القمع الفكري وأثره في كتابة التاريخ

نزار السامرائي

الجزء الثاني

ما عاشته الأمة من صراعات سياسية وفكرية ونزاعات مسلحة منذ 1400 سنة، بدا وكأنه تجمّع في سلة واحدة واختار العراق أن يحتكر استيراده أكثر من أي مكان آخر في العالم، فأعطى نفسه حق النيابة عن مسلمي العالم أجمع، ليحمل عنهم عبء المتراكم من الأزمات والمحن الناجمة عن خلافات قديمة ومستحكمة عجزت الأجيال السابقة من مفكرين وعقلاء وعلماء عن حلّها، وأدت إلى نزاعات وصراعات دموية لم يعشها أحد من الأجيال المعاصرة ولكنها سيطرت على مشاعر الجيل الحالي أكثر مما عاشها أصحابها الأصليون، وتفجّر ذلك الخزين كلُه دفعة واحدة خلال فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، فلقد حفلت هذه الفترة الوجيزة بأكبر قدر ٍمن التعاطي المغرض مع التاريخ العربي الإسلامي من قبل معممين جهلة و”رواديد” لا هم لهم إلا كسب المال على قدر نجاحهم في صناعة الحزن الجمعي والنواح وانتزاع دموع عراقيين مجبولين على التفاعل مع الأحزان أكثر مما يعرفون طقوس الفرح والأمل دموع تبحث لها عن أي سبب لتهطل بغزارة، فأعاد متصدرو المشهد طرح الصراع بإضافة مجلدات إلى ما حصل في القرن الأول الهجري بصور تراجيدية معاصرة اقتبسوها مما تعلّموه من القاموس الفارسي الزرادشتي.
وواقعة السقيفة المعروفة بعد رحيل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والتي أسفرت عن مبايعة الصديق أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة، وقراره التاريخي بمواجهة حروب الردة التي كادت أن تعود بالعرب إلى جاهليتهم الأولى، ثم وصية الصديق بالخلافة للفاروق عمر بن الخطاب عندما حضره الموت، وعهد عمر بن الخطاب بعد أن طعنه الفارسي أبو لؤلؤة وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر في المسجد النبوي الشريف، لمجلس الشورى لاختيار الخليفة من بعده والذي اختار عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم واقعة اغتيال ذي النورين والتي كانت إيذانا ببدء الفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام، ثم استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أحداث باتت هي وما أعقبها من أزمات متناسلة بدأت بمعركة الجمل وحروب الخوارج ومعركة صفين ثم انتقال الحكم إلى الدولة الأموية، زادا يوميا لألسنة تبحث عن فقه الاختلاف أكثر من بحثها عمّا يوحد كلمة المسلمين وراء كلمة التوحيد، كل هذا الحمل الثقيل من الوقائع والافتراء على التاريخ، فتقّت ذهن العراقيين المعروفين بغلوهم في الولاء والبراء في الحب والكراهية، على إضافات تاريخية لم يعرفها الأولون وتم حذف كثير من صفحات التصافي في التاريخ العربي من وقائع مؤكدة.
وكان حجب الخلافة عن علي بن أبي طالب على ما يقول الشيعة في أدبياتهم، محورا لتاريخ متصل من الصراع مع أنه حدث مضى وانتهى في وقته، ومحطة لإنتاج أزمات متواصلة وأخذت بعدها المأساوي في استشهاد الحسين رضي الله عنه في واقعة ألطف في عاشوراء، وربما كان حجم التحريف الذي تعرض له تاريخ الواقعة منذ 2003 وحتى الآن هو الأكبر، حتى وصل إلى أن نوري المالكي قال أثناء التحضير لمعركة ضد “داعش” في المحافظات السنية، (إن المعركة بين أنصار الحسين وأتباع يزيد) وجعل من ذلك الشعار منهاجا لغلاة الشيعة في سلطة الأمر الواقع في العراق، فهل لمعركة ألطّف امتدادات تتجدد كلما رأى مسؤول سياسي فاشل أن مصلحته تقتضي استخراجها من كتب التاريخ وإقامة متاريسها وإعداد أسلحتها في المكان الذي اختاره لها؟ لقد كان هذا التوظيف هو الأسوأ مما حصل في الماضي والحاضر معا، فهو الأكبر من بين كل التصورات والحكايا التي نُسجت بدقة لتنتزع البكاء وجلد الذات ولتستثير الأحقاد والضغائن وتنشر الفتنة والاقتتال بين المسلمين، فقد حصل تزوير وأضيفت مشاهد وأساطير وخرافات إلى الواقعة، كان الشيخ أحمد الوائلي وعدد من ذوي الغيرة والحرص على التشيّع والخائفين عليه قد حذروا من أن تتحول مأساة الحسين رضي الله عنه إلى “مسخرة” على حد وصف الوائلي مما يلحق أفدح الأضرار بفكرة التشيع نفسه، ولكن القضية تحولت إلى تجارةٍ رائجة ومصدر ثراء لمرتزقة يكتنزون منها عشرات بل ومئات الملايين من الدولارات، ومن يحاول عقلنة أحداثها يتحول إلى هدف لسهام ورماح تنتظر نصب شاخص لتختبر جدارتها في التصويب.
إن القمع الذي تمارسه الطبقة الدينية التي تقود المذهب والتي تمسك بأدوات السلطة من مال وقوة عسكرية، على كل صوت يحاول إخراجه من القوالب المصنّعة في فارس، تجسدّ بشكل كامل ما يجري حاليا في العراق، فإحساس الشيعة بالاضطهاد المزمن منذ 1400 سنة والذي يبدو أنه لا يريد مغادرتهم على الرغم من أنهم تحولوا من الفئة المظلومة إلى الفئة الحاكمة القادرة على إزالة الظلم عن نفسها بل وظلم الآخرين، جرّ كتّابَهم ومدونيّهم إلى صناعة تاريخ زائفٍ ومحرّفٍ ومخزٍ بكل معنى الكلمة، يستحث فيهم كل نوازع الانتقام، ولنركز على الظاهرة العاشورية التي تفاقمت صورها المستحدثة منذ 2003 وحتى الآن، فقد حصل أكبر تزوير لأحداث حركة الحسين منذ تلقيه آلاف الرسائل بالبيعة من أهل الكوفة وتَعدُه بالوقوف معه في قيامه ضد الدولة الأموية.
ربما ينظر بعض المهتمين إلى أن تدوين التاريخ هو أهم مفردة في كل هذا المشهد، لكن هناك غيرهم ممن يعتقد أن ما يعانيه الناس من القمع الانتقائي مما يتسبب بالقهر الجمعي، يتقدم على التدوين في أهميته، لأنّه يفترض أنّ سلوكاً للفئة المستهدفة بالقمع سيبرز على السطح مما لا يعبر عن حقيقة مشاعرها أو قناعاتها، وهذا النوع من الاستعباد هو أسوأ ما يعيشه المجتمع أفرادا وجماعات، وهذه الحالة الإنسانية المتردية إلى أدنى درجات الذل هي التي جاءت الأديان السماوية وحركات التثوير والتنوير الفكري في العالم للقضاء عليها وعلى معاناة الإنسان من ويلات الذل والعبودية، لأن القوة يمكن أن تفرض وضعا معينا على المجتمع أو فئة منه لوقت محدود، ولكن هذه العوامل نفسها هي التي تدفع به للثورة على القهر والقمع، مع كل ما يرافقها من أحداث مأساوية أو دموية وخاصة عندما يتساوى الموت قهرا أو الموت تحت سياط الجلادين أو القتل في ساحة المنازلة، وعادة ما يعقب مثل هذه الثورات أو الفورات انتقام سينال كل المتسببين في مآسي الحقبة السابقة، وربما يسود خلالها شعار الثورة الفرنسية (الموت للنبلاء المذنب منهم والبريء) إن كان ثمة برئ من مسرح الذل المنصوبة خيمته فوق أرض العرب، فسلطة العقل ستتعطل أمام فورة الغضب.
لقد شهدت فترة حكم سلطة الأمر الواقع المفروض إيرانيا وأمريكيا في العراق، والذي يحكم باسم الشيعة صدقاً أو كذباً، خروجاً على قواعد القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بل خروجا على كل الشعارات التي تطرحها سلطة الحكم، التي استدرجت إليها الرعاع من سفلة المجتمع ليكونوا أدوات بيد مليشيات مسلحة مارست القتل والتهجير والتغييب على معارضيها، وارتكبت أسوأ أنواع القمع والقهر وإذلال الناس الذين يحملون عقائد أخرى، كل ذلك أمام سمع الحكومة وبصرها ودعمها وتسليطها عليهم حثالات المجتمع ومنبوذيه بعد أن جهزتهم بالسلاح ودربتهم على استخدامه والتلويح به استفزازا للكرامة الإنسانية، وخاصة في المحافظات السُنيّة ومدنها.

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى