من خلال رصد مجريات الازمة بين الولايات المتحدة وايران ، كنت قد اشرت في مقال سابق نشر هنا قبل اكثر من شهر بعنوان (واختفى سليماني ..) الى اختفاء قائد قوات “قدس” قاسم سليماني الذي شغل حضوره في العراق وسوريا وسائل الاعلام المهتمة بالشأن الايراني والمنحازة له ، كما ان وسائل الدعاية الايرانية عملت على تسويق صورة سليماني والترويج لفعالياته ونشاطاته باعتباره الاسطورة التي تجسدت في محاربة تنظيم داعش !
وفيلق قدس هو احد التشكيلات الرئيسية المرتبطة بالحرس الثوري الايراني ويعتبر الذراع الذي يتولى تنفيذ مهام الاجندة الايرانية خارج الحدود الايرانية ، ومن هنا يأتي الدور الاعلامي المحابي في تعظيم شخصية قاسم سليماني واسطورته الهلامية .
ومراعاة لاسباب اختفاء سليماني والتي قد تكون جزءا من تكتيك ما ، ومع احتمالات ظهوره مجددا لم نجزم القول بأنه سيبقى متواريا عن الانظار ، وانما كانت هي اشارة رصد لابد من الانتباه والالتفات اليها في خضم مايجري من استعراض للقوة بين الامريكان والايرانيين في منطقة الخليج العربي ..
وربطا لما تقدم فقد تواردت من العاصمة الايرانية قبل ايام قلائل معلومات شحيحة نقلها بعض من سكان طهران الذين شهدوا توترا للاجواء بسبب كثافة التواجد الامني غير المعهود ليلا في بعض شوارع طهران المهمة ، وقد ترشح عن هذه المعلومات ان صراعا داخليا عنيفا يجري بين جناح المتشددين المتمثل بقادة الحرس الثوري وبين جناح المعتدلين الذي يقوده الرئيس روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف حول خيارات الازمة وكيفية المواجهة مع الولايات المتحدة ، مما ادى الى فرض اقامة اجبارية على قاسم سليماني دون مزيد من الايضاحات .
وهنا لابد ان نتوقف عند هذا المنعطف حتى وان كان غير مؤكدا لمعرفة مايدور في السر خلف الكواليس في ايران ، ولابد ايضا ان نعرج على الاستقالة المفاجئة وغير معروفة الاسباب التي اعلنها محمد ظريف وزير الخارجية قبل ايام وهو المكلف بالملف الدبلوماسي لادارة الازمة مع الولايات المتحدة الامريكية .. فقد فرضت السلطات الايرانية تعتيما على تلك الاستقالة ولم يتم الاعلان عن الاسباب الحقيقية التي تقف وراءها ، ومن ثم عودة ظريف بعد يومين الى مهام عمله بعد ان تدخل خامنئي وحسم الامر بالرغم من بقاء الغموض الذي يلف بالقضية برمتها ..
ومن ذلك يمكننا ان نتأكد من ان صراعا خفيا يدور بين قادة الحرس الثوري المتطرفين الذين يريدون فرض ارادتهم في ادارة المواجهة مع واشنطن معتمدين على قدرة وكلائهم بالمنطقة ــ الميليشيات العراقية وحزب الله اللبناني والخلايا السرية النائمة في امارات الخليج ــ وفتح جبهات قتالية تشتت القوة الامريكية وتضعفها حسب وجهة نظرهم من جهة ، وبين الطاقم السياسي الذي يقوده الرئيس ووزير خارجيته ومن معهم الذين يرون ان المراوغة السياسية والمماطلة باطالة الوقت كفيلة بانهاء الازمة سياسيا دون اللجوء الى اية مواجهة عسكرية ..
وامام هذا الصراع العنيف والخفي بين الاجنحة كان لابد من تدخل المرشد الاعلى لحسمه وعدم تركه يغلي ويتصاعد .. وقد تم ذلك على مايبدو ، لكنه حسم لصالح التيار المعتدل وقد توضح ذلك بشكل جلي من خلال تصريحه الذي اطلقه اثناء ترؤسه اجتماعا مهما لكبار المسؤولين في طهران الاسبوع الماضي وقال فيه .. ( لن تكون هناك مواجهة عسكرية ) وذلك يعني ان المرشد الاعلى فضل خيار المهادنة مع الامريكان ، وهو مايؤكد نظرية اختفاء او انزواء قاسم سليماني وانكفاءه عن لعب اي دور في المواجهة الحالية مع واشنطن ــ حتى ولو مؤقتا ــ بعد ان اصبحت الغلبة للجناح المعتدل ..