النظام الدولي الثالث

الجزء الثالث والأخير

النظام الثالث
ما قاله ميخائيل غورباتشوف بعد فترة وجيزة من توليه زعامة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي عام 1985، “من أن بلدا عملاقا عسكريا وقادرا على إنزال مركبات فضاء على سطح القمر وإعادتها بسلام إلى الأرض، وأنه يمتلك أحدث الصواريخ العابرة للقارات والقادر كل واحد منها على حمل أكثر من رأس نووي وأحدث الطائرات المقاتلة، ولكنه عاجز عن صناعة سيارة أو ثلاجة تلبي متطلبات السوق الداخلية وقادرة على منافسة المنتوج الغربي يعد أمرا معيبا وخللا في البناء الاقتصادي والسياسي للبلاد” هذا القول وغيره مما لم يظهر على الإعلام، يجسد خيبة أمل كبرى لزعيم بلاد ظلت تطرح نفسها على أنها البديل التاريخي للنظام الرأسمالي الذي تعفّن ووصل إلى آخر مراحله التاريخية، نعم هذه المقولة تجسيد حقيقي لأزمة النظام الذي أقامته الشيوعية في بلد تزيد مساحته على اثنين وعشرين مليون كيلومتر متر مربع بين قارتي أوربا وآسيا وفارق التوقيت بين أقصى شرقه إلى أقصى غربه يقرب من سبع ساعات، واستطاع بفعل القبضة الحديدية لزعيم البلاد زمن الحرب جوزيف ستالين، أن يحقق انجازات تكنولوجية مهمة ونصرا باهرا في الحرب العالمية الثانية بعد أن قدم ملايين الضحايا من مواطنيه ومن بنائه الاقتصادي والعمراني والثقافي، فهذا النظام صار ضحية لأيدولوجيات لا تلامس حقيقة الطبيعة الإنسانية ومتطلبات المجتمع ولا تتطابق مع رغبات الأفراد في العيش الكريم وإشباع الحاجات المتغيرة مع التطور، فغورباتشوف الذي أصبح أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفيتي بعد اختياره من قبل المكتب السياسي للحزب في 11 آذار/مارس 1985، وذلك بعد ثلاث ساعات فقط من وفاة سلفه قسطنطين تشيرنكو، كان أصغر أعضاء المكتب السياسي سنا وكانت الآمال معلقة عليه أن يجدد شباب الحزب وأن يقود قارب النجاة لنظام كان يترنح تحت وقع ضغوط مختلفة وخاصة أزماته الاقتصادية وانعدام الحريات العامة، ولكن غورباتشوف بدلا من ذلك اقتفى خطوات جوزيف ستالين الذي كان قد باشر فور وصوله لزعامة الاتحاد السوفيتي مطلع عقد العشرينات من القرن الماضي، عملية تطهير واسعة النطاق لرفاقه في المكتب السياسي واللجنة المركزية وركّز السلطات كلها بين يديه على الرغم من أن ستالين لم يكن روسيّ الأصل بل هو جورجي العرق واللغة، فأخفق غورباتشوف بأن يكون النسخة المحسنة من ستالين، لافتقاده الشخصية القيادية التي كان ستالين يمتلكها، كما أن وقتا طويلا كان قد مرّ بين نهاية عهد ستالين وعهد تسلم غورباتشوف لزعامة الحزب، فقد تغيرت قواعد اللعبة الدولية وتبدلت طبائع الشعوب ومتطلباتها وتطلعها لحياة أفضل، كما أن تطور وسائل الاتصال والمواصلات والتنقل بين البلدان كان قد قرّب بين الشعوب والمسافات بين الدول وصارت كل الممارسات التي ترتكب تحت الرصد الدولي لمنظمات حقوق الإنسان، ثم إن ما كان مجهولا لدى شعوب الاتحاد السوفيتي قبل سنوات صار في بداية عهد غورباتشوف متاحا للجمهور بصورة مباشرة سواء من خلال أجهزة التلفزيون وبقية أجهزة الإعلام الأخرى التي توسع اقتناؤها من قبل الأجيال الجديدة التي ولدت بعد زوال الحقبة الستالينية، أو تمكنت من خلال الاطلاع على حياة الغربيين الذين يصلون إلى الاتحاد السوفيتي كمجاميع سياحية يتم ترتيب برامجها بصورة منتقاة من قبل دول غربية تسعى لإثارة التذمر داخل المجتمع السوفيتي وإدخال المواطن هناك في مقارنات بين نمط حياتين لا يتوفر الحد الأدنى من أسباب تلك المقارنة.
عندما وصل غورباتشوف إلى الزعامة ورث حزبا مترهلا وتحول مع تقادم الزمن إلى أكبر مؤسسة بيروقراطية في العالم، تتعامل مع شعوب الاتحاد السوفيتي والجمهوريات المنضوية تحت الراية السوفيتية ومع الأحزاب الشيوعية في العالم من وراء المكاتب بنظرة فوقية متعالية وبمنطق الوصاية والمسؤولية عن الجميع الذين عليهم السمع والطاعة، فكان منطق الراعي والقطيع هو السائد في نظرة الحزب للجماهير التي زعم أنه معبر عن تطلعاتها ومصالحها، لكن المقارنات لم تقتصر على المستوى المعاشي فقط بل امتدت إلى أدوات التعبير عن الرأي المتاحة للمواطن في المجتمعات الغربية مع ما فرضه النظام الشيوعي من قمع وكبت للحريات ومحاولة فرض نمط واحد للحياة على كل الناس على الرغم من الفارق الشاسع بين ما يعيشه المواطن من شظف وحرمان وبين ما يتمتع به أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية من ترف وامتيازات مستلة من عصر القياصرة، فدخلت الشيوعية في مفارقة أيديولوجية مميتة، بين فكر بني على أساس مادي صرف وبين ما يريد فرضه على المجتمع من سلوك ملائكي لا يتوفر القليل منه عند أي انسان سوي من متطلبات حياة يومية، فكانت هذه أول هزيمة أيديولوجية مؤكدة لنظام أراد أن يهزم النظام الرأسمالي الذي أطلق عليه كل الأوصاف القبيحة مما يحفل به قاموس الماركسية اللينينية في حربها المفتوحة مع النظام الذي ثارت عليه ولكن هذا النظام هُزم في عقر داره، فقد وزعت الشيوعية الفقر بين شعوب الاتحاد السوفيتي ومنعت المبادرات لمجتمع كان يزدحم بمئات الآلاف من المبدعين في كل الاختصاصات.
فمع تطور الوعي الشعبي وتزايد المطالب بالحريات العامة والسلع المختلفة كان اقتصاد البلاد يتراجع ويسجل إخفاقا وراء الآخر، لأن البلاد ركزت على الانتاج الحربي وحصرت كل انجازاتها التكنولوجية لخدمة برامج التسليح وسباق السلاح بين الشرق والغرب، نتيجة الالتزامات الدفاعية الخارجية الهائلة للاتحاد السوفيتي وحلفائه خارج حدوده ودوره في أوربا الشرقية والحرب العبثية التي خاضها السوفيت في أفغانستان والتي كانت فخا محكما تم نصبه للاتحاد السوفيتي استنزف آخر ما بقي له من رصيد أخلاقي كقوة داعمة لحقوق الشعوب بتقرير مصيرها، وقبل أفغانستان تم انهاك اقتصاد البلاد في تقديم الدعم المفتوح لحلفاء الاتحاد السوفيتي في مناطق شتى من العالم وخاصة في وسط أوربا التي تواجد فيها الثقل الأعظم للجيش الأحمر.
كان منظرو الاستراتيجية الكونية السوفيتية في حواراتهم مع الساسة العرب يعتبرون أن الأزمة في أوربا الوسطى وخاصة ألمانيا هي التي يمكن أن تفجرّ حربا عالمية جديدة وليس ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط، ولهذا راح الاتحاد السوفيتي يتخذ كل الاحتياطات اللازمة لحرب كان يعرف أنها لن تنشب مع الولايات المتحدة بسبب امتلاك الطرفين للسلاح النووي وهو سلاح كاف لردع أي طرف عن مجرد التفكير في خوض مثل هذه الحرب التي من شأنها أن تبيد معالم الحياة على الأرض، فلجأ الطرفان إلى الحروب بالنيابة كما حصل في فيتنام وقبلها في كوريا وبعد ذلك في أفغانستان.
إن تسيير السوفييت للغواصات النووية في أعالي البحار وعلى مقربة من السواحل الأمريكية في حرب توازن استراتيجي مع الولايات المتحدة، واضطرارهم لتقديم الدعم والاسناد العسكري والاقتصادي للدول التي رأوا أنها جزء من معادلة التوازن الاستراتيجي الدولي لمواجهة التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، كل هذا التوسع في التزامات الاتحاد السوفيتي قاده إلى انهيار اقتصادي وما تبعه من تراجع في دوره الدولي وخاصة في نصرة حركة مواجهة التحالف الغربي وما يمثله من موروث استعماري، فركنت جانبا قضايا عربية ذات مكانة عالية في النضال القومي وخاصة القضية الفلسطينية وقضايا تحرير الأراضي التي احتلتها إسرائيل على مراحل مختلفة منذ قيامها على الأراضي الفلسطينية عام 1948، ولم يتوقف ذلك على القضايا العربية فقط بل طبع التراجع السوفيتي مرحلة تاريخية بكاملها تمتد على عقد الثمانينات من القرن الماضي منذ وصول قيادات مترددة ومنتهية الصلاحية لزعامة الحزب الشيوعي، وقطعا كان لإثقال كاهل الاتحاد السوفيتي بأعباء لا طاقة له بها، وخاصة حربه العدوانية في أفغانستان التي استدرج إليها استدراجا ذكيا من جانب الولايات المتحدة انتقاما لهزيمتها في فيتنام ما عجّل في الهزيمة السياسية للسوفييت.
لكن من تبسيط الأمور أن نقصر انهيار الاتحاد السوفيتي إلى سبب واحد فقط، فقد تضافرت مئات الأزمات الكبيرة داخليا وخارجيا نظريا وتطبيقيا مع بعضها لتلقي بهذا العملاق العسكري على رصيف الذل مع دول كان أقوى منها بكثير، ولعل من بين تلك الأسباب أن الزعامات السوفيتية التي وصلت إلى الحكم منذ وفاة ستالين كانت من حيث السن في خاتمة العمر من الناحية العملية، وعانت من مقارنة المجتمع مع قدرة ستالين في إحكام السيطرة على النهايات السائبة في السلوك الفردي والجمعي، فكان أول اختبار لتلك الزعامات ما حصل مع خروشوف من تخطيط فيه غدر لعزله من قبل رفاقه في المكتب السياسي أثناء وجوده في منتجع الزعماء في جزيرة القرم صيف عام 1965 مما عكس أجواء الشك والتآمر داخل المؤسسات القيادية على أعلى المستويات، فجاءت بعد خروشوف الترويكا التي توزعت صلاحيات الزعيم فيما بينها، وكان هذا أول دليل لتعدد رؤوس صنع القرار على الرغم من أن ليونيد بريجينيف زعيم الحزب الشيوعي كان يمسك بمعظم أوراق اللعبة، مع وجود رئيس وزراء فاعل هو ألكسي كوسيجين ورئيس مجلس السوفييت الأعلى هو نيكولاي بودغورني، ولعل في تسمية الترويكا ما فتح أمام الشارع باب الطعن في القيمة الاعتبارية للزعامة الجديدة، فكلمة “الترويكا تعني عربة الجليد التي تجرها ثلاثة كلاب” ربما لم يكن الداخل هو من أطلق هذه التسمية، بل هي مخابرات غربية تسعى لتسفيه كل خطوة سياسية واقتصادية في الاتحاد السوفيتي عدو الغرب الاستراتيجي، ولكن هذا المصطلح لم يعد مقتصرا على الزعامة الثلاثية في الاتحاد السوفيتي بل تعمم ليشمل كل مسؤولية يشارك فيها ثلاثة أشخاص أو ثلاث جهات.
غير أن قصر أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي وخروجه من المعادلة الدولية على زعامات عاجزة عن تدارك الانهيار، يعتبر تعسفا واجحافا، فالأمر كما مرّ يعود إلى طبيعة النظرية الشيوعية التي كانت تستند على معادلات المادية التاريخية والمادية الجدلية ولكنها نزعت نزوعا لمجتمع الدولة الفاضلة التي لا وجود لها في الحياة الدنيا بل في كتابات المفكرين السابقين الحالمين بالمدينة الفاضلة والمجتمع الملائكي والذي لا يمكن أن يقترب من مجتمع كان يحارب الدين بكل ما يمتلك من بطش وإرهاب وقسوة، ويمكن المرور على بعض العوامل الجوهرية التي أدت سقوط الشيوعية بعد ما يقرب من سبعين سنة من عمرها وهي التي كانت تطرح نفسها كحقيقة مطلقة غير قابلة للدحض من أي تطور تاريخي لاحق، من دون أن يعني ذلك أن الأسباب محصورة في هذه العوامل، فهناك أسباب أخرى أقل أهمية ولكنها كانت تقضم ببطء وصمت في المجتمع الشيوعي حتى أفرغته من ركائزه فإضافة إلى التدهور في الاقتصاد السوفيتي هناك أسباب أخرى هي التي عجلت في الخاتمة الحزينة لهذه القوة العظمى وهي: –
1 – الأزمات الداخلية التي عاشتها جمهوريات الاتحاد السوفيتي منذ أن بدأت القبضة البوليسية لأجهزة القمع بالتراخي في التعامل مع تطور الوعي العام لشعوب ركزت زعامتها على نشر المسرح والفنون ونشر المطبوعات الزهيدة الثمن على أوسع نطاق ولكنها أقامت جدارا حديديا ومنعتها من التطلع إلى تجارب الآخرين والتفاعل معها وتغافلت عن تعالي صيحات احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية، وكان شعور الجمهوريات الخمس عشرة التي يتألف منها الاتحاد السوفيتي بتميزها القومي والثقافي عن القومية السائدة أي الروسية، ما يفاقم من حالة التململ سواء داخل مجتمع الجمهوريات السوفيتية أو في الدول الدائرة في الفلك السوفيتي مما نطلق عليه دول حلف وارشو أو منظومة الدول الشيوعية في أوربا الشرقية، كما أن النزاع الصيني السوفيتي الذي خرج إلى السطح بعد إدانة خروشوف للحقبة الستالينية من دون التشاور والتفاهم بين أكبر تجربتين شيوعيتين في العالم، ما أدى إلى إضعاف كتلة الحلف الشرقي في مواجهة النظام الرأسمالي “الإمبريالي”.
2 – عانت الدولة السوفيتية المترامية الأطراف من انقسام مؤسسات الدولة السوفيتية نتيجة للبيروقراطية المستشرية في البلاد وتوجه كل جمهورية للذهاب إلى خيارات تؤمّن لها قليلا من الاستقلالية في اتخاذ القرار الاقتصادي، وهذا التناقض ظهر جليا في علاقات الجمهوريات السوفيتية السابقة بعد انفراط عقد الاتحاد عندما بدأت الحروب بينها على الحدود والثروات والأسلحة الموروثة من زمن الاتحاد السوفيتي.
3 – أدت الحرب الباردة بين المعسكرين إلى استنزاف موارد البلاد كلها، وخاصة في سباق تسلح غير متكافئ كان فيه التفوق الغربي على السوفيت جليا، من دون أن يترك ذلك السباق أثرا على الامكانيات الاقتصادية للغرب لاسيما وأن مصانع السلاح الغربية مملوكة لشركات خاصة وتجد فرصها في المزيد من التوسع والانتاج وبيع الأسلحة للدول الأخرى، على خلاف السوفييت الذين بدأ ذلك يثقل عليهم كثيرا خاصة وأن السلاح السوفيتي رخيص الثمن ولا يوفر للميزانية السوفيتية موردا ذا قيمة على اقتصاد البلاد، وكثيرا ما يقدم للحلفاء مجانا أو بتسهيلات كبيرة، يضاف إلى ذلك أن السوفيت دخلوا في مغامرات غير محسوبة كنصب الصواريخ في كوبا وما أعقبها من أزمة سنة 1962 أدت إلى فرض الرئيس الأمريكي جون كندي لحصار مطبق على الجزيرة الكوبية بحيث لم يسمح لسفينة واحدة من الدخول إليها إلى أن تمت تسوية الأزمة بسحب تلك الصواريخ من دون أن يحقق السوفيت منها مكسبا، ولعل مشروع حرب النجوم الذي أطلقه الرئيس الأمريكي المحمل بأفكار هوليوود السينمائي، هو الذي أدخل الاتحاد السوفيتي في حرب أشباح لا يعرف أين يوجه فوهات سلاحه فيها.
4 – الموقف من الدين وهذا ما حفر خنادق عميقة من الكراهية بين السلطة الحاكمة وأجهزتها القمعية من جهة وبين سلطة غيبية غلابة لا يمكن أن تنجح معها كل الحروب الخفية والمعلنة، فقطعا تخلق مثل هذه الحروب خنادق متقابلة تميل الكفة فيها لصالح الدين، خاصة أن كثيرا من الجمهوريات السوفيتية كانت شعوبها تنتمي إلى الإسلام الذي عجزت عن إلغائه كل محاولات نشر الإلحاد.
عندما وصل غورباتشوف إلى السلطة كان الوضع في البلاد قد وصل إلى حافة الهاوية فجاء بمشروعه المسمى بتروبيسكا الذي أراده انقاذا للبلاد في اللحظة الأخيرة ولكنه اضطر لاتخاذ خطوات من قبيل رفع أسعار سلع أساسية ومواد غذائية وحاول تقليص استهلاك الفودكا وغيرها من المشروبات الكحولية المؤثرة على الانتاجية للقوى العاملة ولكن هذه القرارات حجبت عن الخزينة موارد كبيرة قدرها خبراء اقتصاديون بأنها لا تقل عن 100 مليار روبل ، فجاءت النتائج مخيبة للآمال وفاقمت الوضع أكثر مما كان عليه قبل اتخاذ تلك القرارات.
فهل كانت هذه الحقائق غائبة عن أنظار الرصد العالمي؟ ربما كان الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله، أول من تنبه إلى حراجة وضع الاتحاد السوفيتي وتراجع دوره في الساحة الدولية واحتمال تفككه، وحذر من تلك الحقيقة خلال مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بغداد عام 1989، وطالب المؤتمرين بتقديم الدعم لأكبر قوة مساندة للعرب في الساحة الدولية كي لا ينفرط عقد التوازن الاستراتيجي الدولي ثم تنفرد الولايات المتحدة كمركز استقطاب وحيد، وحينها سيكون العرب من أكبر الخاسرين في حال خروج السوفييت من تلك المعادلة، ولكن أحدا من العرب لم يستجب لدعوة الرئيس صدام حسين، خاصة أن النظام الرسمي العربي لا سيما الدول العربية الخليجية المنتجة الكبرى للنفط كانت جزءً رئيسا من التحالف مع الولايات المتحدة المضاد للاتحاد السوفيتي فراحت تعمل وفقا لإملاءات أمريكية انتهت بانهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية التي كانت لأسبابها الخاصة أكبر الداعمين للعرب في مواجهة الحركة الصهيونية وتحالف الدول الاستعمارية الغربية المضاد للحقوق العربية والكفاح العربي من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية وخاصة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، على الرغم من أننا نعرف أن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة تعترف بقيام إسرائيل عام 1948.
هنا سيبرز سؤال مشروع هو (إذا كان صدام حسين يمتلك هذه الرؤية الاستراتيجية الاستباقية لما يبيت للمنطقة وللعراق، فلماذا قرر الدخول للكويت مع غياب مظلة التوازن الدولي وما نجم عنه من دمار للعراق بعد احتلال العراق ومن ثم تسليم مقاديره لإيران بصورة كاملة وتداع للجدار الذي يمثل خط الصد الأول والأخير عن الأمة العربية؟).
قد لا يكون مناسبا نكأ كل الجروح القديمة لأن هذا موضوعنا هذا لا يتعلق بمثل هذه القضايا القومية والإقليمية، ولكن الكويت لم تترك بابا للحوار مع العراق إلا أغلقته، لأنها كانت جزء من خطة تدمير العراق ولديها من التعهدات الدولية بحمايتها مهما حصل، ولهذا ركبت موجة هوجاء ما تزال تضرب المنطقة بعنف، ثم أن صدام حسين لم يخلد في خلده أو في حسابات العراق يوما أن الاتحاد السوفيتي سيقاتل إلى جانبه على الرغم من توقيع البلدين معاهدة صداقة وتعاون بينهما فيها بند يكتنفه غموض مقصود يتعلق بالدفاع المشترك، لا يوفر الحد الأدنى من التزامات الدولة الكبرى تجاه دولة تعاهدت معها كما حصل في المعاهدة السوفيتية السورية، خاصة وأن العراق سبق له وأن جرّب الالتزام السوفيتي بموجبات الصداقة الثنائية قبل بحثه عن التزامه ببنود المعاهدة في أكثر من مناسبة، مرة عام 1974 عندما اشتدت المعارك في المنطقة الكردية إذ أخل السوفييت باتفاق ثنائي لتوريد السلاح للعراق كان العراق قد دفع أقيامها كاملة، ومرة أخرى وهي الأكثر سوءً عندما أمرت الزعامة السوفيتية سفنا كانت تحمل سلاحا للعراق أوشكت على الرسو على أرصفة ميناء أم قصر بداية الحرب مع إيران على العودة من حيث أتت مع أن العراق لم يتسول السلاح من الاتحاد السوفيتي بل دفع ثمنه كاملا، فهل يمكن الاعتماد على صديق هذه مواصفاته؟ وهل يتوقعن أحد من السوفييت أن يدافعوا عن العراق؟ لم يكن العراق يطمح بأكثر من التزام في مجلس الأمن الدولي لقطع الطريق على أي مشروع قرار أمريكي مضاد كي يسحب بساط الشرعية الدولية من أي مخطط أمريكي، ومع ذلك فإن قرارات مجلس الأمن الدولي المضادة للعراق وهي بالجملة والتي اتخذها عام 1990، مرت من دون فيتو قبل سقوط الاتحاد السوفيتي النهائي نهاية عام 1991 ولكن الاتحاد السوفيتي كان في ذلك الوقت يعيش حالة انعدام وزن انعكست على حلفائه الآخرين جعلت الصين على سبيل المثال مترددة في اتخاذ موقف ما، فلا هي مع القرارات ولا هي ضدها فاختارت طريق (الامتناع عن التصويت) في مجلس الأمن، وهذا أسوأ موقف انتهازي يمكن أن تختاره دولة كبرى لنفسها.
ومع ذلك فللإجابة عن هذا السؤال وغيره لابد من العودة إلى أساسيات ما يخطط المنطقة من إثارة صراعات بين الأغلبية السنية في الوطن العربي لصالح الأقليات (شيعة بكل فصائلها ومسمياتها، أكراد، مسيحيون، وأقليات أخرى)، من أجل جعل وجود اليهود في فلسطين أمرا واقعا كقوة مكافئة لثقل أية طائفة أخرى، فإذا كان وجود إسرائيل غير مقبول من محيطه الجغرافي فهذا المحيط غير قادر على تغييره لا بالقوة العسكرية ولا بالقوة الديمغرافية، فالمنطقة انطلاقا من العراق موضوعة على لائحة التقسيم والتجزئة إلى مجتمعات أقليات متكافئة في ثقلها السكاني ليصار إلى إشغالها بحروب دينية وعرقية وطائفية وعلى الحدود والثروات في باطن الأرض وما فوقها، ويعود هذا المخطط إلى قيام إسرائيل، ففي ربيع عام 1966 نشرت مجلة دراسات عربية الشهرية التي تصدر في بيروت عن دار الطليعة، موضوعا عن مشروع دافيد بن غوريون أول رئيس لوزراء إسرائيل، كان قد وضعه منذ عام 1952 انطلاقا من معرفة استراتيجية بأن وجودا طارئا على المنطقة كالوجود الإسرائيلي سيبقى مهددا ما لم يشعر العرب بأن كياناتهم بعد التجزئة هي التي ستكون مهددة بوجودها ومصيرها وليس إسرائيل، ولم يتم كشف هذا المشروع إلا بعد أكثر من عشر سنوات نتيجة لإخراجه من دوائر الاستخبارات الإسرائيلية، ويقضي المشروع بتقسيم الدول المحيطة بفلسطين إلى دول أقليات لا غلبة فيها لمكون على حساب مكون آخر، وحدد بن غوريون بأن العراق يجب أن يكون ساحة الاختبار الأولى لتطبيق هذه الخطة، استنادا إلى نبوءات إسرائيلية تقول إن نهاية دولة إسرائيل ستكون على يد العراقيين، وحدد أبعاد التقسيم بثلاث دويلات هي الكردية في الشمال والسنية في الوسط والشيعية في الجنوب واعتبر أن المشروع إذا ما نجح في العراق فسوف يحصل على قوة دفع استثنائية، وخلال الحرب العراقية الإيرانية أكد هنري كيسنجر أكبر منظّري الاستراتيجية الأمريكية هذه الخطة عام 1982، واعتبر تنفيذ هذا المشروع هو الحل الأمثل لأزمات المنطقة جذريا، أي أن العراق ومهما اتخذ من تدابير لحماية نفسه فسيبقى مطروحا على لائحة التشريح، وحتى لو لم يُقدم على دخول الكويت في 2 آب/أغسطس 1990 لوجدوا له مئات القضايا التي يمكن أن تجتهد الدوائر الغربية لتحريكها ضده، خاصة بعد أن تأكدت السياسة المستقلة للعراق مع أن علاقاته مع الاتحاد السوفيتي كانت قوية لتوقيعه معاهدة الصداقة والتعاون معه في 9 نيسان/أبريل عام 1972، وهنا علينا أن نلاحظ هذا التوافق العجيب بين تاريخ احتلال العراق عام 2003 وتاريخ توقيع المعاهدة العراقية السوفيتية، كما أن التوجهات العراقية لسياسة عراقية نفطية مستقلة بدأت بالاستثمار المباشر لنفط مناطق استردت بموجب قانون رقم 80 لسنة 1961، بدأت في حقل الرميلة بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي يوم 7نيسان/أبريل/1972 أثناء زيارة ألكسي كوسيجين إلى العراق في ذلك الوقت، ثم أعقب ذلك تأميم عمليات شركة نفط العراق في الأول من حزيران/يونيو 1972، وهذه الخطوات دعمت خطط الغرب للتعجيل في وضع العراق على لائحة الدول المشاكسة التي يجب إيقافها عند حدها خاصة وأن العراق يقع في منطقة جغرافية كل دولها من الدول المنتجة للنفط فقد تصاب بعدوى التشريع من جانب واحد لحماية حقوقها في ثروتها النفطية، ومما فاقم من حدة المخطط المضاد دور العراق في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 ومنع القوات الإسرائيلية من الاقتراب من دمشق، ثم أضيفت ملفات أخرى مثل البرنامج النووي العراق وإقامة قاعدة تكنولوجية عريضة وبرامج تسليح وطنية قد تخرج عن السيطرة، فصار على وفق هذا كله رأس العراق مطلوبا من التحالف الغربي، وكان حليف العراق الدولي يمر في أسوأ حالات احتضاره مما لم يمكنه من تقدم الدعم الحقيقي له.
وأخيرا سقط الاتحاد السوفيتي في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 عقب إصدار مجلس السوفييت الأعلى للاتحاد السوفييتي إعلانا رسميا بالاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد السوفيتي، وكان غورباتشوف الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي قد أعلن استقالته في خطاب وجهه إلى شعوب الاتحاد السوفيتي عبر التلفزيون الرسمي أشار فيه إلى ان مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية قد تم إلغاؤه، وأعلن تسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن.
وفجأة اختل التوازن الدولي ولو من الناحية النظرية وصارت الولايات المتحدة مطلقة اليد في كل القضايا الدولية، على الرغم من أنها وخلال رقود الاتحاد السوفيتي في غرفة العناية المركزة، كانت تفرض عليه وعلى غيره من الدول الكبرى وخاصة جمهورية الصين مواقف وقرارات وتمليها على مجلس الأمن الدولي الذي تحول إلى أداة طيّعة لإرادتها، فالمجتمع الدولي بدأ يتحسس مواضع الوجع في جسمه وكل دولة تشعر أن الدور قادم عليها، حتى صار مجلس الأمن الدولي وكأنه إحدى دوائر الخارجية الأمريكية وكأن السلطة التشريعية الأمريكية تحولت إلى مشرّع للعالم كله.
مع سقوط التجربة السوفيتية وتقلب روسيا الاتحادية في تخبط سياسي ربما سيكون مؤقتا، انتهت الحرب الباردة بين الشرق والغرب وأطل على العالم نظام دولي جديد وهو النظام الدولي الثالث، نظام القطبية الواحدة الذي عقدت فيه الراية للولايات المتحدة لتتحكم في مصائر الشعوب، فكم من الوقت سيأخذ هذا النظام حظه من العمر في عالم اليوم؟ وهل تستطيع روسيا بما تمتلكه من ترسانة السلاح السوفيتي القديم وقدرات تكنولوجية رصينة، أو القدرة على الابتكار لنوعيات جديدة من الأسلحة والصواريخ، مع اقتصاد قوي ملأ الفراغ الذي نشأ من خروج الاتحاد السوفيتي من المعادلة الدولية؟ وهل تتمكن سفينة الاقتصاد الروسي من حمل طموحات قادة جدد يحملون حلم القياصرة أو عزم جوزيف ستالين على بناء دولة قوية قادرة على التنافس؟
ربما يمتلك الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين مثل هذا الخيال والطموح، ولكن الطموح شيء والقدرات الحقيقية المستندة على اقتصاد قوي ومتنوع ويحمل أجوبة مقنعة على سؤال غورباتشوف بشأن التباين بين قدرات السوفيت على صناعة أحدث الأسلحة وعجزه عن طرح سيارة أو ثلاجة قادرة على التنافس؟ وهل يقتصر الأمر على السيارة والثلاجة فقط أم يمتد إلى السلع الاستهلاكية واشباع الجياع وتوفير كل السلع المطلوبة شعبيا وباتت معروفة من قبل المواطن بعد أن اطلّع عليها، بما فيها الكماليات لهم؟
وهل علينا أن ننظر إلى روسيا فقط؟ أم أن هناك دولا يمكن أن تنهض بهذا العبء الكبير مثل الصين الشعبية؟
قطعا أي مركز استقطاب دولي يعيد النظام الدولي إلى توازنه، ويؤذن بميلاد النظام الدولي الرابع لا يعتمد على اقتصاد قوي فقط، ولا على قوة عسكرية ولا على مساحة شاسعة من الأرض أو عدد كبير من السكان، بل يعتمد على تكامل منظومة التوفيق بين العناصر المتقدمة كلها ويصبها في خدمة مشروع دولة كبرى، وإلا لكان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره بما امتلك من ترسانة حربية ومساحة شاسعة، اليوم هو في موضع الاستقطاب الأوحد، ولو كان عدد السكان هو معيار التفوق لكانت الصين والهند من يشغل هذا الموقع، ولكن عددا متوازنا من السكان مع المساحة الجغرافية والقدرة الاقتصادية وقدرة تكنولوجية وقوة عسكرية تدعمه، هي التي تصنع مكانة الدول في عالم اليوم الذي لن يستمر نظامه الدولي الثالث إلى ما لا نهاية، بل لا بد من ظهور نظام رابع لأن هذا الوضع لا يخدم مصالح الدول والشعوب على حد سواء، ثم إن هذه هي سنة الحياة التي أقامها الله على أساس التوازن والتوازن وحده.

مقالات ذات صلة

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى