وصعود مركزي الاستقطاب الجديدين “الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي”، ثم اختلال المعادلة السياسية والاقتصادية بحيث تسارعت الأحداث في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي مما أدى إلى خروج الاتحاد السوفيتي من المعادلة الدولية وانهيار الكتلة الشيوعية بعد انهيار جدار برلين، وبروز الولايات المتحدة كمركز استقطاب دولي وحيد، مع كل الاختلالات الاستراتيجية التي رافقت ذلك.
الآن هناك تاريخان سيكتبان للمنطقة، هما التاريخ الذي ستكتبه إرادة الشعوب بوعيها الفكري والثقافي واعتزازها بموروثها الحضاري والديني ويتكرس في الذاكرة الجمعية ويتم تناقله جيلا بعد جيل وربما سيحمل مصداقية شعبية أكبر من مصداقية المدونات المعدة من المؤرخين لحين إثبات العكس، وبالمقابل تاريخ ستكتبه القوى المسيطرة سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وما يصدر عن المنظمات الدولية من قرارات لها قوة الإلزام بحكم ميثاق الأمم المتحدة، أو قرارات محكمة العدل الدولية في لاهاي أو محكمة الجنايات الدولية، أو المنظمات التي تراقب التزام الدول بحقوق الإنسان ، ثم تصدر بياناتها بهذا الصدد لتثبّت كحقائق تاريخية لا غبار عليها، صحيح أن تلك القرارات لا تملك قوة التحكم بالصياغات التاريخية، إلا أن كثيرا منها يترك وراءه متغيرات جغرافية تبدّل الجغرافيا السياسية لدول قائمة منذ زمن بعيد، مع كل ما يتبعه ذلك من تبدلات على مستوى التاريخ والاقتصاد والسيادة وتوازنات القوة العسكرية إقليميا ودوليا، كما حصل في أسيا وأفريقيا، وحتى أوربا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وتوحيد الألمانيتين ثم تفكيك يوغسلافيا وانسلاخ عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي عنه وقيام دول مستقلة ولكنها كانت في حالة حرب مع بعضها نتيجة خلافات على الحدود والثروات والأسلحة.
إن تحكم الخطاب السياسي والدبلوماسي والإعلامي، أصبح واجهة لأسوأ أنواع القمع في تدوين التاريخ في الوقت الحاضر، كما أن العولمة صادرت حقوق التميّز لدى الأمم والشعوب، وفرضت قوالب جاهزة على الدول الصغيرة عليها أن تعتمدها لضمان دخولها نادي العلاقات الدولية.
ولنأخذ بعض النماذج التي ما تزال تأثيراتها سارية حتى اليوم في الوطن العربي، فقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين المرقم 181 الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1947، من أعلى سلطة دولية وأعطى اليهود حق إقامة وطن لهم بعد 30 سنة من الوعد الذي أصدره وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، ويدل الوعد ومن ثم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الدول الكبرى والمنظمات الدولية، قادرة على أن تخرق حقوق الدول الصغيرة وترسم لمناطق العالم المختلفة مسارات سياسية وأمنية واستراتيجية ستبقى تفرض نفسها على شعوبها زمنا طويلا.
فهل نستطيع تفسير ما حصل بشأن القضية الفلسطينية مجرد وعد سياسي ينقل ملكية أرض من شعب إلى مجموعة سكانية تعيش في مختلف دول العالم ويراد تجميعها في مكان واحد لأغراض تتعلق باستراتيجية القوى الدولية نفسها؟
وماذا يعني تسليم بريطانيا إقليم الأحواز لشاه إيران عام 1925 بعد محاولة تجريده من طابعه العربي، ونزع عائديته للعراق ونقل السيادة إلى إيران؟ وما ينطبق على الأحواز ينطبق على وضع الكويت مطلع ستينيات القرن الماضي ثم تطورات ما حصل عام 1990 وما أعقب ذلك من تداعيات خطيرة أدت إلى احتلال العراق عام 2003 والتجاوز على أراضيه ومياهه، وكأن الذين رضوا بهذا الواقع لم يقرأوا مآسي اتفاقية فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى وفرضت شروطا غير مقبولة على ألمانيا ثم كانت سببا في اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وهناك أحداث مهمة حصلت في المنطقة واستطاع الإعلام الغربي المدعوم من الدول الكبرى تكريسها واعتبارها حقائق لا تقبل الجدل نتيجة التكرار وقوة الانتشار، ولنأخذ ما حصل في مدينة حلبجة العراقية يوم 16 آذار/ مارس 1988، وأخذ مصطلح استخدام القوات العراقية للسلاح الكيمياوي ضد المدينة، مما أدى إلى مقتل الآلاف من سكانها وكأن هذا ما حصل فعلا، ولا أريد الخوض في حقيقة ما جرى، لأنه ليس بهذا الوصف مطلقا، وإنما أقول إنه دليل على قدرة الإعلام والقرارات السياسية المسيطرة والمنظمات الدولية على كتابة التاريخ بما يخدم أهداف القوى الحاكمة في العالم، وهناك من الأحداث في شتى أرجاء العالم ما يعزز القناعة من أن القوة المسلحة هي تعد من بين أمضى أدوات كتابة التاريخ، سواء بنشوء دول جديدة أو زوال دول موجودة عن خارطة الجغرافيا السياسية.
مع تطور العلاقات الدولية الراهنة، زحفَ القانونُ الدولي على حقوق الدول في التشريع الوطني بما يتناسب مع موروثها الثقافي وخزينها الاجتماعي، وبات التقيّد بالقوانين الدولية معيارا لاحترام حقوق الإنسان والالتزام بميثاق الأمم المتحدة الذي يريد الكبار من الدول الصغيرة الالتزام به من دون أن يلتزموا هم بقواعده.
فكيف سيتم تدوين أحداث تاريخ الدول الصغيرة المعزولة كجزر وسط محيط واسع من العواصف والأعاصير؟ وكيف تستطيع أمتنا العربية أن ترسم لنفسها مساراً مستقلا في تدوين تاريخها كما حصل على الأرض وليس كما يفترضه الآخرون، وأخيرا كيف سيكون بوسع العراق خاصة والأمة العربية عامة تدوين أحداث التاريخ والمآسي التي جرت منذ عام 2003 وما أعقبها من تداعيات لكل جدران الصمود التي كانت عالية بوجه الرياح الصفراء القادمة من فارس؟ أو الأعاصير الصهيونية السوداء؟ وإذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فمن ذا القادر على انتزاع النصر من عيون تحالف الصفوية والصهيونية؟ وبالتالي سيكون مؤهلاً وجديراً لكتابة تاريخ جديد للمنطقة؟

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى