(الرجل لا يُخدع من الآخرين،بل هو من يخدع نفسه) الأديب الألماني غوته.
شاهدتُ مقابلتين بالانگليزي لوزيري خارجية ايران وأمريكا عن العقوبات والاتفاق النووي. وفي الوقت الذي تحدث فيه ظريف عن ضرورة رفع العقوبات الاميركية كمقدمة للتفاوض فأن بلنكن شدد على ضرورة عودة ايران لالتزاماتها بموجب الاتفاقية قبل العودة التفكير برفع العقوبات. وقد اضافت المتحدثة بأسم البيت الابيض مزيداً من الإثارة على هذا الجدل حين قالت أمس انه لن تكون هناك خطوات اخرى اضافية لما قامت به امريكا للان. وان موافقة امريكا على التفاوض لا تعني رفع العقوبات فضلاً عن ان السلوك الايراني(المقلق) في المنطقة والصواريخ البالستية الايرانية ستكون موضع تفاوض ايضاً.
ذكرتني هاتين المقابلتين لوزيري الخارجية الامريكي والايراني بمقابلات طارق عزيز من جهة ووزراء الخارجية والمسؤولين الاميركان في التسعينات وبداية الالفية،من جهة أخرى.
عزيز كان يخاطب الغرب بلغة أنگليزية ولكن بعقلية الشرق. وظريف يخاطبهم اليوم بلغة أنگليزية ولكن بعقلية البازار.
وفي الواقع فأن عقلية البازار جزء من عقلية الشرق ولا تختلف عنها كثيراً. الأثنان يستخدمان جيداً لغة الخطاب(ولكن الشرقي)، ويجيدان التفنيد والتبرير لكن خطابهما موجه للداخل وليس للخارج.
في بحث تطبيقي شاركتُ فيه مع فريق باحثين نفسيين من جامعة مريلاند الاميركية خلال 3 سنوات من عام 2011،عن الفرق بين اسلوب التفاوض في أمريكا وفي الشرق،كانت لغة الخطاب احدى اهم الفروق بين الثقافتين. ففي الوقت الذي نميل فيه الى البلاغة واستعراض قدراتنا اللغوية في المناورة،كان الغربيون مباشرون،وفي كثير من الاحيان اكثر وضوحاً. طبعاً هذا ليس عيباً في الشرق ،كما انها ليست ميزة للاميركان في ذات الوقت. المهم في الموضوع ان هناك اختلاف ثقافي في لغة الخطاب والحوار والتفاوض تؤدي احياناً الى اخطاء كارثية كما حصل في الحالة العراقية من قبل.
في كتاب صدر مؤخراً في أميركا بعنوان(لبدء الحرب:كيف اخذت ادارة بوش اميركا للحرب في العراق) يستشهد الكاتب روبرت درابر بمقولة الاديب الالماني غوته(اعلاه) للتدليل على الخطأ الكارثي الذي ارتكبته ادارة بوش بدءاً من الرئيس وانتهاءً باصغر متخذ قرار فيها حين خدعوا انفسهم قبل شعبهم عندما اوجدوا تبريرات كاذبة لحرب كان يمكن تجنبها دون ان يؤثر ذلك على الامن الاميركي او الدولي.وعلى الرغم من الادانة الشديدة لقرار الغزو الامريكي من قبل الكاتب،لكن ما يهمني هنا في هذا الكتاب الذي استند فيه درابر على عشرات المقابلات مع كل المسؤولين السياسيين والاستخباراتيين والعسكريين الذين قادوا غزو العراق،وحتى مع مسؤولين عراقيين سابقين،اشارته الواضحة الى الخطأ الستراتيجي الذي وقع فيه صدام ومعاونوه حين اعانوا ادارة بوش على غزو بلادهم. فقد كانت لمقابلات وتصريحات صدام واركان النظام مثل طارق عزيز اثر مهم في اقناع الرأي العام بان النظام في العراق كان يحاول التلاعب بالمفتشين الدوليين وان لديه القدرة على تشكيل تهديد امني خطير وفي وقت قصير بعد رفع العقوبات عنه! وبغض النظر عن مدى صحة هذا السبب،فان من الواضح ان مسؤولي النظام السابق كانوا لا يدركون انعكاسات ما يصرحون به على العقل الغربي.
على الرغم من اختلاف الظروف والنوايا بين تلك الحقبة وما يجري حالياً بين امريكا(والغرب) وايران وعدم وجود اي نية لغزو ايران، فأن ظريف لا يبدو افضل حالاً من طارق عزيز. وهو مرة اخرى يلجأ للغة خطابية(بازارية) تحاول من جهة ايهام امريكا والعالم ان النظام الايراني لا يعاني وانه مستعد للبقاء دون الوصول لاتفاق الى ما شاء الله. من جانب آخر فأنه يعتمد في خطابه الى التلويح(بشكل غير مباشر)بأن ايران لها الحق في التدخل في المنطقة مادامت اميركا موجودة وتتدخل في شؤون المنطقة ايضاً. هذا الخطاب المشابه في فحواه لما كان يقوله العراق عن صمود نظامه في التسعينات وعن الوجود والتدخل الاميركي الاسرائيلي الذي يبرر للعراق دعم (المقاومة) لن يؤدي باعتقادي الا الى اضافة المزيد من التعقيدات ويمنع الوصول الى اتفاق امريكي ايراني يجنب الشعب الايراني قبل شعوب المنطقة الكثير من المعاناة الناجمة عن حسابات غير براغماتية.فأميركا تدرك ان الوقت ليس في صالح ايران التي تبدو خياراتها محدودة(تماما كما كان العراق). وهي تراقب اداء الاقتصاد الايراني والسخط الشعبي والصراع بين جناحي الحكم في ايران. كما انها تدرك ان ميليشيات ايران في المنطقة باتت اقل قدرة على الحركة وتعاني من انشقاقات داخلية ايضاً. ان هذا ليس راجعاً فقط الى محدودية قدرة ايران الاقتصادية والسياسية على دعم تلك الميليشيات،ولا بسبب الضربات التي تلقتها تلك الميليشيات ايضاً،بل لان شعوب المنطقة التي تعبث فيها تلك الميليشيات قد تصاعد رفضها لمحاولات زجها في معارك ليس لها صالح فيها. فالميليشيات في لبنان وسوريا باتت اقل مرونة في الحركة عما كانت عليه.اما في العراق التي تشهد نشاطاً ملحوظاً لتلك الميليشيات فان قدرتها على تبرير ما تقوم به سياسياً وعملياتياً باتت اصعب بكثير عما كانت عليه قبل سنوات. وهناك اتجاه شعبي وسياسي ضاغط على الحكومة لايقاف عمل تلك الميليشيات ومنعها من زج العراق في وسط العاصفة.
من هنا يبدو ادعاء القوة والقدرة على ايذاء مصالح الغرب في المنطقة ومقارعة اميركا فيها مضراً اكثر مما يبدو نافعاً. وهو بالنهاية لن يؤدي الا الى مزيد من التدمير لنظام ايران.فالتلويح المستمر بالقدرة على ايذاء القوى التي هي متأكدة انها اقوى منك سوف لن يؤدي الا الى تفكيرها بكيفية تجريدك من قدراتك قبل ان تنقض عليك بشكل نهائي كما حصل في العراق. ان على النظام الايراني ان لا يتوهم ان استعجال اميركا للوصول الى اتفاق مع ايران سيجعلها تتنازل عن ثوابت امنها القومي او امن حلفائها في المنطقة. من هنا افهم تخصيص العدد الاخير من مجلة الفورن افيرز لمناقشة حاجة السياسة الاميركية لا للعودة الى زمن اوباما بل حاجتها لاختطاط سياسة تختلف عن ادارة ترامب لكنها تراعي حقائق 2021 لا حقائق 2014-2015. هذه الحقائق الجديدة والتي نجمت عن حقبة ترامب تفرض على الحكومتين الايرانية والامريكية التفكير بطريقة مختلفة هذه المرة. لذلك اقول ان عقلية المفاوض البازاري او الشرقي الذي يظن ان اوراقه التي(يبلف)بها الاخر غير مكشوفة للمقابل هي عقلية يجب مغادرتها. اذ ان كل شيء مكشوف للطرفين ومحاولة اللجوء الى ال(بلف البوكري) هو اشبه بخداع المرء لذاته وهو ما حذر منه غوته من قبل.
1٬302