تعيش البشرية اليوم ، في خضم صراع يتعاظم يوما بعد يوم ، بين الولايات المتحدة الامريكية ومحورها من جهة ، والصين ومحورها من جهة ثانية.
إن هذا الصراع إتخذ أشكالا مختلفة ، أهمها الصراع التجاري والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي ، فضلا عن سباق التسلّح ، وتطوير الأسلحة الفتاكة من اجل حماية المصالح الاقتصادية لكل من محورين …
وعندما نتابع هذا الصراع القائم بينهما ، نجده صراعا من أجل الهيمنة على قيادة العالم وإخضاعه لشروط هذا النظام أم ذاك .. فهو إذن صراع من اجل الانفراد على قيادة العالم ، ووفق منهجية المحور المنتصر ، ويتصدر المشهد العالمي ، وكلا المحورين في نهاية الامر ، متفقان على نفس النتيجة ، وهي الهيمنة والاستحواذ على الثروات واستعباد البشرية ، ومن خلال اتباع سياسة الدكتاتورية الناعمة وإخضاع العالم الى سياساتهم وتنفيذ أوامرهم ، وتصبح البشرية عبيد لدى المحور المنتصر ، سواء كانت امريكا ومحورها ( الرأسمالية العالمية ) أم الصين ومحورها ( الدكتاتورية الناعمة)
أصبح الاقتصاد هو المحرك الأساس لتغيير موازين القوى بين الصين وأمريكا ،
ولذلك ركز كل منهما على الجانب الاقتصادي ، هذا اذا علمنا أن امريكا تمتلك قوة اقتصادية هائلة ويعتبر اقتصادها من أقوى الاقتصاديات في العالم. ..
لذا ادركت الصين هذا الجانب ، وبدأت تعمل وبمثابرة كبيرة جدا ، بحيث انجزت خلال العقدين الماضيين معجزة اقتصادية ، وسجلت اعلى نمو اقتصادي في العالم. . فيما عانى الاقتصاد الامريكي
من أزمة حادة خلال عام ٢٠٠٨ والتي لازالت آثارها حتى الان ..
ورغم ذلك ان امريكا تبذل جهدا كبيرا للإبقاء على هيمنتها على الاقتصاد العالمي .. فخلال الثلاث عقود المنصرمة تمكنت الصين من من مضاعفة الناتج المحلي الاجمالي بمقدار (١٤) ضعفا
أي من ( ٨٢٨ مليار دولار الى ١١،٥٣٧ ترليون دولار ) في حين تضاعف اقتصاد امريكا مرة واحدة خلال الفترة ذاتها (من ٩ ترليون الى ١٨،٣ ترليون دولار ) .. واذا استمر الحال على ما هو عليه ، فإن الصين في غضون الثلاثين سنة القادمة ستتفوق على الاولويات المتحدة الامريكية وفِي المجالات كافة. ومن الممكن ان تكون هي قائدة المنظومة العالمية.
هذا اذا علمنا ان الصين بدأت تنافس البضائع الامريكية ، وقامت بتشكيل علاقات تجارية واقتصادية مع دول العالم كافة ، وأصبحت تشكل عائقا امام امريكا ، بسبب قدرتها التنافسية ، ويعود ذلك كوّن تكاليف الانتاج ، وبالأخص قوة العمل الصينية رخيصة ومتوفرة اضافة الى عوامل اخرى. كما ان الصين انشأت البنك الآسيوي للاستثمار والذي بلغ عدد أعضائه (١٠٢) دولة ، ويقوم بإقراض الدول النامية مما يشكل منافسة لدور البنك الدولي وصندوق النقد ..
إذن هذه الحرب الاقتصادية والعلمية ، تمثل العامل الحاسم الذي يحدد مصير هذا الصراع ..!!
هذا اذا علمنا ان الاقتصاد الامريكي يعاني من تطور في الدين العام ، حيث بلغت مجمل الديون الاتحادية في عام ٢٠٠٩ما مقداره (١٠،٦ ترليون دولار ) وتشير أحدث الإحصائيات والبيانات ، بان الدين العام اصبح الان اكثر من (١٩ ترليون دولار ) ، وان مكتب الميزانية في الكونكرس الامريكي يتوقع نمو الدين العام ليصل الى (٢٢،٦ترليون دولار ) بحلول عام ٢٠٢٠
وسيصل الى (٣٠ترليون دولار ) عام ٢٠٢٦
وهذا سيشكل ما نسبته (١٢٠) بالمئة من حجم الناتج المحلي الاجمالي الامريكي
وان هذه الحالة العكسية بمؤشر الديون السيادية بالمقارنةمع الناتج المحلي الاجمالي يؤشر عن عجزالدولة في تحقيق النمو ، وتوفير فرص عمل ، وتحقيق مستويات معقولة من الدخل لمواطنيه ، والقضاء على البطالة ، مما يجعل الوضع الاقتصادي للبلد في خطر الانهيار …
ان هذه الأزمات الملازمة لاقتصاديات الدول الرأسمالية وعلى وجه الخصوص امريكا ، تعمق من الأزمات الاجتماعية ومعانات الشعوب ، وما يحدث الان في امريكا ما هو الا انعكاس واضح لهذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ، والتي تراكمت منذ زمن طويل ، واليوم وجدت لها المتنفس كي تنفجر ، وان الذي يحدث هو وليد طبيعي لتلك الأزمات ، وسوف لن تنتهي وستستمر حتى تحقيق اهدافها ..
كوّن الشعوب بالاخير هي التي تقرر مصيرها …
الصين هي الاخرى تعاني من أزمات اقتصادية -اجتماعية كثيرة ، والاهم من كل ذلك ، فهي تعاني من غياب الديمقراطية ، ومن التضخم ، ومن الصراع الطبقي الذي بدأ يتجذر ، وانحسار رأس المال بيد السلطة ، وظهور طبقة ثرية تمتلك هي الاخرى على راس المال ، امام طبقة واسعة جدا فقيرة لا تمتلك سوى قوة عملها فقط ، حيث لازال متوسط دخل الفرد في الصين لا يتجاوز ال (٥) الف دولار ، وهي نسبة قليلة مقارنة بالكثير من دول العالم ، رغم التطور الذي حصل على مستوى الدخل في السنوات الاخيرة. ..
كما أكدت الكثير من الدراسات ان اغلب مليونيرات العالم هم من امريكا والصين ، حيث يعيش ثلثا اصحاب الملايين في امريكا وتليها الصين التي يعيش فيها(١،٣) مليون مليونير ، ثم اليابان (١،١) مليون مليونير ثم سويسرا ( ٠،٥) مليون مليونير ، ولأول مرة تتفوق الصين على امريكا في عدد الأغنياء ، وذلك حسب دراسة أعدها ( بنك كريدي سويس) ، وأظهرت الدراسة ان (١٠٠) مليون صيني مدرجون في قائمة العشرة بالمائة الأغنى على مستوى العالم منذ منتصف هذا العام مقابل (٩٩) مليون مليونير أمريكي …
حدث كل ذلك في البلد الشيوعي الصيني ، بسبب سياسة الانفتاح واعتماد مرحلة جديدة في السياسة الاقتصادية ، وذلك منذ عام ١٩٩٣ ، وهي مرحلة اقتصاد السوق الاشتراكي والتي كانت تهدف الى اعادة هيكلة الاقتصاد الصيني ، وهذا ما أقرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ، حيث يقول منظر هذه السياسة ( السيد دنغ شياو بينغ ) ( يجوز تطبيق اقتصاد السوق في الظروف الاشتراكية )… والهدف من الانفتاح هو الحصول على التكنولوجيا، واستقدام الاستثمارات الأجنبية ، واستخدام سياسة الانفتاح المنضبط..
مما أدى الى ظهور طبقات راسمالية في الصين ، وعمق من الصراع الطبقي داخل المجتمع ، فضلا عن تغلغل الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد الصيني ، وان هذه السياسة أدت فعلا الى تعزيز القوة الاقتصادية للصين ، بحيث أصبحت تشكل تهديدا مهما وجديا على هيمنة امريكا على العالم…
هذا مما حدى بالرئيس الامريكي ترمب
ان يتبع سياسة اكثر تشددا اتجاه الصين .. من خلال اتخاذ إجراءات اقتصادية متنوعة ، كفرض التعريفات الكمركية على الضائع الصينية ، ومقاطعة بعضها ، وتطويق التحرك التجاري والسياسي للصين ، وكذلك التكنولوجي ، من خلال منع تبني التقنيات الصينية ، مثل تقنية ال ( 5G Hawei) ، من قبل امريكا وحلفائها ، والعمل على اعاقة الاستثمارات الصينية في امريكا .. وغيرها من الإجراءات التي تعرقل وتحد من الخطر الاقتصادي الصيني …
ان هذا الصراع الطويل الامد بين القطبين
قد يفضي بالنهاية الى صدام عسكري لا يحمد عقباه ، ليتشكل على اثره نظاما دوليا جديدا ، يتصدره احد قطبي الصراع
ويتوجب علينا ان ندرك ان اي من القطبين لم يأتِ من اجل خدمة البشرية ، وإنما من اجل الهيمنة والتحكم بمقدرات العالم. ..
إن النظام الصيني والذي يمثل نظاما شموليا ، ويمر بمرحلة راسمالية الدولة ، ويمارس الاستبداد والقمع لمن يخالفه ، ويتصف بممارسة المركزية الشديدة والقريبة الى الدكتاتورية ، ويتجاوز على حقوق الانسان ويكبت الحريات ويستغل قوة العمل ابشع استغلال ، تماما كما تفعل المنظومة الرأسمالية ، فهمًا وجهان لعملة واحدة ، وبالنتيجة أهدافهم واحدة
هي الهيمنة على العالم والسيطرة على موارده ومقدراته واستعباد شعوبه … وذلك من اجل خلق نظام حكم عالمي استبدادي عسكري تديره نخبة قليلة تملك السلطة المطلقة وتسن القوانين وتستخدم التكنولوجيا من اجل السيطرةالكاملة على كل فرد يعيش في هذا العالم. ويكون من مهام العسكر هو حماية المجموعة المسيطرة على راس المال… وهذا ما تسعى اليه الولايات المتحدة الامريكية وكذلك الصين . والصين اليوم تلعب دورا محوريا من خلال التطور الذي حصل على وسائل الاتصال وصولا الى ال (5G) ، بحيث اصبح بإمكان الصين متابعة اي شخص ، أين يذهب ، ومعرفة مكان تواجده ، وتفاصيل شكله ، وتحديد علاقاته مع الآخرين ، ومعرفة كل شيء عن حياته ، إن التكنولوجيا في الصين قد تطورت بالشكل الذي يمكنها من وضع ملايين من الكاميرات التي تراقب كل شخص وكل حركة من حركاته ومعرفة كل شيء عنه ، اي يتمكنوا من متابعتك ومعرفة شخصيتك ، وهل انت معهم ام ضدهم ، ومن خلال ذلك يتمكنوا من التحكم بتصرفات الملايين من البشر …
إن الصين تحاول ربح الحرب مع الغرب الراسمالي بقيادة امريكا .. إن النموذج الصيني يسعى لفرض الحكم الاستبدادي ، حتى تتمكن من جمع بيانات تفصيلية عن كل فرد في المجتمع ، وكذلك هي أهداف المنظومة الرأسمالية بقيادة امريكا ..
كما جاء بكتابي الموسوم ( العولمة الامريكية واحتلال العراق ) في الصفحة (٢٣٧) ما نصه ( وعليه اصبح الصراع القائم حاليا هو عبارة عن صراع فكري كوني بالدرجة الأساس ، وأخذ أشكالا متعددة ، اقتصادية منها واجتماعية وسياسية وثقافية ، وسيفضي هذا الصراع بالتأكيد الى إيجاد نظام دولي جديد ، ينبني على أنقاض النظام الحالي العتيق الذي هو نتاج مخلفات الحرب العالمية الثانية ، وسيخلق نظام متعدد الأقطاب تكون فيه دكتاتورية الشعوب هي التي تتحكم بالعالم وليس دكتاتورية راس المال ) …
هذا اذا علمنا ان وباء كورونا عمل على ان أغنياء العالم ما قبل كورونا زادوا من قوتهم وقدرتهم على حفظ نفوذهم ، ونجحوا في تعظيم اموالهم في فترة كورونا الى اكثر من (١٠) ترليون دولار
بينما ملايين من البشر وفِي ارجاء العالم فقدوا مكان عملهم ، وارتفعت نسبة البطالة وزاد الفقر والجوع والحرمان ، وهذا من شأنه ان يبعث على الغضب الجماهيري والسياسي .. فعندما يثور المواطن محتجا على احواله المعيشية والاقتصادية المتردية ، وغاضبا على الغلاء والفساد والبطالة والجوع ، ويخرج الى الشارع رافضا سياسة الأفقار والتجويع والالهاء .. اكيدستثور الشعوب بقوة اكبر ..
لكن الثورة يلزمها عقل مدبر ، وتكاتف وعمل جماعي منظم ، وقيادة حكيمة تقود الثورة ، هذه العوامل من شأنها دفع الجماهير الى ما يصبون اليه ، وكفيلة بان تحصل الشعوب على اهدافها المرجوة ..
لقد سئمت شعوب العالم من هذا الوضع المزري الذي تعيشه ، وهي في وسط مأساة حقيقية ، حيث الجوع والمرض والحرمان والفقر والبطالة واستغلال الانسان لاخيه الانسان ، وتعميق الصراع الطبقي داخل الصين وداخل المنظومة الرأسمالية ، والصراع الطبقي بين دول الشمال ودول الجنوب ، والقتل والتهميش وسلب الحريات والاضطهاد وسلب الحقوق الى آخره ….. كلها وصلت الى اقصاها .. مما ستفضي في يوم من الأيام الى ثورة عارمة ، ثورة الشعوب وفِي جميع أنحاء العالم ، وان دكتاتورية الشعوب هي التي ستحل محل دكتاتورية راس المال … فالشعوب هي التي تقرر في النهاية مصيرها …