مقدمة:
تاريخ الأمم والشعوب هو تاريخ صراعات ونزاعات مسلحة من أجل توسيع الهيمنة والسيطرة على الثروات الطبيعية وطرق المواصلات البحرية، أما إذا شهد العالم فترات هدوء فهي في واقع الحال مجرد استراحات للجيوش والمحاربين وللدول الكبرى الساعية لتوسيع رقعتها الجغرافية، وللدول الصغيرة المكافحة من أجل الاستقلال من استرداد انفاسها وتجميع قواها.
ولم يشهد العالم حقبة إنسانية مفعمة بالعدل في تاريخه الطويل، كالحقبة التي رافقت الفتوحات العربية الإسلامية التي نشرت العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان وفقا لمنظور رباني يعتمد مبدأ “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” و “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، ونشر العرب في كل مجتمع وصلوه حضارتهم وعلومهم وحتى فنونهم وفلسفتهم وشعرهم إلى الشعوب الأخرى التي تقبلتها بكل شغف.
ولهذا لم يفكر أحد من قادة العرب في أي عصر من عصور إمبراطورياتهم المترامية الأطراف والتي كانت تحكم معظم العالم المعروف في ذلك الوقت في البحث عن اتفاقيات دولية لتنظيم العلاقات بين الدول المتنازعة، فالإسلام دين التسامح والسلام والإخاء بين الشعوب، فكان الإسلام هو جامعة الشعوب التي تنهل منها العلوم والسلام ونبذ الظلم والاضطهاد.
لكن أوربا التي عاشت زمنا طويلا من النزاعات بين إمبراطورياتها التي حكمت أوربا قبل ظهور المسيحية، واصلت حروبها ولم تتمكن المسيحية من جمعها على كلمة سواء على الرغم من أن السيد المسيح عليه السلام هو القائل من ضربك على خدك الأيمن فقدم له الأيسر، فهل جسدت أوربا ولو النزر اليسير من قوة التسامح والسلام التي وردت في مقولة المسيح؟ لهذا خاضت حروبا دفعت ثمنها ثقيلا هي والأقاليم القريبة منها جراء انتشار شظاياها المدمرة إلى تلك الأقاليم، فراحت تبحث عن أطر قانونية لتنظيم علاقاتها مع بعضها.
أستطيع أن أوزع العالم إلى ثلاثة نظم دولية حديثة عاشها العالم، هي النظام الدولي الأول الذي أعقب توقيع اتفاقية ويستفاليا 1648، وفرضت نفسها لوقت طويل على العلاقات بين الدول ولم تستطع الحرب العالمية الأولى نسف أركانها بل استمرت حتى بعد نشوبها وخروج الدولة العثمانية من الخارطة السياسية، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية التي أحدثت تغييرات جدية على توازنات القوى، فقد برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كأقوى قوتين منتصرتين في تلك الحرب، فكان ذلك بداية عملية لنشوء النظام الدولي الثاني على ما أرى، لكن انهيار جدار برلين ومعه انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية وحلف وارشو، وبروز الولايات المتحدة كمركز استقطاب دولي وحيد، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، تدور في فلكه أوربا الغربية والشرقية على حد سواء، ودول كثيرة في شتى أرجاء العالم وخاصة في آسيا وأمريكا، وبالتالي نشأ النظام الدولي الجديد أو النظام الدولي الثالث.
النظام الدولي الأول
ربما استطاعت أوربا رسم مسار العلاقات الدولية للعالم كله وليس لنفسها فقط منذ نهاية النصف الأول من القرن السابع عشر، بعد أن نشطت قوة الاختراعات والنهضة العلمية التي عاشتها القارة في تلك الحقبة، وبعد أن عجزت الدولة العثمانية التي وصلت جيوشها على أسوار العاصمة النمساوية “فينا” من دون أن تفتحها عن رسم مسار العلاقات الدولية في محيطها الجغرافي السياسي، لأنها انشغلت بحروب طويلة مع الدولة الصفوية منذ عام 1509 وحتى عام 1638، من أن تحسم المعادلة بصورة نهائية، وكانت الساحة العراقية هي ساحة هذه الحروب على نحو خاص، ولكن الحقيقة المؤكدة أن الدولة الصفوية خاضت حروبا طاحنة ضد الدولة العثمانية وكانت سببا في وقف الزحف العثماني إلى أوربا وبالتالي منع الدولة العثمانية وهي أكبر قوة في أوربا ذلك الوقت من أن تكون جزء من ترتيبات النظام الدولي الذي ارتكز على اتفاقية ويستفاليا، وعلى الرغم من أن أهم عامل لنشوء النظام الدولي المذكور، الحروب، إلا أن تركيا العثمانية وفارس الصفوية لم تتمكنا من إيجاد نظام دولي أو إقليمي خاص بعلاقاتهما الثنائية أو بالعلاقات الإقليمية في المنطقة التي يطلق عليها الآن مصطلح “الشرق الأوسط” مع أنهما عاشتا قرونا طويلة من النزاعات بسبب تحالف فارس مع أوربا في حروبها مع العثمانيين والتي انتهت بتقويض أركان الدولة العثمانية الفعلي عام 1908وإنْ كان سقوطها الرسمي قد سُجل في عام 1922.
لقد أخفقت الدولة العثمانية في إقامة نظام دولي مصمم على مقاساتها كقوة عسكرية هائلة تمتلكها دولة كبرى مسيطرة على أجزاء شاسعة من أوربا وعلى الممرات المائية المهمة في العالم، أو حتى المشاركة في المؤتمرات الأوربية التي صاغت للعالم أولى اتفاقياته الجماعية، مما يؤكد أن مكانة الدول في المجتمع الدولي، لا تستند إلى القوة العسكرية فقط وإنما إلى عوامل كثيرة أخرى من بينها القوة الصناعية وخاصة التطور التكنولوجي، واقتصاد مرتكز على أسس علمية وموارد ثابتة ووجود عقول راجحة وقادرة على رسم السياسات والأسس القانونية، وهنا إذا ما أجرينا مقارنة بين ما كانت تركيا العثمانية تدخره من هذا النمط من الرجال وما كانت أوربا تزخر به فإننا سنخرج بنتيجة مخيبة للآمال، أوربا أنشأت جامعات على أسس حديثة تولت إقامة ركائز النهضة الأوربية الحديثة في كل مجالات العلوم الصرفة والإنسانية، وهو ما ترافق مع دخول ماكنة البخار في تحريك السفن والقطارات بعد أن حرصت تلك الجامعات على تراكم الخبرة لديها والتنافس فيما بينها، وعلى الرغم من كل الصراعات التي خاضتها مع الكنيسة الكاثوليكية التي كانت ترى في أي تطور علمي على أنه تهديد جدي لهيمنتها على المجتمع الأوربي، إلا أن المسيرة لم تتوقف وكانت المنجزات التكنولوجية تترى وتضاف إلى جهود تلك وتوضع في خدمة برامجها التوسعية، يضاف إلى ذلك دور الثورة الفرنسية التي ألهبت المشاعر ودفعت الشعوب إلى دخول عوالم التنوير والتعامل مع كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بنظرة علمية.
وكانت الجامعات الأوربية تتنافس فيما بينها لاحتلال الموقع الأول بين الجامعات وتقدم خبراتها لبلدانها في مختلف الاختصاصات العملية والعملية، من جانب آخر لعبت الكنيسة لاحقا دورا مهما في جلب دول أوربا المسيحية إلى قاعات الحوار بدلا من حصر الحوار بقوة السلاح في سوح الحرب من أجل تصفية خلافاتها.
لكن علينا أن نتعرف على أسباب إخفاق الدولتين العثمانية والصفوية في التوجه نحو قاعات الحوار السياسي بدلا من تحشيد القوات واستنزاف الطاقات المادية والبشرية، ويمكننا إجمالها بما يلي:
1 – إن بلاد فارس وبصرف النظر عن نظام الحكم الذي يقودها، حافظت على أعلى درجات التنصل من أي التزام أخلاقي أو قانوني مع الدول الأخرى فالغدر هو الصفة الملازمة للشخصية الفارسية ومن ثم لكل من انضوى من المكونات الأخرى تحت لواء الكيانات السياسية التي انصهرت طوعا أو كراهة في السلوك الجمعي للفرس، وهذا هو الذي أقام حاجزا من عدم الثقة بين الدولتين.
2 – كانت النزاعات المسلحة بين البلدين جزءً صغيرا من نزاعات كان العالم يعيشها لم تكن الحلول السياسية جزءً منها، ففارس الصفوية كانت تسعى لضم أجزاء من أراضي الدولة العثمانية مثل الأراضي العراقية التي استندت الدولة الصفوية في التعامل معها بتلك النزعة العدوانية إلى:
أ – الرغبة في العودة إلى المدائن التي كانت الدولة الساسانية تتخذ منها عاصمة لها والتي قوض الفتح العربي الإسلامي أركانها.
ب – نزعة مسعورة لنشر التشيع في العراق كما حصل في بلاد فارس بقوة السلاح والإكراه.
3 – النظرة العدائية من الفاتيكان تجاه الإسلام والترويج لفكرة أن الدولة العثمانية هي امتداد لتاريخ الفتوحات العربية الإسلامية التي انطلقت ضد الحضارة الغربية منذ انتصار العرب في معركة اليرموك.
لهذه الأسباب وغيرها تعمدت أوربا ابعاد الدولة العثمانية عن أية ترتيبات جماعية للأمن الجماعي في أوربا والشرق الأوسط، في حين نرى أن أوربا كانت تنشط في الاتصالات السرية مع فارس لإقامة تحالفات ثنائية معها على حساب الدولة العثمانية.
تضافرت هذه الظروف التي مرت بها الدولة العثمانية مع عصر التوسعات الاستعمارية التي قامت بها أوربا عن طريق القوة المسلحة وعن طريق إبهار الشعوب المتخلفة في آسيا وأفريقيا والعالم الجديد بمخترعاتها الحديثة مما أطلق يدها في هذا التوسع بحيث أعطى أوربا أرجحية كبيرة في تعاملها مع الدولة العثمانية نفسها والقضم من أراضيها، لا سيما وأن وصول أوربا إلى أسيا وأفريقيا والأمريكتين كدس في خزائن الدول الأوربية ثروات العالم وخاصة الذهب والمعادن النفيسة الأخرى وهو ما حول وجهتها إلى التنافس فيما بينها للسيطرة على أوسع رقعة جغرافية، مما أثار حروبا طاحنة بين دول أوربا التي لم تتمكن المسيحية من جمعها على خيار واحد باستثناء ما يتعلق بالنزاعات المسلحة مع الدولة العثمانية بأقاليمها المختلفة، ومن قبلها الدولة الأموية في الأندلس، ولأن أوربا عاشت حروبا كادت أن تهدد مواصلتها لسياسة التوسع والسيطرة على ثروات المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأمريكا في بداية عصر الاستكشافات الجغرافية، فقد تداعى عدد من قادتها إلى تقديم رؤيتهم الخاصة لإيجاد نظام قانوني يحكم علاقاتهم على أسس متفق عليها بين الدول الأكثر تطرفا في نزعتها التوسعية والأكثر قدرة على تحقيق ذلك من خلال قوة جيوشها وطموح قادتها للسيطرة والتوسع وتنويع اقتصاد دولهم ومواردها القادمة من وراء البحار.
وتم لها ذلك في توقيع اتفاقيتي ويستفاليا، ويرى خبراء القانون الدولي، أن الصلح الذي تم التوصل إليه بعد مفاوضات حصلت في مدينتي أسنابروك ومونستر في وستفاليا في ألمانيا، وتم التوقيع عليهما في 15 مايو/أيار 1648، و24 اكتوبر/تشرين الأول 1648، أن وما تتم التوصل إليه كان أول اتفاق دبلوماسي بين دول مختلفة التوجهات والمصالح في العصر الحديث، ذلك أنه أرسى ولأول مرة نظاما سياسيا جديدا في أوربا، كان أساسه مبدأ سيادة الدول ونالت بموجب الاتفاقية مجموعة من الأقاليم التي كانت حتى ذلك الوقت جزءً من دول أخرى، وقد كتبت نصوص الاتفاقيتين باللغة الفرنسية، وظل النظام الدولي الذي أرسيت قواعده في الاتفاقيتين قائما حتى النصف الأول من القرن العشرين، فالحرب العالمية الأولى انتهت من دون أن تحدث تأثيرا كبيرا في النظام الدولي الذي أرسته اتفاقيتا ويستفاليا، على الرغم من خروج الولايات المتحدة كقوة صاعدة في العالم من داخل حدودها ومشاركتها في بعض المعارك الأخيرة للحرب العالمية الأولى، إلا أن الحرب العالمية الثانية قلبت موازين القوى الدولية رأسا على عقب، فكل من فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا أبرز قوتين حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، تراجع دورهما كثيرا في العلاقات الدولية لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وكان التنافس الذي عاشته الكتلة الغربية المنتصرة في الحرب، قد أدى إلى استحواذ الولايات المتحدة على مناطق كانت محسومة على أنها لملكية كل من بريطانيا وفرنسا، والأمثلة كثيرة في هذا الخصوص، فسيطرة الولايات المتحدة على نفط إيران بعد إزاحة بريطانيا نتيجة التداعيات التي عاشتها إيران بعد ثورة مصّدّق، أول وأهم انجاز حققته الولايات المتحدة على حساب بريطانيا، وقبل ذلك كانت اتفاقيات النفط الموقعة بين الشركات الأمريكية وحكومة المملكة العربية السعودية “ضربة معلم” كما يقال، هذا إضافة إلى أن الولايات المتحدة أقامت لنفسها قواعد عسكرية “بحرية وجوية” في بقاع شتى كانت تؤّمن لها هيمنة مطلقة تحت لافتة مواجهة المعسكر الشيوعي وأخطار الحركة الشيوعية التي كانت تحت قيادة الاتحاد السوفيتي، وعلى ذلك ومن نتائج الحرب العالمية الثانية أن تم إشهار نظام دولي جديد ثنائي القطبية، توزع أطرافه كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ومع كل واحد منه دول تدور في أفلاكه، أما اللاعبون الآخرون فكانوا مثل شهود عقد الزواج.
لاحقا الجزء الثاني