يُنظر للحكومة، أيّ حكومة، على أنّها الأداة الرسميّة، والمَرْكب الآمن المتين الرصين القادر على إدارة الدولة رغم الأمواج المُتلاطمة في عالم السياسة، وقساوة الحياة وتقلّباتها، والعاملة بعزم على توفير الاحتياجات الضروريّة للمواطنين، وترتيب السلالم القويّة لبلوغ مراحل الأمان والبناء والتطوّر!
وهذه المواصفات للحكومة المطلوبة لم نجدها، بوضوح، في أيّ حكومة تَسلمت حكم العراق، وبالذات بعد العام 2003، ومع ذلك استمرّت تلك الحكومات في القيادة رغم كلّ الملاحظات القاتلة التي سُجّلت عليها!
ونحاول هنا تفحّص حالة الشلل السياسيّ القائم في العراق بعد مرور عام كامل على نهاية الانتخابات البرلمانيّة (المُبكّرة) في العاشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2021، وعدم تشكيل حكومة جديدة!
ينبغي التركيز، بداية، على التكييف الدستوريّ والقانونيّ للمُماطلة المقصودة والمدروسة في انتخاب رئيسي الجمهورية والوزراء، فقد سبق للمحكمة الاتّحاديّة، صاحبة الشأن بحلّ الخلافات الدستوريّة، أن أكّدت يوم 7 أيلول/ سبتمبر 2022 أنّها لا تملك صلاحيّة حلّ البرلمان كون الأمر خارج صلاحياتها، ولكنّها أثبتت -وهذا الذي يَهمّنا- أنّه “لا يجوز لأيّ سلطة الاستمرار في تجاوز المُدد الدستوريّة، وأنّ الجزاء الذي يُفرض على البرلمان، لعدم قيامه بواجباته الدستوريّة، هو حلّ المجلس، وفقا للمادّة (64/ أوّلا) من دستور العام 2005”!
ولقد تجاهلت القوى السياسيّة قرار المحكمة، الذي سحب البساط الشرعيّ والدستوريّ من تحت أقدام الجميع، وواصلت لأكثر من عام مناحراتها المُرعبة والسقيمة، ولم تلتفت لأحد!
توالت البيانات المُندّدة بالجمود السياسيّ والداعية لكسره من السفارات الأجنبيّة الكبرى ببغداد، والزعماء السياسيّين العراقيّين، وكأنّ مَنْ يَتحكّم بالمشهد السياسيّ أُناس من كوكب المريخ، وأنّ القوى الحاكمة لا علاقة لها بتشابك الأزمات
ولا نعلم هل مفهوم “الحلّ” يعني المُضي بالمشاورات، أم يُفترض حلّ البرلمان لنفسه والدعوة لانتخابات مُبكّرة؟
وبمناسبة مرور عام على الانسداد القاتل والتشنّجات السياسيّة والعسكريّة المُهلِكة، توالت البيانات المُندّدة بالجمود السياسيّ والداعية لكسره من السفارات الأجنبيّة الكبرى ببغداد، والزعماء السياسيّين العراقيّين، وكأنّ مَنْ يَتحكّم بالمشهد السياسيّ أُناس من كوكب المريخ، وأنّ القوى الحاكمة لا علاقة لها بتشابك الأزمات!
وبعد هذه الضجة الدوليّة والمحلّيّة رُتّبت، وعلى عجالة الخميس الماضي، جلسة توافقيّة للبرلمان، وتمّ خلالها انتخاب عبد اللطيف رشيد كرئيس للجمهوريّة، وبعدها بدقائق كلّف الرئيس المُنْتَخَب مرشّح الكتلة الأكبر محمد شياع السوداني، المقرّب من نوري المالكي والمرفوض من مقتدى الصدر، لتشكيل حكومته خلال 30 يوما!
ولا ندري هل ستكون حكومة السوداني بداية لمرحلة توافقيّة صافية أم سنكون وسط أزمات مُتلاطمة وحادّة؟
ثمّ ما الذي تغيّر، ميدانيّا، حتّى يَدخل الصدر وأتباعه في مرحلة الصمت العام أو التغليس التامّ عن الحراك السياسيّ الذي تجاهل وجودهم تماما، وهم الذين قلبوا العراق رأسا على عقب بمعارضتهم السِلْميّة والمسلّحة لعام كامل؟
إنّ بناء الدولة السليمة يكون بحكومة تُتقن فنّ الحكم، وليس بحكومة “نصف كُم”، كما وصفها وحذّر من تداعياتها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي الاثنين الماضي، مُلمحا للحكومات السابقة الهزيلة!
فهل ستُتقن حكومة السوداني، إن شُكِّلت، فنّ الحكم أم ستكون كسابقاتها فاقدة للأهليّة؟
ومن أبسط الواجبات المُلحّة للحكومات المُعتبرة رعاية المبادئ الحافظة لكرامة المواطنين وسلامتهم، وحفظ سيادة الوطن الداخليّة والخارجيّة، وهذه المبادئ ليست مجرّد قوانين وأنظمة مُدرجة في لوائح رسميّة، بل يُفترض العمل بموجبها وتطبيقها لحفظ هيبة الوطن وأمن المواطنين.
ما الذي جناه الشعب من عمليّة سياسيّة أُصيبت بالشلل بعد 18 عاما على بدايتها، واليوم تتنامى سياسات انتشار الرعب وضياع هيبة الدولة، وتستمرّ مُعضلات الخراب الأمنيّ في ظلّ جماعات مسلّحة فوق القانون، واستفحال التهشيم الإداريّ، والفساد الماليّ المنظّم
ولقد تعوّدنا في العراق منذ قرابة عقدين على سياسة تفريخ الأزمات “العبثيّة”! فما الذي جناه الشعب من عمليّة سياسيّة أُصيبت بالشلل بعد 18 عاما على بدايتها، واليوم تتنامى سياسات انتشار الرعب وضياع هيبة الدولة، وتستمرّ مُعضلات الخراب الأمنيّ في ظلّ جماعات مسلّحة فوق القانون، واستفحال التهشيم الإداريّ، والفساد الماليّ المنظّم الذي أكل أكثر من ألف مليار دولار، ولا أحد يعرف كيف اختفت تلك الأموال الكافية لجعل العراق من الدول المُميّزة!
الثابت أنّ غالبيّة القوى الكبرى لا يَعنيها انهيار منظومة الدولة، وكلّ ما يَهمّها هو استمرارها في التنعّم بخيرات العراق وشهوة الحكم، رغم التقارير الرسميّة والأجنبيّة التي أشارت إلى وجود ستّة ملايين عاطل عن العمل، وربع السكّان تحت خطّ الفقر، واحتماليّة توقّف رواتب المتقاعدين والموظّفين العام المقبل، وغيرها من مظاهر الانهيار التدريجيّ لمؤسّسات الدولة الخدميّة والأساسيّة، المدنيّة والعسكريّة!
وقد تابعنا، الاثنين الماضي، أغرب حادثة وقعت في تاريخ العلاقات الدوليّة حيث اجتمع البرلمان العربيّ لإدانة القصف الإيرانيّ للأراضي العراقية، وأيّد جميع الأعضاء قرار الإدانة باستثناء ممثّلة العراق، حنان الفتلاوي، التي رفضته!
ولا يُمكن تصوّر أيّ مسؤول مُخلص يقف بالضدّ من مصالح دولته وسيادتها!
استمرار هذه العروض “المسرحيّة، السياسية” الضعيفة التي يَظهر فيها بعض “الممثّلين، السياسيّين”، الفاشلين والذين يدّعون محاربة الفساد والخراب، والمتّهمين، وبالأدلة الواضحة، بجرائم يُحاسب عليها القانون، ولكنّنا نجدهم رغم ذلك يطالبون بوجوب معاقبة السُرّاق والمُجرمين، واستمرار هذه المسرحيّات جزء من مشاكل البلاد المُعقّدة والمُركّبة!
فهل هم “ممثّلون” بارعون لهذه الدرجة المُدهشة، أم أنّ الشعب غاب عن مقاعد “المسرح”؟
لن يُبنى العراق بالكلام المعسول والتوافقات الفوضويّة، ولكن يُبنى بالهمم العالية، والحكومات الأصيلة، والبرلمانات المُراقبة وغير المُجامِلة للحكومات، وهذه الأدوات ستُمهّد الطريق، وتُعبّد المسالك لغد مليء بالسلام والبناء والرفاهية!