لا يحتاج الشارع من المعنيين بأمره الى جهد إستخباري ، ولا عيون سرية ، ولا مستشار بأي مستوى ، أو من يلفت النظر اليه ، ويدق ناقوس الخطر لديه ، أو إنتظار رأي (سالكيه) لتعرف حاله ، وما فيه من أمور يشكو منها ، ويضج بها وتستوجب التغيير ، لأنه مفتوح أمام الجميع بشرط أن يرفع من بيده أمر تغييره هذا التظليل – المانع للسمع ، و( الحاجب للرؤية ) – عن زجاج سيارته ، ويرى بالمباشر حال الشارع البائسة ، وينزل اليه.. يتجول فيه .. ويعيش بين أهله ، ويتعرف على أدق تفاصيل عنه ، ويعرف المعاناة التي لم يلتفت اليها أحد ، لكي يتخذ قرارتغييرها نحو الافضل ويزيل عبئها عنه..
* الشارع مدرسة مفتــــــوحة يتعــــــلم منها الجميع ، كل حسب مستواه ومسؤوليته ..
*الشارع يعطي لمن يريد أن يتعلم درسا تطبيقا عمليا لذلك التنوع في هذه الفسيفساء الجملية في إطار وطني شامل تحت خيمة الوطن الواسعة.. درس نتعلم منه كيف نعزز هذه الوحدة ..
* الشارع لوحة جميلة تنمي الذوق ، وتنعش الروح ، تعكس الوان الطيف الشعبي الأصيل .. تجد فيه كل طبقات المجتمع وشرائحه ومكوناته ، ومستوياته الثقافية والاجتماعية ..
* الشارع كالوحدة العسكرية ، تأخذ عنوانها من آمرها الذي يبرهن على عبقريته وقوته واستحقاقه لمنصبه في أداء الجندي ومظهره.. العلاقة بين الاثنين تبادلية .. مهمة الاول تطوير الثاني ، وواجبه أن يصل به الى مستوى من الكفاءة تتيح له تسديد الضربة الى الهدف – العدو بمهارة عالية في كل الظروف والاحوال ..
تستطيع أن تعرف مستوى الاول في فن القيادة من التزام وانضباط الثاني وكفاءته في أداء واجبه القتالي .. تفاعل الاثنين يعطي النتائج المطلوبة.. فالعلاقة بين الأمر والجندي مثل المعادلة الكيمياوية .. العلاقة بين ذرات الهيدروجين والاوكسجين مثلا ينتج عنها مادة إسمها الماء ، وأي تغيير في المعادلة لا يعطي المادة نفسها ، وربما يأخذ شكل مادة اخرى مختلفة..
وهكذا هي أيضا علاقة المسؤول بالشارع .. إختصاصة العام هو الشارع ، أي فهم المجتمع وحاجاته وتطلعاته ومشاكله .. ومهارته تكمن في توظيف إختصاصه الخاص لخدمة الاختصاص العام .. ومهمته أن يستجيب لحاجة الشارع ، ويعرف ما يريد منه، والإمور التي يعاني منها لكي يظهر بالشكل الجميل ..
النظافة صنو النظام
رئيس وزراء دولة عربية وضعها المادي ليس بأحسن من حالنا زار دولة أجنبية أخرى ، وبدون الدخول في التفاصيل ، لكي لا يكون إعلانا لها ، ودعاية له أذهب مباشرة الى مضمون الخبر، وما لفت انتباهي فيه هو (القمامة) التي تشوه وجه الشارع ، والنظافة وهي سر الجمال ، وتعكس مستوى النظام ، وهيبة الشارع ،ومدى إحترامه وعدم الاعتداء على حرمته لكي يحافظ على جماله ..
هذا الرئيس الضيف وجه المعنيين في بلاده بدراسة تجربة تلك الدولة المضيفة في مجال التخلص من القمامة التي تعد في بلاده مشكلة ينبغي التخلص منها ، بعد ما رأى ما بهره من النظافة ، والاستفادة من خبرة الدولة المضيفة فيها ، ليس في التخلص منها فقط ، وإنما في تدويرها ، وليس جمعها لتكون جبالا، ومعالم للمدن كما حال بلادنا مع هذه المشكلة الكبيرة ..
وهذه هي مسؤولية الدولة والقائمين عليها تبدأ من رفع القمامة والنظافة في الشارع ، وتتدرج صعودا الى مهمة السيادة والدفاع التي تتطلب تضحيات جسيمة تصل الى حد الاستشهاد …
وأنا اطالع الخبر مرت في ذهني صور شوارعنا وأحيائنا وتكدس النفايات والاوساخ فيها ، وغرقها بالمياه في موسم الامطار والسيول ، وحالها في الصيف ، وتمنيت أن يراجع كل مسؤول تعهداته في بداية تسلمه المسؤولية ، وكم حقق منها … فكم حققت أمينة بغداد مثلا من تعهدها للبغداديين عند تسلمها المسؤولية بان تكون بغدادهم نظيفة ، وبحلة جديدة تغاير ما آل اليه وضعها ، ذلك التعهد الذي بعث حالة من التفاؤل في النفوس دفعتني الى أن أكتب مقالا نشر في الزمان بتاريخ 22 شباط عنه 2015بعنوان ( النظافة : مهمة وطنية وقيمة حضارية) ، فهي لم تذهب في الاحلام بعيدا ، بسبب الموازنة (المتقشفة) في حينه ، بل ذهبت الى (الممتنع) عند غيرها ، وربما (السهل عليها) ، وفي حدود الممكن لمن يتطلع الى ما يريده منها ، وهو في متناول اليد ماديا وفنيا، وليس بالعمل المعجز ، ولا يحتاج الى تكنلوجيا متطورة ، وخبرات أجنبية ، وعمالة مستوردة ، بل تحتاج الى عامل نظافة ، ومشرف ميداني ، ومتابعة من أعلى المستويات للعملية ، وتماس مباشر بالشوارع والازقة ، والاحياء ، وتطبيق النظام ، والقانون ، ومساحات خضراء من إنتاج مشاتل العاصمة ، وهي أمور بسيطة في مقدور أي مسؤول بلدي أن يقوم بها في منطقته ..
ليس الأمر بذلك التعقيد و تجارب الشعوب الفقيرة النظيفة تؤكد ذلك ..فهذه رواندا على سبيل المثال بلد فقير في أفريقيا ، لكن نظافة شوارعها أول شيء يجلب الانتباه فيها ، حيث يستمر عمل النظافة على مدار اليوم ، وهناك غرامات تفرض على من يلقي القمامة في الشوارع ، وللشرطة سلطة ضبط من يخالف .. فالنظافة فيها تعد ثقافة وعادة..
ولكن هل تغيرت صورة بغداد على مدى تعاقب الحكومات وظهرت بحلة نظيفة ، وهل ظهر وجهها الجميل بعد أن توارى وراء صخب الفوضى ، والتجاوز على شوارعها ، وأصبحت تلال النفايات والانقاض والاوساخ من المعالم (الطبيعية) والمشاهد المألوفة لمناطقها ، ومداخلها من جهاتها الاربع ، والتي تعد عنوانا لها ..؟
* الواقع يجيب …
صور كثيرة مؤلمة عن حال بغداد تصادفك على الطريق .. ومن تلك الصور التي تبعث على الأسى أن تتحول واجهة إحدى المؤسسات الحكومية في شارع 84 في حي العامل ببغداد على سبيل المثال الى مكب للنفايات ، فيما تحولت الجزرة الوســطية للشارع الى مكان لرمي القـــمامة ، التي امتـــــــدت الى وسط الشـــــارع ، وتتملك من يشاهدها العجب لهذا التشويه لجمالية الشارع .
المسؤول – أي مسؤول في الدنيا ، ليس عابر سبيل في الشارع .. بل ينبغي أن يكون في تواصل دائم معه ، فمكتب المحافظ المفتوح مثلا هو الشارع ، يمارس من خلاله واجبا قياديا وطنيا يتمثل في معرفة نبضه ، وقياس مدى صحته وسقمه ..لكي يصف له العلاج المناسب للشفاء ليمارس بعدها حياته بصورة طبيعية ..
والشارع في العالم هو إستطلاع دائم على الهواء للحالة السياسية في أي بلاد في الدنيا ، وكتاب مفتوح مكتوب بكل اللغات ، ليس بحاجة الى مترجم ، وهو فولد اعلامي يشمل البلاد كلها ، يجده الزائر أمامه أينما حل فيها ، ويعكس حالها بدقة عالية …
الشارع يعكس مستوى البلاد
والزائر يعرف مستوى البلاد من شارعها .. منه يعرف قوتها الاقتصادية ، وإنتاجها من خلال المعروض من البضائع الوطنية ، ومنه يعرف مستوى تعليمها وثقافتها وصحتها ومكوناتها واسواقها، ويعرف نسبة الفقر والبطالة ، ودور شبابها ، ويعرف هيبة الدولة من درجة تطبيق القانون .. من نظافته ، وقوة النظام والالتزام فيه ، ومن شرطي المرور الذي يعد ( ممثل الدولة ) في الشارع …
وهكذا صعودا في سلم المسؤولية السياسية والادارية .. ولهذا يجب أن يتقدم الصفوف من يفهم الشارع – الرأي العام جيدا ، و يعرف ما يريد .. وواجبه رفع الأمور الضاغطة عن حياة المواطن ، وتوفير ما يحتاجه ، لكـــــــي يتــــقدم الى أمام ، نحو الافضل ..
وباختصار شديد يمكن أن تعرف أداء الدولة ، وإنجاز الحكومات من الشارع .. حيث ينعكس عليه العمل والفشل …في النظام والنظافة ، والاقتصاد والانضباط ، والعلاقة بين الشعب والنظام .. ..الخ من الامور التي اشرنا اليها..
ضجيج في الشارع
أكثر من خمسة عشر عاما وضخب المولدات الكهربائية الاهلية
يملأ الفضاء بالضوضاء ، بعد إن انتشرت في الاحياء كالسرطان ، بشكل عشوائي ، دون ضوابط ، ومراعاة لجمالية المدينة التي شوهها الاهمال ، ودون إعتبار( لراحة ) البيوت ، وكأن قدرها أن لا تستنزف هذه المولدات أموالها فقط ، وإنما تسلب راحتها أيضا .. صخب يجتازالجدران والابواب والشابيك ، ويعكر مزاج المواطن ، وهو في جنته الارضية (بيته) ..
أسلاك (شائكة) شوهت منظر الشوارع .. فلا يعقل أن تمتد اسلاك المولدات في الشوارع بهذه الصورة البدائية الخطيرة ، على مدى كل تلك السنوات العجاف والأمر لا يحتاج الى خيال ، ولا أموال ، ولا عبقرية لمعالجة الموضوع لإنقاذ الناس من هذه الاسلاك (المتخلفة) ، وسبق لي أن إقترحت في مقال نشر في الزمان بتاريخ 22 كانون الاول 2015 بعنوان (الخط الخامس) أن تقوم الجهات المعنية بمد (سلك) خط خامس على أعمدة الكهرباء (الوطنية) يضاف للاربعة الموجودة ، ويكون خاصا بالمولدات الاهلية ، وتجميع المولدات خارج الازقة والشوارع الضيقة ، اذ لا يعقل أن تبقى الاسلاك تتدلى بهذا الشكل البدائي الخطير ، وتنتشرالمولدات بين البيوت في الأزقة الضيقة بهذه الطريقة الخطيرة أيضا على الحياة والبعيدة عن الذوق والجمال والصحة …
شواهد كثيرة تؤكد أن الشارع يتكلم ، لكن ليس هناك من يسمعه ، ويدفع حاله الى التساؤل .. لماذا من بيده أمرتغييره نحو الافضل بعيد عنه.. له عالمه الخاص ، والشارع له عالمه الأخر المختلف..؟ فهل يسير الاثنان بخطين متوازين ؟.. ومتى يلتقيان ..؟..