فسحة بلون الكتب ..

طالب سعدون

كتب عن شارع المتنبي الكثير ، ذلك المهرجان الاسبوعي الاجتماعي – الثقافي العام ، الذي يعقد بانتظام  كل يوم جمعة في كل الظروف والاحوال  ، بما فيها الجوية ، إلا إن حفيدي (احمد) أثار عندي رغبة في الكتابة عنه مرة أخرى من زاوية إهتمامه ، بما يناسب عمره..

احمد ذو السنوات الست زار شارع المتنبي بصحبتي ، وهي الاولى له .. زيارة لم يكن يفكربها ، إذ صادف أنه كان مع أمه وإخوته في زيارة لنا يوم الجمعة  .. وعندما رأني أهم بالخروج صباحا طلب أن يصاحبني ، دون أن يعرف وجهة سيري وغرضي ، ظانا أنه سيحظى بصيد ثمين من (اللعب والالعاب) والتجوال والمتعة ، كما إعتاد ذلك في كل مرة يخرج معي ، أو مع جدته وإخوته عندما يكونون في زيارتنا .

مقالات ذات صلة

لم يجد احمد صعوبة في نطق إسم المتنبي ، رغم انه لا يزال يتعثر في بعض الكلمات الثقيلة ، وهو بهذه السن ، ولم يكن أيضا من الكلمات المتداوله في قاموسه اليومي ..

ويبدو أن هذا (العالم الغريب) على طفل بهذا العمر شده وانجذب اليه وطبع في ذاكرته منذ أول وهلة ، دون أن يعرف مسبقا طبيعته ونشاطاته ومعروضاته ، والمباني فيه ، وأهميتها واهتمامات رواده، وهل سيكون له نصيب بينهم .. ولذلك طلب في مساء اليوم نفسه ، وفي اليوم التالي أن نعاود الزيارة للمتنبي بتصور أن الشارع يكون بهذا الزخم الشعبي الكبير من كل الاعمار على مدار الايام والساعات .. وعلمت أنه بعد عودتهم الى بيتهم كررالطلبات على والده ، ولا أعرف هل إستجاب لرغبته ، أم  تركه للصدفة أيضا ، أو بانتظار زيارة أخرى مع جده ..

فما الذي يدفع طفلا بعمر احمد الى هذا الالحاح والرغبة في زيارة  شارع المتنبي ..؟ ولماذا ظلت صورة الشارع ، وما فيه مطبوعة في ذهنه ..؟

بالتاكيد  إن اهتمامات احمد مختلفة تماما عن إهتمامات رواده من الكبار ، ورغبتهم في الاطلاع ، ومعرفة ما هو جديد من الاصدارات والندوات والاستضافات الثقافية والمعارض والصور ، واللقاء ات الدورية مع الاصدقاء ..وجد متعة عالية  تناسب عمره ، وتنسحب على أقرانه أيضا ، وفرحة كبيرة في مشاركته  تلك الاعداد الغفيرة  في (تفسحها) ، والتجوال في أروقة الشارع  وحالة الازدحام ، وتنوع المعروضات  التي وجد من بينها ضالته  في الطعام والشراب ، وكراسات الرسم واوراق التجليد ، والقرطاسية ،والاقلام المتنوعة ، التي تناسب عمره ، وكان فرحا وكأنه في حديقة الزوراء مثلا ، أو مول  أو أي مكان أخر يجد فيه ما يهوى ويحب ، ولكن بلون أخر يأخذ إسمه مما فيه من معروضات مختلفة ورواد وفسحة وصور تستهويه ،وعالم جديد عليه   ..

جميل أن يجد الطفل ما يناسبه في شارع المتنبي ، وله حصة فيه ، لكي تكبر معه هذه الرغبة في ولوج هذا العالم  الجميل ، وتبقى معالمه مرسومة في ذهنه ، وربما يكون له مكانه المتميز فيه في المستقبل ..

وجميل  أيضا أن ترى الشباب في أعداد تكبر باستمرار ، ويعتادون على (طقس) إسبوعي ينتظرون ميعاده بلهفة  ..  فهو يخلق حالة من الارتباط  ليس بالمكان فقط ، وإنما بمحتواه الثقافي والمعرفي  والاجتماعي ، وإن كان الكثير منهم لغرض المتعة والتفسح فقط ، ودون أي اهتمام بالنشاطات الثقافية او شراء الكتب ، كما يتيح لهم فرصة للتعرف على رموزه المضيئة ، ومعالمه التي يتألق بها عبر تاريخه ، ورواده من المفكرين والمثقفين  والاعلاميين والفنانيين وشخصيات عامة ،  ويكون معهم وجها للوجه في الشارع ، واسماء مكتباته ومقاهيه القديمه التي كانت مكانا للقاء الشعراء والادباء الكبار ، كما يحصنهم  من الانحراف أو الانصراف الى إمور ضارة بهم وبمجتمعهم …

جمعة بعد أخرى يخرج شارع المتنبي من دائرته الضيقة المحدودة  في المكان والرواد ، ولم يعد يتسع لهذه الاعداد الكثيرة ، مما يجعلك تشق طريقك وسط هذا الزحام الشديد بصعوبة بالغة ، و يضطرك الى اتباع نظام الصفوف والارتال  في السير فيه وببطء شديد ..

عالم جميل يجمع بين الثقـــافة والمتعة ، ويحــــــقق  التواصـــل والانفتاح على الأخر ..

عالم يجذب الجميع من مختلف الاعمار والشرائح ومن الجنسين ..

عالم خاص يقدم صورة رائعة عن العراقيين عامة ، والبغداديين خاصة ، بمختلف الون الطيف الاجتماعي الجميل …

لوحة جميلة يرسمها شعب عريق كل اسبوع ، و مهرجان شعبي  عفوي كبير تعجز عن إقامته أي مؤســسة مهما عظمت امـــكاناتها المادية والتنظيمية  ..

مهرجان تظهر فيه الوحدة بمعانيها الطبيعية ، بعيدا عن الآعيب  السياسة والسياسيين و( التنظير ) الغريب عن طبيعة هذا الشعب العريق  ..  يهزأ بالافكار الضيقة والمنحرفة والضالة ، ويرفض الافكار الدخيلة ، ويخلق فرصة نادرة من تفاعل الاجيال ، وتلاقح الافكار ، ويفتح نافذة من الأمل على المستقبل .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى