قرأت موضوعا في موقع “العراق العربي”، لصحفي سعودي هو الدكتور علي القحيص، رأيت من الإنصاف لي ولمئات الصحفيين العراقيين الثابتة بوصلتهم على الرغم من الأثمان الباهظة التي دفعوها نتيجة ثباتهم على طريق ذات الشوكة، وسط هذا المحيط المتلاطم الأمواج ذي الظلمات بعضها فوق بعض، والذين يعضون على مبادئهم بأسنان تضافرت عليها الجهات الأربع لتقتلعها من أفواههم، ولست أدري فيما إذا كان الدكتور القحيص قد نشر مقاله في صحيفة أو موقع آخر أم لا؟ وفيما إذا كان شامتا أم متعاطفا؟ وبعد قراءة المقال أريد أن أشكر موقع العراق العربي الذي نشر الموضوع أو أعاد نشره من دون أن أعرف ما إذا كانت سياسة التحرير في موقع العراق العربي تتبنى الأفكار الواردة في مقال الدكتور القحيص أم لا؟ ولكن نشر الموضوع أتاح لي ولغيري من الصحفيين العراقيين معرفة آراء الزملاء العرب بهم وبمواقفهم وخاصة ما يتعلق منها بنكث عهد بعضهم مع ماضيهم والتحول المفاجئ إلى مدارات أخرى، لفتت نظر الدكتور القحيص كما لفتت نظر غيره من الكتاب العرب، فعالجوها بأقلام تنشر حبرها على ورق صقيل أو على أجهزة حاسوب حديثة وأنيقة، وما دروا أن كثيرا من الكتاب والصحفيين والإعلاميين العراقيين الثابتين على موقفهم “كي لا أقول على مواقفهم” ينزفون دما غزيرا من أجل ألا تنزف أقلامهم نفاقا ورياءً لإرضاء حثالة من حكام الصدفة الضالة، ولكنني هنا لا بد لي أن أقول، إن الخيانة ليست نبتة عراقية بل هي نبتة تصلح للنمو في خط الاستواء والمناطق المتجمدة بنفس قوة النمو وتسقى بماء واحد، صحيح هذا لا يمكن أن ينزع عن أكتاف العراقيين بعض الشعور بالإحباط مما عاشوه من غدر الغادرين من حَمَلّة جنسية بلدهم، ولكن العشم بالعراقيين كان بحجم العشم بأصالتهم وبسرعتهم في تلبية نداءات الاستغاثة لكل مستغيث عربي، حتى قبل أن يسألوا عن تداعيات تلك الاستجابة على وطنهم، وهذا ما ندفعه اليوم من ضرائب بسبب وقفاتنا مع الاشقّاء في كل ساحة عربية، وليس عيبا أن يغدر الغادرون وليس عيبا أن تظهر عورات مخزية تحت شعارات مزيفة، فالردة حصلت بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، أم أن الدكتور القحيص نسي أن مسيلمة وسجاح أعلنا ردتهما على الإسلام في اليمامة جنوب نجد؟ أظنه يعلم جيدا أن النوايا لا يمكن أن تظهر إلا بعد تغيّر الأحوال والظروف، فيظهر الناس عرايا كيوم القيامة.
أردت أن أضع عددا من النقاط أمام الدكتور القحيص
1 – إنه لا يستطيع أن يصنف كل ما يقرأ على أنه غياب للبوصلة أو عودة الوعي كما فعل توفيق الحكيم بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، ثم هناك ما هو أدهى عندما أدان بعضهم إقامة السد العالي واعتبر ذلك من خطايا عبد الناصر، وفي العراق كما في غيره هناك كم من محترفي الصحافة، ممن أغراهم الدولار قبل احتلال العراق عام 2003، فناصبوا البعث والرئيس الشهيد صدام حسين العداء لأسباب لا مجال لذكرها في مقالة قصيرة، ولكن بعضهم وبعد أن جرّب حثالة الحكم الأمريكي الإيراني، وهبوط مكانة العراق إلى الحضيض، استرد المخبوء من وعيه فأدان ما فعله ضد وطنه وضد نظام حكم البعث، فطفق في كتابة موضوعات يكّفر فيها عن خطاياه وما ارتكبت يداه من آثام، وعقله من انحراف، وهناك من فعل عكس ذلك وهم المجموعة التي نخجل أنها تحمل الجنسية العراقية التي لم نفقد إيماننا بشرف الانتماء إليها.
2 – هناك صحفيون لم يقتربوا من صدام حسين كثيرا خلال فترة حكم البعث الممتدة من عام 1968 وحتى 2003 ولكن عراقيتهم ظلت متقدة عالية النبرة، ولم ولن تقرأ لهم إلا ما يُسّر، وهناك أسماء أخرى ممن كان قريبا من الرئيس الشهيد، ولكنه لم يتبرأ من ذلك الاقتراب ولم يتنكر له على الرغم من أن كثيرا من هؤلاء دفعوا أثمانا باهظة لأنهم حافظوا على شرف الكلمة والعهد والولاء للوطن والقائد، غربة وتهجيرا وتعسفا في الإجراءات الأمنية والحرمان من حق المواطنة بكل ما تحمله هذه الصفة من حقوق دستورية قد لا يشعر بوطأتها إلا من فقدها.
3 – جوقة المدّاحين والمداهنين والمنافقين الذين أنزل الله فيهم سورة كاملة وجعلهم في الدرك الأسفل من النار، هم الذين عاشوا في كل العصور، وحتى في عصر الأنبياء، أما قرأت قصة بني إسرائيل فبمجرد أن جاوزوا البحر حصلت منهم الواقعة التالية، “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ”، لهذا كله كنت آمل أن تكون الصورة أفضل من الصورة السوداوية التي حاول الكاتب إلصاقها بالصحفيين العراقيين وكنت آمل منه تصورا أكثر إنصافا مما حمله مقاله.
الموضوع الذي كتبه الدكتور القحيص مهم من زاوية أنه ينبهنا إلى أن ما يعيش بيننا من سرطانات لا تظهر إلا بعد أن يستفحل أمرها هكذا هم الذين تحدث عنهم الكاتب وليس سواهم، أريد أن أشكر موقع العراق العربي مرة أخرى على نشره للموضوع، فتلك لعمري واحدة من واجباته، أي وضع الصحفيين والإعلاميين العراقيين عموما في صورة ما يكتب عنهم وعن وطنهم المنحور على مذبح معارك الأمة العربية فيكاد يبادر لتقديم النجدة قبل أن يطلقها متأوه عربي ولا يسأل عن دوافعها ودواعيها، المهم أنه يسارع ولا يلوي على شيء في هبة يعربية قبل أن تستفحل أسباب الشكوى فيصبح العلاج متعسرا أو مستحيلا.
1٬048