بغداد حبيبة الأمس واليوم وغدا

اجتزت الدراسة الابتدائية بنجاح أكدّ حقيقةً أن قرارات الإدارة في الماضي في حجب حق دخول الامتحان الوزاري للدراسة الابتدائية، كانت قرارات مزاجية غير مستندة على أساس موضوعي أو تقييم علمي سليم، بعد عدّة أيام من إعلان النتائج حصل التغيير السياسي في نظام الحكم في العراق يوم 14 تموز 1958، وحصلت فيه فضائع إنسانية عكست إلى حد كبير المزاج الحاد للشعب العراقي وقابليته لتغيير ولاءاته بسرعة قياسية.
بعد حصولي على الوثيقة الرسمية للنجاح كانت أمامي فرصة واحدة للتقديم إلى متوسطة المنصور الرسمية للبنين لأنها المدرسة المتوسطة الوحيدة الموجودة في كرادة مريم، أحببت هذه المدرسة لسبب واحد وهي لأنها مثلي في كثرة التنقل من مكان إلى آخر، عندما قُبلتُ فيها كان مقرها في قصر توفيق السويدي وهو من القصور التاريخية الجميلة، كان يبعد عن ساحة الملك فيصل نحوا من 200 متر باتجاه الشواكة ويقع على الجانب الأبعد عن نهر دجلة لشارع حيفا في منطقة الكريمات، وكان مقرا مؤقتا للمدرسة إذ لم تستمر فيه أكثر من شهر واحد بعد افتتاح السنة الدراسية 1958- 1959، ثم انتقلنا إلى مقرٍ مستأجرٍ في كرادة مريم على نهر دجلة على مقربة من مدرسة كرادة مريم الابتدائية الأولى للبنين، مقر المدرسة الجديد هو بالأصل دار عائدة للدكتور محمد الشواف وزير الصحة في حكومة اللواء الركن عبد الكريم قاسم الذي ظل محتفظا بمنصبه الوزاري على الرغم من أن شقيقه العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر اللواء الخامس الذي يتخذ من الموصل مقرا له، كان قد أعلن الثورة في الثامن من آذار 1959 على سلطة اللواء الركن عبد الكريم قاسم بعد أن فشل في إقناع قاسم بعدم إرسال قطار السلام إلى هذه المدينة المعروفة بتوجهها القومي والإسلامي ومناهضتها للشيوعية والقاسمية، بسبب تأزم الأوضاع في المدينة، ولكن قاسم أصر على موقفه في موقف استفزازي لمشاعر المدينة، فحصل فيها ما حصل من فضائع وانتهاكات أبرزها قتل المناضلة حفصة العمري وتعليق جسدها على عمود الكهرباء، كما تم سحل العشرات من الشيوخ والشباب وتضافرت على ارتكاب هذه الجرائم عناصر كردية مع غوغاء متوحشين من الشيوعيين بعد عرض المتهمين على محكمة سُميت بمحكمة القصاب، المهم منزل الدكتور الشواف منزل كبير جدا ويسع لاستيعاب أكثر من شعبة للصف الواحد، وهو مرتفع عن الساحة الجانبية التي كانت ذات يوم حديقة تتنافس فيها الزهور من تنوعها على اغراء الفراش والنحل للمرور عليها، ولكنها أصبحت أرضا جرداء بعد أن تحولت إلى مدرسة، ومن مفارقات هذا المنزل أنني عندما تركت العمل في الإذاعة والتلفزيون في 31 كانون الثاني 1975 بموجب أمر إداري أصدره السيد لطيف الدليمي فك الله أسره، وتم نقلي إلى مجلة الإذاعة والتلفزيون حسب تنسيبها، داومت في نفس البناية التي درست فيها في متوسطة المنصور التي كانت قد انتقلت إلى بناية قريبة من فندق المنصور ميليا في الصالحية.
كانت الهيئة التدريسية هيئة ناجحة بكل المقاييس، مدير المدرسة الأستاذ كامل عبد الجبار حلمي شريدة، ومعاونه هو الأستاذ محمد علي زويني وكان يدرسنا اللغة العربية إضافة إلى وظيفته، ويدرسنا الرياضيات الأستاذ أحمد المدرس، والجغرافيا والتاريخ الأستاذ عبد الجبار البارح، والأستاذ ميخائيل يدرّسنا الجغرافية وهناك عدد من الأساتذة الآخرين ربما لا أستطيع تذكر أسمائهم، وخلال وجودنا في الصف الأول خاصةً وصل الصراع السياسي ذروته بين الشيوعيين وأتباعهم من الذين دعموا حكم اللواء الركن عبد الكريم قاسم الذي نال الترقية العسكرية من رتبة زعيم ركن إلى لواء ركن يوم 6 كانون الثاني1959، كان معنا في الصف طالب هو ابن شقيق عبد الكريم قاسم، واسمه طالب حامد قاسم، وكان بمنتهى الأدب والكياسة ولم يتصرف في أي يوم من الأيام على أنه ابن أخ “الزعيم الأوحد” كما يسميه الشيوعيون، بل كان يتقزز من تصرفاتهم في المدرسة، ويعتبر تصرفاتهم خروجا على القيم الأخلاقية وروح الزمالة بين الطلبة لا سيما ونحن لم نصل مرحلة العمر اللازم لدخولنا في المعترك السياسي في أحزاب متصارعة صراعا دمويا خرج عن أسس العمل السياسي المعروف بضوابطه، نعم كل منا يحمل تصورا من خلال عائلته، وانعكست تلك القناعات بشكلها الغوغائي على سلوك شباب قلة منهم وصلوا السادسة عشرة من العمر، كان بعض الطلبة في غاية التطرف في تعاملهم مع خصومهم وكان معنا شقيق الشيوعي المعروف عزيز الحاج ومن طرائف مواقفه أنه كان يدخل في جدالات لا تنم عن نضج فيما يتعلق بمن هو الأعظم شاعرية أهوَ محمد مهدي الجواهري أم محمد صالح بحر العلوم، حينها يصرّ على أن للجواهري قصيدة في مدح الملك فيصل يقول فيها:
تِهْ يا ربيعُ بزهرِك العطرِ النّدي وبصنوك الزاهي ربيع المولدِ
باهِ السما ونجومَها بمشعشع عريانَ من نجم الرّبى المتوقَّدِ
هذه القصيدة نغصّت حياة الجواهري، ودفعت ببحر العلوم أن يرد على الجواهري قائلا:
صَهْ يا رقيع فمن شفيعُك في غدِ فلقد خسئتَ وبانَ معدنك الرديّ
هنا اختلط الموقف السياسي بالتقييم الفني في قراءة الشعر بل طغى عليه طغيانا متعسفا لدى شقيق عزيز الحاج ومن حقه أن يتعامل مع الشعر بفهمه الخاص، لم نتدخل في هذا النزاع الذي كنا نعرف معرفة يقينية أنه نزاع غير منصف ومع أننا لا نحب الجواهري لأسباب سياسية وخاصة بعد انحيازه إلى جانب الشيوعيين ومدح عبد الكريم قاسم بقصيدته:
جيش العراق ولم أزل بك مؤمنا وبأنّـكَ الأمــــلُ المرجّى والمنى
ثم يقول فيها
عبد الكريم وفي العراق خصاصة ليــــــدٍ وقد كنت الكريم المُحسنا
إلا أن علينا أن نميز بين شعره وسلوكه، نرى أن الشاعرين في خانة الخصوم بل الأعداء ولهذا فليس من شأننا أن ندافع عن إحدى قوارير الفخار إن تكسرت، ثم إننا كنا نعرف أن مدرس اللغة العربية كان يعالج المسألة من وجهة نقدية تحاول ابعادها عن السياسة.
وكان معنا أيضا شقيق أحد الضباط الشيوعيين المتطرفين من آل السعد، وكان هو أيضا استنساخ لموقف شقيقه في علاقاته مع المعارضين، ونتيجة تعقيدات العلاقة وتشابكاتها دخلنا خلال هذه السنة في نزاعات حادة وصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي وما توفر من عصٍ خشبية، ولما كنا نحن الأغلبية فقد كانت الغلبة لنا، لهذا هرب أحد الشيوعيين وجلب لنا عناصر من المقاومة الشعبية ووقفوا لنا بالباب، وزودهم هذا الطالب بأسماء المحرضين والذين أبلوا بلاء حسنا في الاشتباك، لهذا لم يسمح لنا مدير المدرسة بمغادرتها إلا بعد أن استدعى الشرطة لتفريق عناصر المقاومة الشعبية واستطاع تهريبنا من المدرسة بأعجوبة.
يتميّز العراقيون ربما من دون شعوب المنطقة بالتطرف، وسرعة الانتقال من حالة سياسية إلى الحالة المضادة والتعامل بقسوة التعاطي مع الحالة القديمة وأحيانا يبالغون في ذلك لإظهار الولاء الجديد، علينا أن نعترف بأن عناصر المقاومة الشعبية وهم بعشرات الألوف، كانوا جزءً من جوقة الهتافين للملك فيصل الثاني رحمه الله ونوري السعيد، ولما سقط نظام الحكم الملكي وتم تشكيل المقاومة الشعبية انضموا اليها بحماسة واضحة للعيان، وعند سقوط نظام حكم الفريق الركن عبد الكريم قاسم الذي وصل إلى هذه الرتبة باستحقاقه المهني في 6 كانون الثاني عام 1963، وجاء البعث إلى السلطة في 8 شباط 1963 وتم تشكيل الحرس القومي من عناصر بعثية خلال الأيام الأولى، وبمرور الوقت انخرط عشرات الآلاف في الحرس من مختلف المشارب والتوجهات، كثير منهم كانوا في المقاومة الشعبية وكما كانوا في صفوف المقاومة الشعبية من غير الشيوعيين فقد حصل الشيء نفسه مع الحرس القومي، وبعد حصول ردة 18 تشرين الثاني 1963 سرعان ما بدلت هذه العناصر جلودها وتحولت إلى مخبرين على مناضلي الحزب، وعند قيام ثورة 17 تموز 1968، وتم تشكيل الجيش الشعبي من البعثيين، بعد مدة من حكم البعث انخرط الألوف في الجيش الشعبي من مختلف المشارب والتوجهات، وبعد الاحتلال تشكلت عشرات العناوين من المليشيات الإجرامية الموالية لإيران والتي تلخص واجبها في مطاردة البعثيين بوحشية لا مثيل لها، فقتلت منهم عشرات الآلاف وما تزال تزعم أن البعثيين يقفون وراء كل ما يحصل حتى بعد ما يقرب 18 سنة من الاحتلالين الأمريكي والإيراني وتشريع قانون اجتثاث البعث، هذا القانون البغيض الذي راح يحاكم الناس على قناعاتهم، على العموم ظاهرة التقلب من حال سياسي إلى ضده وبعنف ظاهرة اجتماعية تستدعي دراسة معمقة من قبل خبراء وعلماء في مجال علم النفس والاجتماع.
نعم تحولت المدرسة إلى ساحة صراع سياسي لا يخلو في أحيان كثيرة من الضرب بالأيدي وأحيانا استخدام الأوتاد الخشبية والآلات الجارحة، مما أدى إلى إصابة كثير من الطلبة الذي أرسلهم أهلهم لتحصيل العلم وتحملوا من أجل ذلك نفقات ليست يسيرة وينتظرون نجاحهم كل سنة بفارغ الصبر، ولكنه الغلو العراقي الذي يطبع مجتمعنا الذي توارثه جيلا بعد جيل، كان مدير المدرسة حازما في إدارته ولكن السيل كان أكبر من قدرته على التحكم بسلوك طلبة يحبون الظهور على المسرح بأي صورة من الصور، بالمقابل لا بد أن يستدرج تطرف جهة ما تطرفا مضادا ممن يأبون الانخراط في أنشطة الجهة المدعومة بقوة الحزب الشيوعي، وهنا تحولت مدرستنا التي لا تقدم ولا تؤخر في الحياة السياسية العراقية إلى برلمان فوضى من الصعوبة السيطرة عليه، فقد انعكست الحياة السياسية المضطربة في العراق إلينا نحن طلبة الدراسة المتوسطة، لا سيما وأن الشيوعيين أشاعوا جواً إرهابيا على الشارع العراقي، ترادف مع عمليات قتل وسحل للمعارضين أعادت إلى الذاكرة الجمعية ما جرى يومي 14 و15 تموز 1958، إذ شهدت الموصل وكركوك وبغداد جرائم وحمامات دم لم يعرف العراق مثيلا لها منذ زمن بعيد، ومما فاقم الموقف أن المحكمة العسكرية الخاصة “محكمة المهداوي والمدعي العام” وهي المحكمة التي شُكلت لمحاكمة رموز النظام الملكي ولكنها تحولت إلى سيرك سياسي غير مسبوق كانت فصوله تُنقل على الهواء مباشرة، يحاكم قادة التغيير الذي حصل في 14 تموز أي تنظيم الضباط الأحرار الذي خطط ونفذ تغيير 14 تموز وأوصل عبد الكريم قاسم إلى سدة الحكم، كانت جلسات المحكمة تثير الكثير من التشنج والكراهية نتيجة ما يُرفع من شعارات دمويةٍ من قبيل “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة” و”جمهوريتك يا كريم مستحيل تصير اقليم” وغيرها من الشعارات المعادية للقومية العربية والبعث، كانت تلك الشعارات تكّهرب الأجواء وتفتح باب الفتن على مصراعيه بين الطلبة.
انتهت سنوات الدراسة المتوسطة الثلاث ببطء شديد شعرنا أنها أطول من حقيقتها بكثير، واجتزت الدراسة بنجاح ولم أتأخر فيها، لم تخفف من أجواء الاحتكاك بين الطلبة خطبة “الزعيم الأوحد” في كنيسة مار يوسف والتي قال فيها “سأحطم رأس كل فوضوي” ووصف الشيوعيين بالفاشيست، بسبب الجرائم الدموية التي ارتكبوها في الموصل وكركوك، ونسي أنه أقدم على تصديق حكم الإعدام بقادة تنظيم الضباط الأحرار مثل الزعيم الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري وعشرات من الضباط من ذوي الرتب المختلفة بتهمة المشاركة في ثورة الشواف، وأذكر هنا حكاية نقلها لي صديق عما جرى بعد محاكمة عبد الكريم قاسم يوم 9 شباط 1963 إنه ناشد عبد السلام عارف بأن يعفو عنه، ولما قال له الأمر ليس بيدي، تدخل اللواء الركن محمود شيت خطاب رحمه الله فقال لقاسم أعد لنا ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري إلى الحياة نعف عنك.

د. نزار السامرائي

عميد الاسرى العراقيين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى