القمع الفكري وأثره في كتابة التاريخ

الجزء السابع

يجيب عن هذا السؤال الدستور الذي شرّعه الأمريكيون وتم تمريره بخدعة كبرى مارستها القوى الإسلاموية وخاصة الحزب الإسلامي الذي كان له دور المخادعة الأول في تمرير هذا الدستور الملغوم في كل فصل من فصوله بعشرات الألغام، كان للحزب الإسلامي الدور الأسوأ والأكثر بروزا في وصوليته وانتهازيته من بين سائر أدوار الأطراف التي شاركت في العملية السياسية الفاسدة وفي كتابة الدستور خاصة، ذلك أن الحزب المذكور مارس أكبر عملية تضليل وخداع للجمهور السني تحت لافتة التعديل اللاحق في مدة تم تثبيتها في مادته الأخيرة، ولهذا تآمر على تفسير نص كان يتعلق برفض ثلثي سكان ثلاث محافظات، وتحايل على النص بحيث جعل من ذلك الرفض المتحقق مؤكدا في نينوى وصلاح الدين والأنبار، موافقة مزعومة على الدستور فتم تمريره ليكرس حكما طائفيا شيعيا لا مراء فيه.
وهنا أريد ذكر واقعة حصلت في عام 2005 قبل الاستفتاء على الدستور، في أحد الأيام وصلتني دعوة كريمة من المرحوم الشيخ الدكتور حارث الضاري أمين عام هيئة علماء المسلمين للمشاركة في حلقة نقاشية في جامع أم المعارك في بغداد حول مسودة الدستور المقترح، والتي عقدت في قاعة الجامع الذي اتخذته هيئة علماء المسلمين مقرا لها قبل أن يستولي عليه أحمد عبد الغفور السامرائي الذي أصبح رئيسا لديوان الوقف السني ويستبعد الهيئة منه، عندما وصلت وجدت القاعة وقد اكتظت بالحضور، جلست في الصف الأمامي وكان عن يميني السيد صلاح عمر العلي وعن شمالي إياد السامرائي من الحزب الإسلامي، ألقيت كلمات كثيرة، حذر في بدايتها الشيخ الدكتور الضاري رحمه الله من مخاطر الدستور على مستقبل العراق وسيادته ووحدة أراضيه وكرامة أهله، وتوالت الكلمات حتى أعطيت الكلمة لإياد السامرائي، فطبّل وزمّر لمشروع الدستور المسخ وأعتبره قارب النجاة للعراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية البرلمانية، وأنه بداية عهد جديد للعراق وقال إن الحزب الإسلامي مع المسودة المطروحة، وإنه يدعو الجمهور للتصويت عليها، وقوبلت كلمة إياد السامرائي باستهجان شديد من الحاضرين، وارتقى المنبر الشيخ عبد السلام الكبيسي نائب أمين عام هيئة علماء المسلمين، فقال والآن يتفضل السيد نزار السامرائي لإلقاء كلمته، نظرت إليه باستغراب فأنا لم أدون اسمي بين طالبي التحدث، ومع ذلك ارتقيت المنصة، وركزت في حديثي على ما قاله إياد السامرائي وحاول تسويقه من مغالطات، وبعد أن فندت مفتريات السامرائي بشان فلسفة الدساتير في العالم وطرائق تشريعها، توجهت إليه بسلّةٍ من الأسئلة الاستنكارية، قلت له أنت قلت بأنك تمثل الحزب الإسلامي، فأي حزب إسلامي هو الذي تمثله؟ أهو حزب محسن عبد الحميد رئيس مجلس الحكم الذي زار سجن أبو غريب بعد يوم من حادثة اقتحام بيته من قبل الجنود الأمريكان وداسوا على رقبته بأحذيتهم، وبعد زيارته للسجن أقسم أنه لم يشاهد سجينة عراقية واحدة هناك، ويبدو أنه اعتمد التقية في هذه الكذبة إذ أنه لم يزر قاطع النساء ولكن فضائية أمريكية وفي برنامج 60 دقيقة فضحت الفظائع التي كانت تحصل وقت الزيارة تلك في السجن المذكور على أيدي جنود أمريكان نزعوا عن أنفسهم أية مشاعر إنسانية أو قيم أخلاقية أو اعتراف بالقانون الإنساني، فمارسوا أسوأ أنواع التعذيب لسجناء رأي وخاصة من المقاومة العراقية، هذه الفضائية فضحت أيضا كذب زعيم الحزب الإسلامي ورئيس مجلس الحكم محسن عبد الحميد ووصوليته وانتهازيته التي فاق بها الأولين والآخرين،؟
أم من حزب المتآمر على الفلوجة حاجم الحسني الذي خذل مدينة البطولة بصفقة خسيسة وفتّ في عضد مقاومة هذه المدينة الباسلة؟
أم من حزب طارق الهاشمي الذي لم يكن له هم له إلا تمرير هذا الدستور البائس لأهداف لا تمت لمصالح الشعب العراقي بصلة؟ ثم تجاهلت إياد وتحدثت عن الألغام التي زرعت في الدستور الذي سيكرس سلطة الشيعة والتبعية لإيران، كل ذلك من أجل أن يحتفظ الحزب الإسلامي بما حصل عليه من المكاسب الرخيصة والمؤقتة.
وتم تمرير الدستور بعد استفتاء مزور إذ تم تجاهل نتائج رفض ثلثي سكان ثلاث محافظات سنية، لأن طارق الهاشمي والحزب الإسلامي أرادا ذلك مقابل تعهدات جوفاء من الشيعة والأكراد بأن الدستور سيخضع لتعديل لاحق في غضون شهرين.
في ضوء هذه المؤشرات من حقنا أن نطرح سؤالا في غاية الأهمية، وهو ما هو دور سُنّة السلطة في تمرير هذا الدستور المسموم؟
طبعا عندما نقول سُنّة السلطة نقصد السُنّة العرب فقط، لأن الأكراد وهم سُنّة أيضا لكنهم يمتلكون مشروعا قوميا منفصلا عما يحصل في العراق بل مشروعا قوميا يرمي إلى الانفصال عن العراق وإقامة دولة كردستان الكبرى، وبدلا من التعاطف الديني والمذهبي فيما يحصل للسُنّة في معظم أنحاء العراق، يستطيع المراقب أن يفترض أن تاريخ العلاقة السلبية بين الأكراد ونظم الحكم التي تعاقبت على العراق منذ 1921، لم تتوقف على حدود السياسة فقط بل تجاوزتها لتستقر في قلب المشاعر القومية وكأن هناك شماتة كردية معمّرة من سُنّة العراق.
لهذا سنركز على دور السُنّة العرب في التعاطي مع الوضع الناشئ بعد احتلال 2003، ويمكن أن نقّسم السُنّة في العراق إلى أربعة أقسام رئيسة:
1 – الأغلبية الصامتة وغير المسيسة والتي تتعامل مع الأحداث بكثير من اللامبالاة أو الاهتمام، وخاصة بعد كل الصدمات والمعاناة التي واجهتها بعد الاحتلال، ولم تعد تكترث كثيرا لشكل الحكم أو طابعه السياسي والطائفي نتيجة فقدانها الأمل بكل ما يطرح من شعارات وبرامج، وهذه الظروف المحبِطة دفعت بها لأن تكون مهيأة للانتقال بولائها بل وحتى التحول المذهبي مع ما يحمله من مزايا دعة العيش والسلامة من كل خطر.
2 – البعثيون وأنصارهم من الطائفة السُنيّة، ممن عمل مع النظام الوطني، وهؤلاء كتلة سكانية لها امتداداتها الواسعة التي تعبر الحدود المذهبية والعرقية وما زالت تحتفظ ببوصلتها الوطنية، وتتميز هذه الشريحة بوعي وتعتبر أن التنازل في أي صفحة من صفحات الرجولة، عارٌ لن تغسله المواقف اللاحقة، وعلينا هنا أن نميّز بين فئتين من هذه الكتلة:
أ – الرجال الذين تمسكوا بخيارهم بصرف النظر عما قدموه من تضحيات، ولم يقدموا أي تنازل لإرضاء المحتلين الأمريكان أو الإيرانيين أو أدواتهم من مليشيا القتل.
ب – العناصر الضعيفة في مبادئها أو الوصولية والانتهازية في ماضيها فلم تجد ما يمنعها من مواصلة نهجها في النفاق وانتهاز الفرص، كي تواصل الاحتفاظ بمكاسبها ووجاهتها أو من أجل تضخيم تلك المكاسب السياسية والمالية، فاندفعت في انتهازيتها فصارت أداة مسخرة للإساءة للحكم الوطني.
3 – شيوخ العشائر ورجال الدين، وإذا أردنا أن نتلّمس حلولا ناجحة لأزمة مجتمعنا، فعلينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، فالدولة المدنية لا يمكن أن تسلّم رقبتها بيد قوى هلامية مفترِضة نفسها سلطة أقوى من الدولة وتصادر جزءً من سلطتها كطرف وحيد مخول بتشريع القوانين وتطبيقها، وما يؤسف له أن المواطن بعد أن وصل اليأس من امكانية استرداد حقه المسلوب عبر سلطة القضاء بسبب تفشي المحسوبية والبندقية المنفلتة في التأثير على أحكامه، راح ينشد العدل في أي مكان يوفره له، وحينها لن يكترث إذا كانت الجهة التي تسترد حقه سلطة شرعية أم لا، ولهذا برز دور المليشيات على أوسع نطاق في تصنيع شيوخ ما بعد الاحتلال الذين سيدينون لها بالولاء.
لا يمكن أن تعيش الدولة الحديثة مع وجود مليشيات مسلحة بالبندقية وأخرى مسلحة بزي شيوخ العشائر، فكلاهما خروج على سلطة القانون وكلاهما تَذبح حق المواطن بتطبيق العدالة، الأولى عبر البندقية والثانية عبر زي مدني يرتدي عقالا عربيا وعباية انيقة، ولكنه مدعوم بأسلحة خفيفة ومتوسطة وحتى الثقيلة، جاهزة للخروج من مستودعاتها بإشارة واحدة من الشيخ الجديد، وما عاشته مدن جنوب العراق خلال السنوات الأخيرة إلا مصداق لسلطة لا تقل خطرا على السلم الأهلي وسلامة الدولة عن اخطر حالات التمرد المسلح، وهو تاكيد على أن سلطة أخرى لا تمتلك أية شرعية تريد الزحف على مساحة الدولة وابتلاع دورها بالتقسيط أو دفعة واحدة.
لذلك فإن سلطة شيوخ العشائر وخاصة بعد 2003 تحولت إلى سلطة قضائية لم يعد للعدل الذي كان معروفا في العرف العشائري لدى العرب في مراحل تاريخية سابقة قبل قيام الدولة المدنية الحديثة،.
اما موضوع رجال الدين فللامر حكاية أخرى.
عندما أقول شيوخ العشائر، فعلي أن أقدم وصفا دقيقا لهذا المصطلح الذي دخلت فيه كثير من المتغيرات بعد عام 2003، فقد تضاعف عدد المصنفين كشيوخ عدة مرات، نتيجة الامتيازات الممنوحة لهم وبسبب طريقة منح هذه الصفة لمن لا يستحقها أو لمن لا يحمل من قيمها شيئا من أصل واضح وهيبة مفروضة على أبناء العشيرة وحكمة وحنكة في حل ما يواجه العشيرة من مشكلات داخلها أو مع العشائر الأخرى، أو من مكانة اجتماعية مدعومة بعفةِ نفسٍ وزهدٍ عن السلطة وأدواتها وإغراءاتها من مال أو جاه.
من هو جدير بحمل الصفات المطلوب توفرها في العلماء والشيوخ الأصيلي المنبت، لا يمكن أن يذل نفسه ويسيء إلى عشيرته ويكون عونا عليها في أية خطة تسعى لفرض خيارات مسيئة للكرامة والروح الوطنية.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى