النظام الدولي

ا. د. محمد طاقة

في منتصف القرن السادس عشر، وبعد حرب ضروس دارت رحاها في أوربا دامت ثلاثين سنة، تمخض، عقبها، نظام دولي، وفقاً لاتفاقية وستفاليا، والتي أكدت مفهوم الدولة القومية والوطنية.
نظمت تلك الاتفاقية، التي وقعت في العام ١٩١٤، العلاقات السياسية والاقتصادية والقانونية والتجارية والأمنية بين جميع الدول الأوربية المتصارعة، واستمر العمل بها حتى الحرب العالمية الأولى (العام ١٩١٨)، وأدت إلى تشكيل نظام دولي جديد يحكمه مبدأ المصالح في العلاقات الدولية، استمر الحال حتى الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥)، التي برز نتيجة لها نظام دولي جديد تميز بظهور قطبين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.
كان النظام الجديد ذا طبيعة أيدولوجية بالإضافة إلى مبدأ تحقيق المصالح.
يلاحظ مما تقدم أن تشكيل أي نظام دولي جديد يحدث، بعد قيام حروب أو حرب تحسم الصراع بين الدول.
واليوم، بعد جائحة كورونا يكثر الباحثون والاقتصاديون والسياسيون وآخرون الحديث عن ظهور نظام دولي جديد، بعد كورونا، وكأن فايروس كورونا هو الذي سيحسم الصراع بين القوى المتصارعة ليتشكل هذا النظام الجديد .
إن النظام، الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، كان ثنائي القطبية وتشكل، في ضوئه، الإطار المؤسسي: السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي، الذي نظم العلاقات الدولية، خلال مرحلة تاريخية محددة.
من مميزات أي نظام دولي أنه يكون ذا طبيعة مرحلية فهو يتغير على وفق التطورات، التي تحدث وحسم الصراعات لصالح إحدى القوى المتصارعة، وتفرض طبيعة ظهور نظام دولي، كما أسلفنا، بناء على موازين القوى الاستراتيجية، وتكون، عادة، إِما بمواجهة عسكرية مدمرة، كما حدث خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية، أو صراع أيديولوجي شرس طويل الأمد، كما حدث بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وقد دام هذا الصراع، فِي أطار الحرب الباردة، حتى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الشيوعية، التي انهار معها جدار برلين في العام ١٩٨٩.
وجراء ذلك انفردت أمريكا بالعالم كأكبر قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية، وفقد العالم حالة التوازن الضرورية لاستقرار الأمن الدولي، وتمكنت أمريكا من الهيمنة على جميع المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة والمتمثلة بمجلس الأمن الدولي، الذي فوض خمسة من أعضائه حق النقض (الفيتو)، وصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وبقية المؤسسات الأخرى.
وبتمكن أمريكا من السيطرة على البناء الفوقي، الذي ينظم جميع العلاقات الدولية استطاعت تعزيز نفوذها وسيطرتها على العالم.
إن انفراد أمريكا بالعالم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لا يعني، على الإطلاق، ظهور نظام دولي جديد لأن جميع المؤسسات الدولية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية هي نفسها باقية ونافذة المفعول، إلى يومنا هذا، ولم يحدث عليها أي تغيير، سوى بعض الإصلاحات.
ومن وجهة نظرنا، فنحن أمام مرحلة انتقالية لتشكيل نظام دولي جديد تسعى أمريكا إلى أن يكون نظاماً قطبياً واحداً، ومن خلاله تحقق عولمتها في الهيمنة على العالم.
ولكن ظهور الصين ومحورها والمتمثل بروسيا وكوريا الشمالية وإيران وغيرها كثاني أكبر قوة اقتصادية، بعد أمريكا، وهي تحقق نمواً اقتصادياً سريعاً جداً بحيث من الممكن وحتى العام ٢٠٥٠ أن تكون منافساً قوياً جداً لأمريكا وتزعزع مكانتها الدولية.
وكذلك أوربا من الممكن أن تكون قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية أن تلعب الدور نفسه الذي تلعبه الصين من أجل إعادة التوازن الدولي المفقود حالياً.
أذن، بإمكاننا أن نعدّ الصراع بين الصين ومحورها وأمريكا ومحورها صراعاً أيديولوجياً واقتصادياً شرساً وطويل الأمد، وإذا لم يحسم هذا الصراع ليحدد معالم النظام الدولي الجديد سيبقى الحال على ما هو عليه بعد كورونا.
ولكن آثار كورونا ستنعكس على النظام الاقتصادي الدولي وستعمق من المشكلات الاقتصادية، كمشكلة البطالة ومشكلة الأمن الغذائي والمديونية، وتوفير السيولة وإفلاس الكثير من الشركات والمؤسسات والبنوك وغيرها من المشكلات الاجتماعية، التي لها علاقة بالسلوك البشري، فهنالك عديد من الاحتمالات، التي يمكن، من خلالها، أن تحسم هذا الصراع ويتم تشكيل النظام الدولي الجديد، ومنها أن يحسم الصراع الايديولوجي والاقتصادي لصالح أحد الطرفين ويخضع الطرف الثاني للآخر ويتم تشكيل نظام دولي جديد في ضوء ذلك، أو يتم التوافق بين طرفي الصراع ويتم تشكيل نظام دولي بقطبين أو اكثر، ونحن نستبعد هذا الاحتمال كون أمريكا تسعى إلى أن يكون هذا القرن والقرن القابل أمريكيين.
أو أن يحسم الصراع عسكريا والمنتصر هو الذي يحدد طبيعة النظام الدولي الجديد، وهذا يحدث عندما يكون الاحتمالان الأول والثاني مستعصيين على التطبيق.
ذلك كله ممكن الحدوث على الأمدين المتوسط والطويل.
وسيبقى الصراع ذو الطابع الأيديولوجي والاقتصادي مستمراً على الأمدين القصير والمتوسط، فضلا عن وجود احتمالات ومتغيرات لم تكن بالحسبان تعمل على تغيير الاحتمالات كلها، ومن هذه المتغيرات، على سبيل المثال، وقوع أحداث دراماتيكية داخل الولايات المتحدة الامريكية، أو ظهور تكتلات اقتصادية كالتكتل، الذي تقوده الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب افريقيا، والذي سمي (تكتل بريكس) على أساس الأحرف الأولى المكونة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، والتي تحتفظ باحتياطيات تبلغ نحو ٤٠ بالمئة من مجموع احتياطيات العالم ويعيش في هذه الدول الخمس نصف سكان العالم ويوازي الناتج المحلي للدول مجتمعة الناتج المحلي للولايات المتحدة الأمريكية (١٣ ترليون دولار) ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة ٤ ترليون دولار، وستمثل مجموعة بريكس تجمعاً اقتصادياً كبيراً من الممكن، بعد استكمال شروطه وتطوره، أن يشكل تجمعاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً يسهم في خلق حالة التوازن مع أمريكا ومحورها وصولاً إلى تشكيل نظام دولي جديد ينسجم وطموحات شعوب العالم.
إننا نعيش في مرحلة غاية في الخطورة هي مرحلة التطورات والتحولات الكبرى: مرحلة اللاتوازن، التي على أنقاضها تبنى مرحلة التوازن، وبروز نظام دولي جديد نأمل أن يكون متعدد الأقطاب ويحقق الأمن والأمان لشعوب العالم جميعها، ويغير، جذرياً، ما خلفته الحرب العالمية الثانية من مؤسسات ما عادت تتلاءم مع التطور الحاصل في قوى الإنتاج العالمية، وأهم الأمور، التي نأمل أن تتحقق هو احترام اختيارات الشعوب في العيش، بنحو يخدم مصالحها وخلق تنميتها المستدامة واحترام حقوق الإنسان وخلق أجواء ديمقراطية وإرجاع الحقوق إلى أصحابها.
والأسئلة، التي تفرض نفسها: هل أن أمريكا ستقف مكتوفة الأيدي أمام ذلك كله؟ وهل ستتخلى المنظومة الرأسمالية عن أهدافها المعروفة؟ وهل ستترك أمريكا القوى، التي تنافسها، تنجح في مسعاها؟ أسئلة كثيرة تحتاج الى إجابات سأترك لكم الإجابة عنها.

تعليق واحد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى