أخذت العلاقات السعودية- الإيرانية قوة دفع لافتة قياسا بالفترة التي مرت على بدء جريان المياه بين البلدين في مسالكها المعتمدة، فقد قال السفير السعودي المعين في طهران، إن بلاده تتطلع إلى فتح مزيد من قنوات التعاون بينهما.
وبعد التطبيع الاستعراضي للعلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية، وبعد مضي زمن لم يكن كافيا لنسيان حادثة إحراق الإيرانيين مبنى السفارة السعودية في طهران ومبنى القنصلية في مشهد، تلك الحادثة التي كانت صفعة إيرانية لمن تظن أنها قادرة على أن تفعل بهم ما يعجزون عن رده عليها، واضطرت السعودية لبلع تلك الاهانة من دون أن تتقيأها، أضاف السفير المتلهف لوظيفته الجديدة في الدولة التي لن تتوقف ارضاءً لسواد لحية محمد بن سلمان أو عقاله العربي، الذي يستفز كل ما في الوجدان الفارسي من خلايا، عن خطتها المرسومة منذ عام 1979، بتصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، ولن تشعر براحة بال إلا عندما ترى أن المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، صارا ضمن دائرة السيطرة والتحكم عن بعد بيد الولي الفقيه، لتحصل فيهما مشاهد تراجيديا زرادشتية تتطور في كل سنة، تفوق في فصولها ومآسيها ما تشهده كربلاء والنجف من طغيان (الزوار) الإيرانيين وتعاليهم على أهل الدار، وما يمارسون من إذلال للعراقيين في مدنهم حيثما تمر مواكبهم المقدسة أكثر من المناسبة التي يُزعم أنهم جاءوا إليها، تلك المواكب التي تمتلك حصانة تفوق حصانة الملوك بل وحتى الانبياء، قال السفير السعودي إن جوهر العلاقة الجديدة هو تطبيق لرؤية السعودية 2030.
هنا لا بد أن يبرز سؤال محدد، هل كانت السعودية تخطط لهذا التنازل المهين قبل الوساطة الصينية؟ إذن لِمَ كل هذه السيناريوهات البائسة التي خرجت فيها السعودية مكشوفة الظهر وعرضت مكانتها كقوة إقليمية مفترضة حاولت تكريسها عبر عاصفة الحزم، والتي أظهرت عجزا فاضحا عن حسم معركة مع عصابات في حقيقتها السكانية هي أقلية داخل الأقلية؟ وماذا حققت السعودية من كل خطواتها وشعاراتها السابقة وعاصفة حزمها ضد إيران؟ ألا يترك ذلك انطباعا بأن هذا النمط التجريبي من دبلوماسية التحدي غير المسؤول، ثم الانتقال إلى دبلوماسية الخنوع الذليل، ثبت إخفاقها ليس في العلاقة مع إيران بل في سائر العلاقات بين الدول، مما قد يترك انطباعاً لدى عابري طريق دبلوماسية الاستعجال، والواقفين على أرصفة العمل السياسي الراكد، أن إيران تخطط لما تريد بتأنٍ وصبر وطول انتظار، وأنها تعي جيدا أن خططها قابلة للتحقق، لأن العرب معروفون بقلة الصبر ويستعجلون النتائج، فلمن تكون النهاية السعيدة؟ للعمامة المؤدلَجة بكل حيل فقه الحاجة والتقية، أم لعقال ارتداه في غفلة من الزمن شاب كان لم يبلغ أشده والأربعين سنة، اعتقد أنه يملك قدرات بسمارك وقوة شكيمة ستالين ودهاء تشرشل، ولكنه اكتشف بعد هنيهة عابرة أنه نام بلا غطاء، وأن إيران إنما كانت بوارد اخذ استراحة محارب قديم أحس بحاجة إلى راحة تكرس مكاسب أربع عواصم لتنطلق في الصفحة الجديدة.
وهناك سؤال مهم جدا يطرحه بعض المراقبين، ما الذي تغيير في الموقف الأوربي والأمريكي، بحيث تناسى الجميع ما قالوا إنها جريمة منكرة لمحمد بن سلمان وذلك بقتل الصحفي جمال خاشقجي في مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول؟ وتعهدات الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن في برنامجه خلال الانتخابات التي قذفت به إلى حدائق البيت الأبيض، عندما قطع على نفسه عهدا، بأنه سيمضي في خطة ملاحقة محمد بن سلمان، الذي حملّه المسؤولية المباشرة رسميا وشخصيا بارتكاب ذلك العمل، الذي وصفه بأنه مشين؟
هل جرت مياه كثيرة بين الرياض وواشنطن بحيث جعلت الرئيس الديمقراطي يتراجع عن تعهداته سالفة الذكر وما هي الرشاوى التي قدمها بن سلمان للإدارة الديمقراطية كي تطوي ملف خاشقجي؟
علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن المملكة العربية السعودية دولة محورية في الشرق الأوسط وعلينا ألا نبخسها حقها، وأنها دولة التوازن في الإنتاج النفطي في السوق العالمية، وأن سياستها النفطية ترتبط بمدى الانسجام في علاقات الرياض مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، مما يجعل من السعودية طرفا مباشرا في حروب الغرب في العالم، من خلال التأثير على حركة النفط انتاجا وتسويقا وتسعيرا، ولهذا في تقدير بعض المراقبين فإن الغرب البراغماتي حتى العظم ويغض النظر عندما يريد عن كل شعاراته بشأن حقوق الإنسان ويفعلها متى أراد، وكان يتغافل في علاقاته المبنية على المصالح الاستراتيجية العليا للإبقاء على هيمنته المطلقة، لا سيما الهيمنة الأمريكية، التي بدأت مؤشرات أفول نجمها لصالح قوى صاعدة مثل الصين، والتي على استعداد أن تتحالف مع العدو العقائدي السابق روسيا التي ورثت حساسيات الموقف السوفيتي المنهار، وفي ضوء كل هذا فإن محمد بن سلمان الذي استمات في سبيل إخراج نفسه من ملف خاشقجي حتى لو ألقى بأحماله على كاهل أقرب مساعديه، سيكون محاورا مقبولا عن بلده في العلاقات الدولية، من دون نسيان أية وسيلة ضغط عليه لانتزاع مزيد من التنازلات الاجتماعية والدينية، من أجل القبول به زبونا مرحبا به في المحافل الدولية، فالرجل ليس مقبولا لذاته أو لكفاءة خارقة امتلكها واكتشفها الغرب على حين غفلة، وإنما لأنه يحكم السعودية فعلا، وقد ارتكب من الأخطاء والخطايا التي جعلت منه طرفا قابلا لتقديم التنازلات لأبسط ضغط يتعرض له، فقد عرفوا نقطة ضعفه المركزية وهي التطلع للعرش وسط منافسة شديدة من داخل العائلة وهو محمل بماضٍ دون مستوى الشبهات، ولهذا تعددت أوجه الضغط عليه في مجالات العلاقات الإقليمية، وخاصة ما يجب عليه من اعتماد مرونة فيما يتصل بالعلاقات مع إسرائيل، وداخليا في وقف ما يسميه الغربيون (موجة التطرف الإسلامي) والتي تتهم السعودية ظلما بأنها تتبناها أو ترعاها، لهذا لم يجد بن سلمان أن ما يقدمه للغرب من شهادات حسن سلوك بحاجة إلى خطوات ملموسة، تتخطى مجرد القبول بتطبيع دول محسوبة على المحور السعودي مع إسرائيل كناية عن قبول الرياض بالتوجه الجديد، أما على المستوى الداخلي فقد ذهب بن سلمان بعيدا في توجهاته (اللادينية)، عندما حل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحل محلها هيئة الترفيه وجاء بواحد من آل الشيخ وجعله على رئاستها وكأنه يريد أن يقول إنه نجح في تدجين العائلة التي كانت رمزا للوهابية في البلاد وتحويله إلى داعية (للتجديد) والترفيه، في المجتمع الذي انطلقت فيه الرسالة الإسلامية، وكان لا بد من حصول تململ أو تذمر في مواجهة الخلاعة التي بدأت في الحجاز رغما عنها، وأظهرت أن كثيرا من المياه الآسنة تجري تحت السطح، فتم الزج بعدد غير محدود من علماء الدين الذين رفضوا الدعاء لملك البلاد وولي عهده، بعد خطبة الجمعة لا سيما في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
وإذا أردت أن أُنصف بن سلمان في تحركاته البهلوانية هنا أوهناك، فعليّ أن أقول، إن الرجل محاصر في بلاده من قبل أصدقائها المقربين، والذين أرسلوا له رسائل في اليمن بدعم سياسي مفتوح للحوثي وتسهيل لوصول الأسلحة إليهم، فأدخلوا السعودية في جيب مهلك لم يدخله طرف قبلها وخرج منه من دون كدمات واضحة إن لم تكن جروح قاتلة، ولعل الدور العماني في تسهيل تهريب السلاح من إيران إلى الحوثيين، ما يعزز القناعة أن الولايات المتحدة التي تراقب كل شيء عبر أقمارها الصناعية، كانت تدفع عن نفسها الحرج لتقاعسها في ضبط التهريب البحري للسلاح الإيراني من بندر عباس إلى الحديدة، فاستعاضت عن ذلك بالخط البري، لهذا فقد اشترى بن سلمان (هدنة مؤقتة مع إيران)، لأنه أيقن أن القريب والبعيد وخاصة من داخل مجلس التعاون الخليجي ضاقوا ذرعا بوصاية الأخ الكبير عليهم، ولكن ما هو الثمن الذي دفعه بن سلمان لهذه الهدنة؟ وهل يعرف طبيعة التفكير والتخطيط الفارسي للهيمنة على الوطن العربي والعالم الإسلامي عبر شعارات إسلامية براقة تعتمد زرع الخرافة والبدع، من أجل التحكم بالمسلمين عن طريق التجهيل، وهل يظن أن السعودية بمنأى عن الحلم الإيراني.
ولكن هل كان لمحمد بن سلمان الوقت الكافي الآن، أو عندما كان مجرد أمير وابن لولي العهد في بلاده، لقراءة التاريخ بعمق ومسؤولية دينية ووطنية وقومية وأخلاقية، كي يعرف الأساليب الفارسية عبر التاريخ، وكم ألحق الفرس من محن وكوارث في الدولة الإسلامية؟ بدءاً من الدولة الراشدة ثم الأموية والعباسية والعثمانية، ولعل ما يحصل في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ما يؤكد أن على أي مسؤول جاء إلى المسؤولية بقدراته الذاتية، أو قفز إليها بمحض الصدفة، أن يكون بمنتهى الحذر في التعامل مع إيران التي ورثت من فارس كل تقاليدها ومشاعرها في الكيد للإسلام، وعلى كل مسؤول أن يفكر ألف مرة قبل أن يقول لها (نعم)، لا بأس أن يقول ألف لا ولا، من أجل التعرف على كنه النوايا الفارسية المجبولة على الخديعة والتفاوض لمجرد التفاوض، والتعرف على حقيقة نوايا الطرف المقابل، وكسب الوقت وليس من أجل التوصل إلى الحل.