إختتم عام 2018 في العراق عرضه البائس في السياسة بزيارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب الى قاعدة ( عين الاسد ) بصحبة زوجته في سابقة هي الأولى من نوعها ، منذ أن بدأ الروؤساء الامريكيين هذا التقليد بعد أحداث سبتمبر – أيلول بزيارة المناطق التي تتواجد فيها قوات أمريكية على أرضها للقاء الجنود وتهنئتهم بمناسبة أعياد الميلاد وتقديم الشكر لهم على (تضحياتهم) ، وأثارت إنتقادات من أمريكيين إذ لم يسبق لرئيس أن صحب زوجته في مثل هذه الزيارة ..
وكانت الزيارة مفاجئة للعراقيين ولغيرهم بما في ذلك أمريكيون ، ودخلت مباشرة في حراك السياسة والاعلام في العراق بالرفض لها والشجب والاستنكار ، وعادت بنا الى تلك البدايات الغريبة عام 2003 .. ولكن هناك نقطتين تثيران الاهتمام من بين نقاط اخرى كثيرة كانت القاسم المشترك في ردود الفعل السياسية والاعلامية وتستحق التعليق ..
الأولى .. موضوع السيادة ، وإختراق الزيارة لها ..
فاذا كان هذا السلوك غريبا في السياسة الدولية ، لكنه طبيعي بالنسبة لأمريكا، ويعود بالذاكرة الى البداية التي دخلت بها الى العراق غازية محتلة ، وربما غابت عن البعض .. فهل إحترمت أمريكا هذا المبدأ الدولي عام 2003 عندما احتلت العراق خارج اطار الشرعية الدولية ، وباعذار واهية لكي (تحترمه) اليوم ، وبالذات في ولاية رئيس مثل ترامب المثير للجدل ..؟.. وهل قدم أحد من الرؤساء بعد بوش الاعتذار للعراق عن هذا الفعل الخطير ، بعد أن ثبت بطلانها سواء في موضوعة الاسلحة المحرمة أو الديمقراطية أو دعم الارهاب ..؟. وهل تحرك ضمير أحدهم من كلا الحزبين ، لكي يساهم في إصلاح تلك النتائج الكارثية التي حرمت المواطن العراقي من أبسط حقوق الانسان التي تتشدق بها أمريكا مثل الماء الصالح للشرب والكهرباء والصحة أم كان العكس وكأننا عدنا الى العصور الوسطى التي وعد بها بيكر العراق قبل الاحتلال …..
فبدلا من تعويض العراق عن تلك الخسائر الباهضة ، بسبب الاحتلال وقبله الحصار ، يطالب الرئيس ترامب بتعويضات لأمريكا عن خسائر بلاده التي تقدر بالترليونات جراء غزو العراق ، مما جعل مستشار الامن القومي السابق (ماكماستر) يوبخه على ذلك ، لان (الحديث بهذه الطريقة يسيء الى سمعة أمريكا وسيروع الحلفاء ويخيف الجميع ، ويجعلنا نبدو كالمجرمين واللصوص) على حد تعبيره .. أو هو (فكرة شاذة غير قابلة للتطبيق وانتهاك للقانون الدولي) على حد رأي شخصيات بارزة في الأمن القومي من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهور ، لكنها في نظر ترامب طبيعية ، ولا تشكل مفاجاة ، اذا ما عدنا الى حملته الانتخابية وبرنامجه الانتخابي (أمريكا أولا) ، و يتصرف بعقلية رجل الاعمال .. كل شيء لديه مقابل ثمن ، وليس بالمجان ، أو لوجه الله ، فليس في السياسة ملائكة تسير على الارض لكي يكون ترامب منهم ..
وكانت تصريحات ترامب في الزيارة التي استغرقت ثلاث ساعات واضحة ، ولا تحتاج الى تحليل مضمون من متخصص أو خبير ، لكي نعرف معناها ، فهي تعود بنا الى تلك البداية السيئة ، وتؤكد بأنهم جاءوا ليبقوا ، وعيونهم على النفط ، وليس من مهمتهم تغيير الانظمة فقط بتلك الذرائع ، ومن كان يعتقد غير ذلك لا يصلح أن يسمى سياسيا ، ولا يفهم السياسة الدولية التي تقوم على المصالح ، وامريكا ليست استثناء منها ..
قالها ترامب صراحة ، أن (الولايات المتحدة ستبقى في العراق .. ويمكننا استخدام العراق كقاعدة اذا اردنا القيام بشيء في سوريا ..) فاين السيادة ..؟.. وهل أخذ موافقة العراق قبل هذا التصريح بالذات ، أم هو قرار إتخذه بمفرده أولا دون الرجوع للمعنيين .. سؤال يتطلب النفي أو الاثبات ، وتوضيحا أيضا فيما إذا كانت هناك حاجة عراقية الى وجود هذه القوات ، أم هي حاجة من جانب واحد ، وتتعلق بالمشروع الامريكي في المنطقة .. ؟..
إذا كانت أمريكا في عهد بوش قد غطت أهدافها الحقيقة باحتلال العراق في السيطرة على المنطقة وثرواتها بنوايا (مثالية) كحقوق الانسان والحرية والديمقراطية ، لكن ترامب قالها بالمباشرودون لف أو دوران (سنبقى) ..
والنقطة الثانية وهي مترابطة مع الاولى .. إسلوب التندر والاستهزاء من حالة الذعر والقلق التي تملكت ترامب – وهو رئيس الدولة (الاعظم) – في الزيارة والقلق الذي ساوره على مؤسسة الرئاسة والسيدة الاولى، وليس على نفسه من هذه الزيارة ، واللحظات التي عاشها في الظلمة الحالكة في الطائرة بنوافذ مغلقة ، وبدون ضوء ، وهذا الخوف عكس حالة أمريكا التي ظهرت على حقيقتها ، فارغة ولا تستحق تلك الهالة والاعتبار لها على حد ما جاء في ردود الفعل على تلك الزيارة .
صحيح أن تصريح ترامب وهلعه في ظاهره يدعو الى الاستخاف والسخرية ولكن في جوهره كم يفيده أيضا في تبرير إعلانه بقاء قواته في العراق ، مما يجعل البعض يتساءل هل (وظفه) بشطارة يحسد عليها في محاولة لتجسيد صورة الوضع الخطير في المنطقة ، وبضمنها العراق لتبرير تواجد قواته ، وتسويق تصريحه ، وحاول أن يعكس ذلك لنا وللعالم بمشهد إخراجي مثير ، ربما إنطلى على البعض ، ومنهم امريكيون ، وهو أن رئيس (الدولة الاعظم) ظهر بهذا المستوى من الخوف رغم الحماية الامنية المشددة على الارض والجو والعدد والعدة فما بالك بالانسان العادي ..؟ ربما يريد أن يوصل رسالة بان المنطقة ساخنة وخطيرة ، ومبرر وجـودنا ينطلق من واجــبنا بأن نبقى هنا لحمايتها من خطر الارهاب الذي لا يزال قائما .. واذا ما انتفت الحاجة الينا في سوريا بعد زوال خطر داعش هناك فواجـــبنا ضـــد الارهاب لا يزال مستمرا ..
فهل مثل هذا الرجل (مخبول) أو (زير نساء) أو (متهور) أو (أحمق) ، كما صوره البعض اثناء حملته الانتخابية وبعدها أم كان يحسب خطواته بدقة ويسيطر على تصرفاته ..؟.. وهل كان فوزه مفاجأة لمن يعرف السياسة الامريكية ، عندما جاء من خارج النخبة السياسية ، وهو بهذه الصفات أم يجسد مصلحة أمريكا ، بدون تلك (المبادىء) التي كانت ترفعها ، وتوفر لها عذرا للتدخل في العالم مثل الحرية وحقوق الانسان ، وترى فيه رجل المرحلة ، التي يبدو أنها تتسم بالصراع على مراكز النفوذ وعودة الحرب الباردة بصيغة جديدة ، بعد أن دخلت روسيا على الارض من خلال تواجدها العسكري في سوريا و تنامي علاقاتها مع دول المنطقة ، وبالذات مع دول مؤثرة فيها .. ولذلك سارعت امريكا الى الانسحاب من سوريا ، وتحاول تعزيز تواجدها في العراق ليضمن لها التفوق ..؟..
قلت في مقال سابق بعنوان (أمريكا تعرف أين تضع صوتها) بعد فوز ترامب وقاله غيري واكرره مرة أخرى أنه إذا كان هناك من يرى في ترامب (مجنونا) ، فإن أمريكا ليست مجنونه ، وتعرف أين تضع صوتها ، وبيد من تسلم مفتاح مستقبلها ، وتحقيق حلمها أن تكون الاقوى … خاصة بعد أن جربت (حلاوة) غرور القوة ، وربما رأت أن ترامب هو الانسب لاستلام هذا المنصب في هذه المرحلة لتحقيق مشروعها في المنطقة … فهي لم تنتخبه لرئاسة مجلس ادارة شركة مقاولات ، بل لرئاسة دولة عظمى ، وسيكون بيده الزر النووي ولا يمكن لرئيس بمواصفات إولئك البعض أن يسلم هذا المفتاح ، لانه يحتاج الى يد قوية ، وليست ضعيفة ..
فهل لهذه الزيارة علاقة بمراكز القوى ، وتثبيت مراكز النفوذ ..؟
ذلك ما تجيب عليه الايام سواء بالنفي أو الاثبات …
وفي كل الاحوال لم يكن أمام العراقيين غير رفض تلك الزيارة ( اللصوصية ) على حد من وصفها بذلك الوصف ، ورفض أي تواجد أجنبي على أرضهم تحت اي ذريعة … ولا يمكن أن نلدغ من الجحر نفسه مرتين ..
{ { { {
كلام مفيد :
الوفاء بالعهد من شيم العرب الأصيلة حتى مع العدو…
ومن نماذج هذا الوفاء ما روي عن الحارث إبن عباد الذي كان في حرب وأراد أن يظفر بعدي إبن أبي ربيعة ليثأر منه .. وبينما هو في الحرب أسر رجلا فطلب منه أن يدله على عدي بن إبي ربيعة .. فقال له الأسير : أتطلقني من أسري إن دللتك عليه ؟
قال : نعم ..
فقال أنا عدي بن أبي ربيعة ..
فأطلقه وفاء بعهده …