منذ تشكيل أولى المتجمعات البشريّة فرض العقل والعادات ثمّ القوانين على الناس ضرورة التعايش من أجل ديمومة الحياة واستمراريّتها.
ومع كون الإنسان “مدنيّا بطبعه”، إلا أنّ الظروف غير الطبيعيّة ومنها الحروب وفوضى السلاح وهشاشة السلطات؛ كلّها تقود إلى أن يعتدي بعض “الأقوياء” أو الأشرار على بقيّة مكوّنات المجتمع. وهذا بالضبط ما حدث في غالبيّة المدن العراقيّة من بعض الوحوش البشريّة التي زرعت الشرّ ونشرت الدم، وحاولت ترسيخ الفتنة والأحقاد بين العراقيّين.
ورغم الواقع العراقيّ المخيف، والمربك دعا رئيس الوزراء العراقيّ مصطفى الكاظمي يوم الاثنين الماضي، في كلمة له بمناسبة انتهاء زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، كافّة القوى السياسيّة والفعّاليات الشعبيّة والشبابيّة ومعارضي الحكومة إلى “حوار وطنيّ”!
فماذا يقصد الكاظمي بالحوار الوطنيّ؟ ومَنْ يتحاور مع مَنْ؟ الضحيّة مع الجلاّد؟ أم المقتول مع القاتل؟ أم المظلوم مع الظالم؟ أم المُهَجَّر مع المُهَجِّر؟
وهل هنالك مناخ ملائم، أو أرضيّة صالحة، أو واضحة لهذا الحوار الوطنيّ؟
معلوم أنّ الحوار ينبغي أن يكون على أرضيّة خصبة، وليس على أرض مليئة بالكراهية والمطبّات والمهلكات والمنغصات.
طالما أنّ مطلق المبادرة هو رئيس الحكومة، ومسؤول السلطة التنفيذيّة، لهذا عليه تطبيق جملة من القرارات والفعاليّات في الدوائر الأمنيّة والسياسيّة والقانونيّة حتّى يتحقّق هذا الحلم الجميل
وطالما أنّ مطلق المبادرة هو رئيس الحكومة، ومسؤول السلطة التنفيذيّة، لهذا عليه تطبيق جملة من القرارات والفعاليّات في الدوائر الأمنيّة والسياسيّة والقانونيّة حتّى يتحقّق هذا الحلم الجميل!
وبالمجمل، لا يمكن الوصول لحوار وطنيّ عراقيّ إلا عبر آليّات عمليّة حازمة، ومن بينها:
- التأسيس للمرحلة التاريخيّة الفارقة بين مفهوم الدولة واللادولة، والانطلاق نحو هذه المرحلة بقوّة القانون وعدالة القضاء، وبفرض سيادة الدولة الداخليّة والخارجيّة.
- تقديم جميع السياسيّين المتوّرطين بقتل العراقيّين لمحاكم عادلة ومحايدة.
-فتح باب الحوار الوطنيّ مع الجميع، بعيداً عن مشاركة القتلة والمجرمين!
- التنسيق مع واشنطن أو غيرها من الدول الغربيّة، أو العربيّة، ليكون “الحوار الوطنيّ” تحت رعاية دوليّة وإقليميّة.
- إعادة النظر في “القوانين الطائفيّة” التي اتّهمت طيف واسع من المواطنين بتهم الإرهاب، وفكّكت المجتمع وقسمته طائفيّاً وعرقيّاً.
- علاج آفة التهميش السياسيّ، والعمل على إدارة الدولة بروح الوطن الواحد، وليس بالعقليّة المذهبيّة أو القوميّة.
- إنهاء قضايا عشرات آلاف السجناء المظلومين، وضرورة التمييز بين الأبرياء والإرهابيّين منهم، وأن تكون هنالك خطوات عمليّة لإنصاف الأبرياء، وأقلّ المطلوب هو إعادة محاكمتهم بعدالة بعيداً عن الأحكام الأوّليّة أو الكيديّة.
- فرض القانون على الجميع، وأن يكون شعار المرحلة القادمة: “القانون فوق الجميع”، وهذا يستوجب تنفيذ عدالة القضاء بحزم وإرادة نقيّة.
- تجريم الإعلام الطائفيّ والصحافة الصفراء، ومحاسبة كلّ الساعين لضرب اللحمة الوطنيّة.
- لجم القوى الشرّيرة المتحكّمة بالشارع العراقيّ، ومسك الأرض من قبل القوى الرسميّة، وضبط السلاح خارج إطار الدولة!
- إنصاف العوائل المُهجَّرة، وبالذات أولئك الذين حُبسوا في دول الجوار، وضرورة تعويضهم عن سنوات التهجير التعسّفيّ والقسريّ.
- إعادة الجوامع المُغتصبة من قبل الوقف الشيعيّ، أو من العصابات المالكة للسلاح، وإعادة افتتاح المساجد المغلقة في المناطق المختلطة.
- تحطيم سلاسل الفساد، والإمساك بالحيتان الكبيرة ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة داخل العراق وخارجه.
- وضع خطط وطنيّة لمكافحة البطالة والفقر والمخدّرات.
- إعادة إعمار المدن المدمّرة، وتعويض الناس عمّا لحقهم وممتلكاتهم من دمار وأضرار.
هذه الخطوات ضروريّة جداً قبل انطلاق أيّ حوار وطنيّ، ولتكون رسائل اطمئنان للآخرين للوثوق بالحكومة؛ لأنّ مَنْ لا يسعى لتهيئة الأرضيّة الصالحة للحوار ستكون دعوته مجرّد دعايّة سياسيّة
هذه الخطوات ضروريّة جداً قبل انطلاق أيّ حوار وطنيّ، ولتكون رسائل اطمئنان للآخرين للوثوق بالحكومة؛ لأنّ مَنْ لا يسعى لتهيئة الأرضيّة الصالحة للحوار ستكون دعوته مجرّد دعايّة سياسيّة غير مثمرة، وربّما مجرّد فعاليّة سياسيّة عارية عن الصحّة والتطبيق!
والعجيب أنّه وبعد عدّة ساعات من دعوة الكاظمي للحوار، اغتالت المليشيات والد المحامي المختطف علي جاسب بمحافظة ميسان الجنوبيّة!
وفجر اليوم الجمعة ارتكبت القوى الشرّيرة مجزرة جديدة في منطقة البو دور بمحافظة صلاح الدين، وقتلت سبعة أفراد من عائلة واحدة!
فكيف يمكن التأسيس لحوار وطنيّ وسط أمواج الدماء البريئة؟
مَنْ يُريد الخير للعراق عليه أن يزرع الأمل بالأعمال وقوّة القانون، وليس بالخطابات الخالية من القدرة على التنفيذ على أرض الواقع.
أجمل وأغلى ما في الحياة هي الحرّيّة والكرامة والأمان ومَنْ يُحقّقها يُمكنه تحقيق السموّ والتعالي وكلّ الأهداف الأخرى، ومنها بناء الوطن والإنسان والهويّة الوطنيّة الجامعة لكلّ المواطنين!