ولم يتوقف سيل الدم بعد واقعة الطف سريعا بل تدفق غزيرا في الكوفة، إذ قاد المختار بن عبيد الثقفي ثورة للانتقام من قتلة الحسين، وسيطر على الكوفة واستمر حكمه لمدة 18 شهرا، ويقال إن رأس عمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن جيء بهما إليه بصينية من ذهب، كما قتل عبيد الله بن زياد بعد أن سيّر المختار إليه إبراهيم بن الأشتر فقتله في الموصل.
ولكن الأمر لم يستتب للمختار طويلا فقد ثارت عليه الكوفة التي كانت مدينة أخلاط استوطنها كثير من الفرس، وانتصر عليه مصعب بن الزبير الذي أعلن الثورة لدعم ثورة أخيه عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة، وجيء برأس المختار إلى مصعب بنفس الصينية على ما تقول روايات غير موثقة تسردها الذاكرة الشعبية العراقية، ولكن الرواية التاريخية تقول إن مصعباً أمر بتعليق رأس المختار على جدار مسجد الكوفة كما أمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمّرت بمسمار إلى جانب مسجد الكوفة، حتى ظهر الحجاج بن يوسف الثقفي فأمر بإنزاله ودفنه في نَزعةٍ قبليةٍ لم يذكرها كارهو الحجاج له.
ومن يتابع ما كُتب في تلك الحقبة من مدونات تاريخية أو نصوص أدبية سيجد أنها تنتمي إلى ضفتي نهر مختلفتين في كل شيء، فكل فريق يكتب على هواه ويصور الأحداث ليس من الزاوية التي كان يرصدها فيها وإن كانت مكانة الحسين من النبي الكريم قد أدت إلى انحسار الروايات المحايدة أو المنحازة إلى جانب القتلة، لهذه الأسباب وغيرها ترسخت الصور الذهنية التي تخيلّتها العواطف انحيازا لهذا الطرف أو ذاك، ولقد برز الفكر الشيعي كفكرٍ يركز على خطأ كل المذاهب التي لا تشاطره الإقرار بفكرة الولاية ولا تعترف بعصمة الأئمة، هذا فكر تكفيري يسبق كل الحركات التكفيرية التي ظهرت في حقبٍ لاحقةٍ من عمر الإسلام، ولهذا نلاحظ التصادم في كل شيء بالسيوف والأفكار والشعر وفي كتابة التاريخ، ولم يتوقف الأمر على هذه الحقبة الصاخبة من الزمن العربي فقط، بل عاد المؤرخون إلى تخطئة كل ما لا ينسجم مع هواهم وميلهم، عودةً إلى عصر الرسالة كما مرّ ذكره في الحديث عن خطبة حجة الوداع وغدير خم وواقعة السقيفة وهكذا.
أما ما حصل في العصر العباسي من كتابة للتاريخ، فربما يتطلب وقفة طويلة للتدبر فيه كله، نظرا لدخول العنصر الفارسي على خط السياسة والدين ودواوين الدولة ومجالس الخلفاء والتدوين والأدب، ويكفينا أن نستذكر أن بني العباس ما وصلوا إلى الحكم إلا بعونٍ فارسي قاد جمعَه أبو مسلم الخراساني الذي انتهى بأبي جعفر المنصور إلى التخلص من الخراساني بقتله في واقعة معروفة، بعد أن شعر المنصور أن أبا مسلم الخراساني صار خطرا جديا على الخلافة العباسية.
ونعي جيدا أن منطق الثأر الذي حمله بنو العباس على بني أمية نتيجة قتلهم صاحبَ الدعوة العباسية إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وما أعقب ذلك من سفك دماء كثيرة من الأمويين وأتباعهم حدد مسار التدوين لفترة طويلة، ففي واقعة يذكرها ابن عبد ربه في العقد الفريد وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة وكثير من المؤرخين، أن أبا العباس السفاح أعطى الأمان لمن بقي من وجوه الأمويين ودعاهم إلى وليمة ثم قتلهم بأبشع صورة بعدما حرّضه الشاعر سديف مولى آل أبي لهب بأبيات شعر قال فيها:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف و ارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
هذا العنف أشاع جوا من الرعب والإرهاب الفكري وخاصة بعدما تناقلت الركبان قصة تلك المجزرة بين أبناء العمومة المتقاتلين على المُلك، مما أدى إلى نشوء الفكر المتزلف لدولة بني العباس وتدوين كثير من الوقائع بما ينسجم مع رغباتهم، لكن ذلك لم يمنع نشوء حركات فكرية باطنية وسياسية ومسلحة، واجهتها الدولة العباسية بما تمتلك من قدرات وموارد بشرية ومادية، ولكن اتساعها وتعدد واجهاتها أدى بالنتيجة النهائية إلى سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو عام 1258 بعد أن تضافرت جهود المعارضين لها من حركات غالية وباطنية اتخذ كثيرٌ منها (حب آل البيت شعارا).
لقد عاشت الأمة العربية وخاصة في العراق أسوأ مراحل تاريخها بسبب التحريف الخطير الذي تعرض له التدوين، ذلك أن الفرس الذين عانوا من قهر إسقاط الامبراطورية الساسانية في معركة القادسية لم ولن يغفروا للعرب فعلتهم هذه، ولأن الفرس مجبولون على الغدر والخديعة، فقد اتخذ حراس معبد النار في يزد قرارا صارما، هو أن يزوروا التاريخ في أي مقطع يستطيعون الوصول إليه، ولم يجدوا أفضل من ارتداء قميص (مظلومية آل بيت النبي) وسلبهم حقهم في خلافة النبي الكريم، وراحوا يضعون النصوص والمدونات وينسبونها إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فكانت أول واقعة لفقوها، كسر ضلع فاطمة الزهراء رضي الله عنها، في مشهد فيه من الإساءة لمكانة علي بن أبي طالب وغيرته على زوجته، ولشجاعته وهو يقف متفرجا عاجزا عن حماية زوجته وأم أولاده وابنة رسول الله، فكان غلاة المتأسلمين الفرس على استعداد للإساءة بأبشع الصور لآل البيت من أجل الإساءة إلى رموز دحر امبراطورية فارس المجوسية، فنشّطوا مهاراتهم في اختلاق قصص وأساطير للطعن في الجانب الآخر أي كل من كان له دور في إسقاط الدولة الساسانية، وبمقابله تأليه الطرف الذي يريدون التسلق على ظهره وصولا إلى هدفهم.
لقد بقي التشيّع الولائي لفارس غامضا في معظم صفحاته لفترة طويلة حتى استطاع أن يحقق لنفسه مواطئ أقدام خارج بلاد فارس، ذلك أن الفرس كانوا يمارسون أعلى درجات الخديعة والتقيّة السياسية في خطابهم المعلن، فلا يجد المراقب إلا أن يصدّق دعواتهم للتقريب بين المذاهب، وأخذت هذه الدعوة قوة دفع إعلامية بعد عام من وصول خميني إلى الحكم 1979، في الوقت الذي نشطت إيران في برنامجها الباطني في تطوير خططها للإساءة لرموز الإسلام الخالدة، صحابة رسول الله وأزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وفي السعي الحثيث لنشر التشيّع ليس في أوساط غير إسلامية وإنما في الوسط الذي يخوضون معه حوار التقريب بين المذاهب، وهنا أشرّ كثير من المراقبين أن مرجعية خميني وخامنئي وكذلك مرجعية النجف، وزعت الأدوار على معممين لتأدية ثلاثة أدوار تلتقي كلها عند نقطة واحدة وهي الجهد الذي بدأ بوصول إسماعيل الصفوي أي نقطة تشييع المسلمين السنة، وهذه الأدوار هي:
1- رجال دين يلقون محاضرات تنقل على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي تبالغ في إضفاء صور من الخوارق والمعجزات على آل البيت لم تتسن حتى للأنبياء والرسل، ومع أن تلك الأقاصيص لا يمكن أن تدخل في عقل إنسان سوي، فإن أحدا ممن يسمون أنفسهم المراجع الكبار لم يكلف نفسه في وضع حد لهذا الكفر.
2- رجال دين يمارسون نفس الدور في التهجم على صحابة رسول الله وتكفيرهم، وتكفير أتباع المذاهب الأخرى، واعتبار التشيع هو الإسلام الحقيقي وما عداه فكفر، ولهذا منحت إيران نفسها الحق في نشر التشيّع في سوريا عن طريق تجنيد الأطفال في المناطق التي أفقرها ودمرها نظام القاتل بشار الأسد بالتعاون مع حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية والحرس الثوري، وذلك بتنظيم مسيرات في مدن لم يكن فيها شيعي واحد، وإذا بها بسبب الجوع والفقر المدقع تشهد تلك المسيرات الاستفزازية والمخدشة للعيون والآذان والمشاعر، والتي تحمل أعلى درجات القمع الفكري والعدوان على حق الانسان بالتعبد من دون قهر أو فرض دين أو مذهب اعتمادا على التخويف أو التجويع.
وهناك معممون فقدوا أي وازع أخلاقي أو ديني وأمِنوا العقاب لأن السلطة في العراق معهم ومرجعية النجف توفر لهم المظلة السياسية والقانونية، خرجوا عن كل ما يمت للقيم بصلة، والأمثلة كثيرة ولا تحصى، واحد من سوقتهم كان يتحدث في محاضرة منقولة على موقعه للتواصل الاجتماعي قال فيها (عند ولادة الإنسان يحضر إبليس ولادته، فإن كان من شيعتنا فإن الله يحوُل بينه وبين المولود الجديد، وإن كان من النواصب “السنة” فإن إبليس يمد سبابته في است هذا المولود الذي سيكون مأبونا).
لا أحد يعرف فكرا بهذا الانحراف الخلقي والسلوكي إلا عند هذه الحفنة من الأفاقين المنحرفين عن جادة الإسلام، ومع ذلك فإنهم يتحركون على “النواصب” لتحويلهم نحو التشيع، فما هو حكم التشيّع في هذا المأبون على حد وصف هذا المعمم الفاسد الساقط؟ فإذا كانت هذه عاهتهم فلماذا تحولونهم نحو التشيع؟ وإذا سلمنا بهذا الهراء والسقوط فمن حقنا أن نسأل هذا السؤال … ترى كم في أوساط الشيعة الآن من هذا الصنف؟
3- رجال دين لا يظهرون في محاضرات ولا على الفضائيات بل يمارسون أعلى درجات التقية والنفاق، ويقدمون أنفسهم في مؤتمرات مغلقة على أنهم حملة مشعل التسامح بين المذاهب والتقريب بينها، ومن اللافت أن مثل هذه الدعوات انطلت على السُنة إما عن قناعة بصدق مطلقيها، أو نفاقا أو لمصلحة مادية أو خضوعا لمنطق الغالب والمغلوب.
وهنا يتجسد أسوأ ركن من أركان التحرك الفارسي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، أي طرح إيران زعيمة للتسامح والتآخي والوحدة الإسلامية، وللحق فإن إيران تمكنت من خداع كثير من علماء الدين المسلمين وتضليل أعلى المراكز الإسلامية مكانة في العالم الإسلامي سواء في مصر أو باكستان أو في بلاد المغرب العربي، فقد مدّ لها السُنّة يداً بيضاء، في حين أنها كانت تخطط لاجتياح بلدانهم وطعنهم بخنجر الغدر، والتأثير على مراكز الإشعاع الإسلامي فيها مثل الأزهر في مصر، لا سيما وأنه لأسباب سياسية كان الأزهر قد أصدر فتوى من قبل شيخه محمود شلتوت، بتأثير من الرئيس جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي باعتبار المذهب الجعفري مذهبا إسلاميا يدّرس في الأزهر، وكذلك الحال مع غير الأزهر من مراكز الإشعاع الإسلامي في العالم.
ولكن أكثر المتحمسين لما يسمى بحوار المذاهب وهو الداعية المصري والمقيم في قطر الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، شن يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2016 هجوما قاسيا على فكرة التقريب بين المذاهب، منتقدا المرجعيات الشيعية التي قال إنها تكّفر الصحابة وزوجات النبي ولم تُفتِ بجواز التعبد بالمذهب السني، معتبرا أن فكرة التقريب صبت لصالح الشيعة ولم يستفد السنة منها شيئا.
ويبدو القرضاوي في الفيديو الذي أعاد نشر تقرير حوله كان يعبر عن “ندمه” لمحاولاته في السنوات الماضية للتقريب بين السنّة والشيعة قائلا: “بعد هذا العمر الطويل لم أجد فائدة من التقريب بين السنة والشيعة سوى تضييع السنة وتكسيب الشيعة، السنة لا يكسبون شيئا وهم يكسبون من ورائنا.”
وتابع القرضاوي، الذي كان يتحدث خلال ندوة نظمها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه، بالقول: “الشيعة يكفرون الصحابة جميعا ويكفرون سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر بن الخطاب، وسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا طلحة والزبير والسيدة عائشة والسيدة حفصة” في إشارة إلى عدد من أصحاب النبي محمد وزوجاته الذين يتمتعون بمنزلة رفيعة عند السنة.
لكن هل يعبر هذا الموقف عن إجماع لكل من شارك في ندوات التقريب بين المذاهب التي استنزفت وقتا طويلا من عمر الأمة؟
لقد تمكنت إيران من ربط التشيع بصورة محكمة مع الولاء لمرجعية خميني ومن بعده خامنئي، ونجحت إلى حدود بعيدة في زرع أسلحة هي أخطر بكثير من السلاح النووي بين ظهرانينا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ولكن ولاءهم عابر للحدود نحو فارس ويتحركون بأوامرها.
وكان لاحتلال العراق من قبل أمريكا وبريطانيا عام 2003 ثم تسليمه هدية أطلسية لإيران بصفقة تخادم شامل بين إيران والتشيّع الولائي من جهة والغرب والشرق من جهة أخرى لشق العالم الإسلامي عموديا، الدور الأكبر في تحويل أتباع إيران إلى جنود مجندة يتحركون بأمر خامنئي ووكلائه في المنطقة، لإشغال العالم الإسلامي بحروب بينه وبين نفسه لن تعرف نهاية أبدا، وهذا ما أدخل العالم في مرحلة جديدة من الصراعات الفكرية والسياسية والعسكرية، فتكشفت الحقيقة الكاملة عن النوايا المضمرة لإيران والتي ظلت تتستر عليها عدة قرون، فقد أظهر احتلالها للعراق “مع أن ثمنه كان باهظا على العراقيين والوطن العربي” جوهر التشيّع الفارسي الصفوي ومدى حقده التاريخي على الأمة والذي لن تُطفئ ناره إلا بسيطرة فارس على العالم الإسلامي استنادا إلى تصور تكّرس في عقول دهاقنة التشيّع في قم ونقلوه بأمانة إلى شيعة العراق خاصة، من أن العرب قادوا العالم الإسلامي عدة قرون وهم أمة لا رصيد حضاريا لها إلا الشعر والرمال والجراد والابل، ثم انتقل المُلك عدة قرون أخرى إلى قبائل تركية متخلفة جمعها مؤسس الدولة العثمانية وهم بلا رصيد حضاري ولا يحسنون إلا القتال، وها هي ساعة الفرس قد دقت لتدشين الحقبة الفارسية الغنية بإرثها الحضاري الثقافي العميق لقيادة العالم الإسلامي، والذي لن تستكمل حلقاته ما لم يصل الفرس إلى حكم مكة المكرمة والمدينة المنورة وذلك من أجل امتلاك شرعية تمثيل المسلمين من خلال مكانة الحرمين الشريفين.
إن ما برز على السطح من نزعة كراهية لصحابة الرسول الأكرم ولأزواجه من جانب شيعة العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية، وخاصة أثناء إحياء المناسبات المذهبية تثير كثيرا من التساؤلات عن التقية التي كانت معتمدة في علاقات الشيعة مع بقية المكونات وكيف استطاع الشيعة اختزان هذا القدر من الضغينة لأجيال عديدة، حتى تفجّر بركانه دفعة واحدة بعد عام 2003، وهنا يبرز السؤال الأهم وهو…. كيف نجح الفرس في غرس مشاعر الكراهية لدى الشيعة العرب وخاصة في العراق على أقرب صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وأزواجه ولرموز الإسلام الذين كان لهم الفضل الأول في توسيع رقعة بلاد المسلمين وفي تثبيت أركان الدولة الإسلامية الفتية؟ وهل كان ذلك ممكنا لو لم يكن مراجع التشيع الأوائل من الفرس فقط؟
706