مساء 28 شباط 1973 وعندما كنا نشارك في مؤتمر اتحاد إذاعات الدول العربية الذي انعقد في مدينة العين في دولة الإمارات العربية وهي مسقط رأس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وأفراد الأسرة، بوفد يرأسه المدير العام للإذاعة والتلفزيون الاستاذ محمد سعيد الصحاف، وحيث كان يوجد في كل غرفة من غرف النزلاء في فندق هلتون العين، جهاز تلفزيون وراديو، كنا عندما نخلد للراحة بعد يوم عمل طويل، يشدّنا الشوق لسماع إذاعتي بغداد وصوت الجماهير وكأننا فارقنا بلدنا منذ زمن طويل، بدأت إذاعتا بغداد وصوت الجماهير تبثان برامج خاصة وأناشيد وطنية، وهي حالة تترافق عادة مع أحداث مفصلية كبيرة يمر بها القطر، كنا وفدا كبيرا يضم في صفوفه عددا من الإذاعيين والعاملين في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون من مدراء ومهندسين وفنيين، كان من بيننا المخرج المعروف (ع.ن.ر) “أي السيد عمانوئيل رسام” الذي كان يجيد الضرب على الآلة الكاتبة، وكانت تلك خاصية تتيح لصاحبها فرصة كتابة نتاجاته مباشرة من دون الاعتماد على أحد، بقينا ننتظر حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة انتظارا لمعرفة جلية الأمر، كان الوقت متأخرا ولم تتح لنا فرصة الاتصال هاتفيا ببغداد، ثم إن الاتصالات التلفونية لم تكن بالسهولة التي نعهدها هذه الأيام.
وأخيرا أطل يوم 1 آذار 1973 وأذيع بيان صادر عن مجلس قيادة الثورة يزفُ البشرى للعراقيين بانتصار قرار التأميم الخالد الذي كان قد أعلن يوم الأول من حزيران، والصادر بالقانون 69 لسنة 1972، أما البيان الذي أذيع يوم 1 آذار فقد أعلن رضوخ شركات النفط الأجنبية لإرادة العراقيين في تأميم نفطهم في الأول من حزيران/يونيو 1972، والذي عدّه بيان الأول من آذار بيان النصر في معركة التأميم.
تم تسجيل البيان الصادر عن مجلس قيادة الثورة على شريط كاسيت، وبدأت عملية تفريغه على الورق وقدمت لنا إدارة الفندق عونا استثنائيا لم يكن من بين مستلزمات الضيافة، ولكن هذا الفندق الراقي والوحيد في مدينة العين من هذا المستوى، أراد أن يترك أثرا طيبا في نفوسنا، وسهّل لنا طباعته ومن ثم سحبه على استينسل، وفي جلسة الصباح ليوم 1 آذار كان موظفو سكرتارية المؤتمر يتولون توزيع النص على طاولات الاجتماع أمام كل عضو من المشاركين في المؤتمر والذين فوجئوا بهذا الحماس في أداء الوفد العراقي، وشاركونا الاحتفال بهذا الانجاز وقدموا لنا التهاني به، ووصفه أحد أعضاء الوفد المصري بأنه يُعيد إلى الذاكرة أيام نشاط الإعلاميين المصريين في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وربما كان الأمر كذلك أو أبعد منه.
حقا كانت فرحتنا كبيرة بهذا النصر، وتبادلنا الأفكار عن دور كل واحد منا فيما لو كنا في العراق، ونشارك في إعداد البرامج أو تقديمها كلا حسب اختصاصه، أما ما كان يطلق علينا من أوصاف أو إطراء فلم نتوقف عنده حينذاك فالمهم هو أن وطننا اجتاز عقبة كأداء في طريقه، في ذلك اليوم تعززت مكانة الوفد العراقي إلى مؤتمر العين، وصار أعضاؤه يتصرفون بثقة عالية، كيف لا وبلدهم خرج لتوه من عقوبات شبه دولية كانت مفروضة عليه، كان همنا يتركز بالدرجة الأولى على أننا نؤدي واجبا وطنيا ومهنيا في أية ساحة تتاح لنا فيها خدمة العراق، ثم إن يوم الأول من آذار/مارس، نسف كل نظريات فشل الدول المنتجة للنفط في اتخاذ التشريعات الوطنية من طرف واحد مهما تضافرت عليها جهود الشركات الاحتكارية والكارتل النفطي والدول الكبرى المالكة لأسهم تلك الكيانات الاقتصادية الكبرى، كما كان سائدا منذ إخفاق الدكتور محمد مصّدّق في تأميم النفط الإيراني، وكان ذلك الفشل مثل مطرقة مرفوعة فوق رؤوس الدول المنتجة للنفط لردعها عن الإقدام على أي خطوة مماثلة.
مما يحزّ بالنفس أن الاتحاد السوفيتي السابق والذي كان يومها يرفع شعار الاشتراكية العلمية في العالم، لم يجرؤ على دعم العراق في خطوته التي كان يتدارسها من أول يوم لوصول البعث إلى السلطة في العراق في 17/30 تموز 1968، تنفيذا لشعارات ملأت الشارع العربي منذ عقد الأربعينيات والخمسينيات في القرن الماضي، ولكنها بقيت صيحة في وادٍ وحبرا على ورق البيانات التي كانت تصدر عن القوى القومية والوطنية العربية على امتداد الوطن العربي، نعم واجه العراق عقوبات فرضتها الشركات على العراق مستندة إلى أن العراق خرق الاتفاقيات القانونية الموقعّة معه في عشرينيات القرن العشرين، ولأن الدول الكبرى المالكة لأسهم الشركات النفطية وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهي التي تقف وراء الكارتل النفطي هي المسيطرة على أسواق النفط انتاجا وتسويقا وتسعيرا، فقد واجه العراق صعوبات جدية في تسويق نفطه حتى الاتحاد السوفيتي عندما عرف نية العراق للتأميم أخبر القيادة بصراحة أنه لن يقدم أي شكل من المساعدة للعراق في تسويق نفطه، خاصة وأنه أي الاتحاد السوفيتي بلد منتج للنفط، ولكن العراق ومع كل محاولات تثبيط عزيمته، تمكّن من التغلب عليها مع الأيام، ووجد في إسبانيا عوناً كبيرا في تسويق نفطه، وخاصة أن إسبانيا جزء من منظومة الدول الغربية.
كان العراق قد تعاقد مع إسبانيا على بناء سبع ناقلات لتكون نواةً لأسطول الناقلات العراقية، وقد بُنيت في مسافن إسبانية وبدعم مباشر من الجنرال فرانكو رئيس الدولة الإسبانية حينذاك، فالشقيقات السبع كانت قد باشرت عملها من يوم بدء الانتاج من حقل الرميلة الشمالي الذي تم بناؤه بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي، وقد تم افتتاحه يوم 7 نيسان 1972 من قبل الرئيس صدام حسين عندما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، وألكسي كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي حينذاك، وتعبيرا عن الامتنان لمواقف إسبانيا في بناء الناقلات وكسر العقوبات المفروضة على العراق في تصدير نفط حقل الرميلة الشمالي، فقد أهدى العراق حمولة ناقلة واحدة إلى اسبانيا، صحيح أن إسبانيا كانت تبحث عن مصالحها في بناء الناقلات السبع ذات حمولة 37 ألف و500 طن وهي ناقلات صغيرة، إلا أن الصحيح أيضا أن العراق كان يبحث عن أية ثغرة في الجدار الغربي للنفاذ منها إلى حرية التسويق.
واليوم وبعد أن تضافرت مساعي كل قوى الشر والعدوان لتُجهز على تجربة العراق الفذة، وبعد كل ذلك الألق في تاريخ العراق، ألا يحق لنا أن نسأل ماذا بقي من كل ذلك المتراكم من الانجازات التي حققها العراق بقيادة البعث وبجهد الرجال المخلصين لوطنهم وعرقهم ودمهم وقدراتهم في الإبداع وأهم من هذا كله بثبات قيادتهم على الطريق الصحيح، وتخطيها لكل ما واجه التجربة من تحديات وصعوبات؟
المتضررون من التأميم، عاقبوا العراقيين بسبب انجازاتهم والطريق الخاص الذي اختاروه لبلدهم، فأضمروا له الشر ليس من يوم التأميم في 1 حزيران 1972، بل من اليوم الأول لرفع شعار نفط العرب للعرب الذي ترددت أصداؤه في العراق، لأن تحالف الشر الغربي والشرقي والصهيوني والصفوي، وجد في العراق صوتا جديدا يختلف عن كل الأصوات والصيحات السياسية والفكرية التي انطلقت في الوطن العربي، لأن للعراق بصمته على مسيرة الأمة عبر التاريخ.
من كتابي “جسر الإعلام وعربات السياسية”