القمع الفكري وأثره في كتابة التاريخ

هل تحوَل الحكم في العراق إلى حكم شيعي؟

الجزء السادس

مقالات ذات صلة

اللافت للنظر أن هذا الإرهاب والقمع حصل في العقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة وما زال متواصلا وسط صمت مميت ومُدان، من جانب الأمم المتحدة ومكتبها في بغداد واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، والأهم من ذلك الصمت الذي يطبع سلوك الدول الكبرى التي جاءت بكل الشرور إلى العراق عام 2003 وجعلت من نفسها قيّمة على التنفيذ الحرفي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، فأين يكمن الخلل؟
هناك مخطط لإحداث دمار شامل في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العراق، ترتكز على موقف استراتيجي سبق وأن أعلنه وزير خارجية الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي جيمس بيكر والذي حدده بإعادة العراق إلى عصر ما قبل الصناعة، وأنيط تنفيذ صفحته الثانية بإيران ومليشيات مرتبطة بها ارتباطا ولائيا، فالدول الكبرى تنظر إلى إيران كشريك سياسي واقتصادي مرغوب فيه ويتحدث لغة واحدة مع الأسرة الدولية، ويُحكم سيطرته على قوى مسلحة يمكن أن تعبث بأمن المنطقة ومصالح الدول الكبرى عبر تحريك أدواتها وخلاياها النائمة متى اقتضت مصلحتها ذلك، ولهذا الشريك سواحل طويلة على أهم الممرات الملاحية للتجارة الدولية بين اليابان والصين والهند وأوربا والولايات المتحدة، مما يمنحه قدرة على السيطرة على الممرات الملاحية الدولية، ثم إنها القوة الوحيدة التي تستطيع بما وضع تحت سيطرتها من سلاح وغضِ نظرِ عن أهدافها السياسية المعلنة وعن برنامجها النووي الموجه لردع العرب دون سواهم، وبسبب أطماع إيران ونوايا التغيير المذهبي الذي تخطط له بقوة الإغراء حينا والضغط في معظم الأحيان على السكان يجد العالم نفسه معجبا بذلك الإصرار على الوصول إلى الهدف مهما طال الانتظار، كل ذلك مكّن إيران من إثارة الهلع في نفوس حكام الخليج العربي منطقة الخاصرة الضعيفة في الجسد العربي، فسارعوا للبحث عن قوة تحميهم من الخطر الإيراني الداهم، بعد أن هدّموا بأيديهم وأموالهم جدار الصد العربي الأول عن الأمة “أي العراق” وانطلت عليهم ابتسامات إيرانية مسمومة كما هو معهود فيها، ففرشوا لها ولعملائها مما يسمى “بالمعارضة العراقية” السجاد الأحمر وفتحوا لها خزائنهم بل تعاملوا معهم كضيوف مرموقين من وزن VIP””، على الرغم من أن وطنهم الأم “أي إيران” كان يتعامل معهم كعبيد أرقّاء وكخدمٍ مجّانييّن، وتركتهم يتسكعون على السفارات وأجهزة المخابرات الشرقية والغربية لكسب الرضا الدولي، وظن النظام الرسمي العربي أنه قادر على تجنيد القوى الدولية الكبرى كمرتزقة لحمايته من أي خطر إيراني مستقبلي، كما حصل عام 1991 بالعدوان الثلاثيني على العراق، وما عرفوا أن أي تدخل خارجي محكوم بحسابات الأمن القومي لتلك القوى الدولية.
إيران تعرف أنها ستحركُ إن أرادت، كل هذه الأدوات الرخيصة من دون أن تتحمل التبعات القانونية من وراء أي عمل ارهابي قد تتعرض له المنطقة وطرق المواصلات الدولية ومصالح الدول الكبرى.
لعل أخطر ما في القمع الراهن والمتواصل في العراق أنه إرهاب دولة ويمارسه من يمتلك السلطة لإسكات الآخرين، ويلبسه أردية دينية مستندا على أمرين الأول أن المجتمعات التي تعاني من الإرهاب الفكري عادة ما تكون مجتمعات متدينة من جانب وتعيش حالة مزرية من التخلف الثقافي والفكري، والثاني أن سلطة القمع ستستطيع تحريك قطعان من البسطاء والسذج والجهلة لتقمع بحركتها الطبقة المثقفة المتنورة والواعية.
وإذا كان القمع الديني شاملا في المجتمعات المنسجمة دينيا ومذهبيا وله آثار مدمرة على الأمن المجتمعي، فإنه سيؤدي إلى حالة من الانقسام الأفقي، أما إذا كانت مجتمعات غير موحدة عرقيا ومذهبيا، فإن الانشطار سيكون عموديا ومفضيا إلى التصادم والنزاع المسلح بحكم اصطفاف كل مجموعة سكانية حول نفسها.
ما يحصل في العراق منذ الاحتلال وحتى اليوم هو تطبيق للنموذج الصفوي في فرض التشيّع تدريجيا وبنفس الأسلوب الذي اعتمده إسماعيل الصفوي أي إعمال السيف في رقاب المعاندين، وهو ما أدّى إلى قتل مليون إنسان في فارس وحدها في حينه كما تقول الروايات التاريخية الموثوقة، وما تزال قصص قتلهم والطرق التي اعتمدت في تنفيذها تُروى من قبل المؤرخين بمرارة.
ولكن ما يجري الآن في العراق يكتسب خصوصية تميّزها عن تجربة إسماعيل الصفوي، بسبب ثورة الاتصالات وانتشار وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي ووجود منظمات حقوقية وإنسانية ومنظمات سياسية دولية مهمتها حماية القانون الدولي وحقوق الإنسان، ولكن هذه الممارسات المسكوت عنها دوليا أغرت منفذيها بالمضي قدما في تنفيذها، بدلا من أن تكون تلك الجرائم سببا في تأجيج الغضب العالمي على الجناة سواء من قبل اجهزة الإعلام أو المنظمات الدولية والإنسانية أو الدول المتحضرة، فإنها أدت إلى رعب كارثي لضحايا الاعتقال والاختطاف وخوفهم من البطش الطائفي، كما أن الطرف المنفذ للجرائم المبتكرة أي المليشيات الطائفية الولائية المدعومة من إيران والتي اكتسبت صفتها الرسمية بفتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها علي السيستاني، وتلقفها مجلس نواب المنطقة الخضراء ليصدرها في قرار آليٍ مضحك خلال فترة قياسية، ثم لتصبح جزءً مما يسمى بالقوات المسلحة المرتبطة شكلا لا مضمونا بالقائد العام، تحولت إلى كابوس مرعب لكل من يفكر بمعارضة خطط إيران ونواياها، خاصة بعدما كانت تلك المليشيات تصوّر جرائمها التي لم يشهدْ لها تاريخ البشرية مثيلاً وتوزعه على أوسع نطاق متحملة المسؤولية الجنائية الزائفة مقابل زرع الرعب والهلع في بيئة الضحايا وذويهم الذين ما زالت في قلوبهم نزعة الرفض القاطع لدولة الولي الفقيه إيران الشر، وهذا النموذج يراد تعميمه على سائر البلاد العربية، وقد برزت على سطح الأحداث تجارب المآسي التي عاشها المواطنون في سوريا ولبنان واليمن ومناطق في أفريقيا أثناء التطبيق العملي لهذا الفعل المدان وبعد مباشرة التطبيق.
ولكن ما هو المانع من إعلان الحكم الشيعي في العراق رسمياً بعد تطبيقه عمليا في سلوك سلطة الحكم في الدولة العراقية وتطبيقاتها؟ منذ اليوم الأول الذي صار العراق تابعا لإيران، هي التي ترسم سياساته وتفرض عليه ما يفعل وما لا يفعل؟
ويمكن طرح السؤال السابق بصيغة أخرى، هل أن الحكم الشيعي لم يُعلّنْ فعلا حتى الآن؟ يجيب الدستور عن السؤالين السابقين وخاصة في ديباجته فينص على ما يلي:
[عرفانا منّا بحقِ الله علينا، وتلبيةً لنداء وطننا ومواطنينا، واستجابةً لدعوةِ قياداتنا الدينية وقوانا الوطنية وإصرارِ مراجعنا العظام وزعمائنا وسياسيينا، ووسطَ مؤازرةٍ عالمية من أصدقائنا ومحبينا، زحفنا لأول مرةٍ في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين، رجالاً ونساءً وشيباً وشباناً في الثلاثين من شهر كانون الثاني من سنة الفين وخمسة ميلادية، مستذكرين مواجع القمع الطائفي من قبل الطغمة المستبدة].
فهل في هذا النص التباس أو شك عن دور ما يسمى بالمراجع العظام الذين يمثلون مذهبا واحدا لشعب متعدد الأديان والأعراق والمذاهب؟ ومن الذي امتلك تفويضا لتسليط مذهب واحد ليحكم باسم الدستور بلدا بمكانة العراق وتاريخه وحضارته؟ ومن هو الذي منحهم سلطة التدخل في الشأن العراقي وليس فيهم شخص عراقي واحد؟ أليست هذه طائفية مبكرة في إعلان العراق دولة شيعية؟
أليست هذه لغة الغالب والمغلوب في مواجهة غير متكافئة بين الشعب العراقي وقوى الشر والعدوان الأطلسية؟

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى