قد يبدو عنوان هذه الحلقة التي أحاول فيها تفسير نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة غريباً للبعض،فكيف يمكن القول ان الاحزاب القديمة هي التي ربحت والجدد من مستقلين وتشرينيين هم من خسروا في حين ان الأرقام تشير لعكس ذلك؟ أجيب وبثقة مطلقة،أنه لولا جهل معظم المرشحين -عدا الصدريين منهم- بآلية عمل النظام الانتخابي الجديد SNTV لكانت الغالبية المطلقة من الفائزين هم من الأحزاب والكتل والمرشحين الجدد وبشكل يتناسب تماماً مع ما نعرفه من أتجاهات الشارع العراقي نحو الكتل السياسية التقليدية. بمعنى آخر أن على المعترضين على نتائج الأنتخاب بسبب تقلص حجمهم في البرلمان القادم أن (يبوسوا أيديهم وجه وظهر كما نقول في العامية) لأن المستقلين والتشرينيين لو كانوا منظّمين ومطّلعين على أسرار هذا النظام الأنتخابي كما هو حال الصدريين -على ما يبدو- لما وجدوا لهم يعض مقاعد ليجلسوا عليها تحت قبة البرلمان! حتى التيار الصدري الذي ينبغي كمختص أن أحيي ماكنته الأنتخابية وأرفع القبعة لمن أشرف عليها بسبب معرفته العميقة بآليات عمل هذا النظام الذي على ما يبدو لم يكن أختياره وأقتراحه من قبلهم للبرلمان صدفةً وأنما معرفةً ودرايةً بأهم مزاياه وأبرز مثالبه،أقول حتى هذا التيار عليه أن يحمد الله بكرةً وأصيلا لأن خسارته كانت ستكون أكثر بكثير من الفرق بين ال 100 مقعد التي توقعوها وال 73 التي حصلوا عليها لولا جهل الجدد والآخرين من المنافسين التقليديين بآلية عمل هذا النظام السهل الممتنع. وسأثبت هنا وبالأرقام كيف ربح ما بدا أنهم الخاسرين، وخسر ما بدا أنهم الرابحين في هذه الانتخابات.
يبدو نظام الصوت الواحد غير القابل للتحويل SNTV نظاماً شائعاً لبساطته وسهولة فهمه وأستجابته لواقع المحليات وتسهيله لتمثيل الأقليات والمستقلين.لكن هذه السهولة تستبطن تنظيماً عالياً وفهماً دقيقاً لثلاث مجالات لا يمكن الفوز بدونها. لذلك أسميته بالنظام السهل الممتنع. هذه المجالات هي:
- خارطة القوى الانتخابية للمنافسين ومرشحيهم بحيث يتم حشد القوة الانتخابية للحزب في المناطق التي تضمن أكثر فاعلية وليس أكثر أصوات.
- تنظيم حديدي وصارم لآلية الترشيح بحيث لا يجري ترشيح أي شخص يمكن أن يؤثر سلباً على النتيجة النهائية للحزب ومرشجيه الآخرين.
- تنظيم قوي وتوجيه فعال لأصوات الناخبين بحيث يتم توزيعها بين مرشحي الحزب بطريقة تعظم المكاسب وتقلل الخسائر. من المهم جداً هنا أدراك أنه يجب أستثمار وعدم هدر أي صوت لأنه يعني الكثير. ففي هذه الانتخابات مثلاً جرى هدر حوالي 25% (أكثر من مليونين) من أصوات الناخبين لأنها ذهبت لمرشحين خاسرين.
من جانب آخر فأن هناك خاصيتان مهمتان ينبغي فهمهما من قبل كل من يريد أستخدام هذا النظام بأمثل طريقة. الأولى تتعلق بكيفية أحتساب الفائز. والثانية تتعلق بكيفية رسم الدوائر. فهذا النظام يرتب الفائزين على وفق ما يسمى بعلم المقاييس بالمقياس الرتبي Ordinal scale بمعنى انه يرتب الفائزين (من الاول الى السادس مثلاً) بحسب الاصوات التي حصلوا عليها وبغض النظرعن حجم ونسبة تلك الاصوات.لاحظوا المثال التوضيحي أدناه. ففي الدائرة الانتخابية س مثلاً والمخصص لها 5 مقاعد أنتخابية يحصل الحزب ب الذي أحرز 34% فقط من الأصوات على 3 مقاعد في حين حصل الحزب أ الذي حصد54% من أصوات الدائرة الأنتخابية على مقعد واحد فقط مثله مثل الحزب ج الذي حصل على 10% فقط من مجموع الأصوات!! في حين لو أستخدمنا النظام النسبي الذي سبق أستخدامه في العراق لكانت النتيجة كما تبدو عليه في الجانب الأيسر من الصورة(3 مقاعد للحزب أ،مقعد واحد للحزبين ب و ج). وهذا ما حصل بالضبط في انتخاباتنا في بعض الدوائر الانتخابية،وسأشرحه بأمثلة من صناديق انتخابات مختلف المناطق في بغداد والجنوب.
أما العامل الثاني المؤثر في النتائج فهو كيفية رسم الدوائر وحجومها. أن حجم وحدود كل دائرة أنتخابية يؤثر كثيراً في النتائج النهائية لذلك توكل هذه المهمة في كثير من الدول الى لجان متخصصة ومستقلة حتى وأن كانت ترتبط بالبرلمان. فمعروف أنه كلما أزداد ثقل الدائرة الأنتخابية كلما زادت فرص الأحزاب الكبيرة على أحراز نتائج أفضل. وبالتالي فأن تحديد حجم كل دائرة انتخابية في العراق بما يتراوح بين 2-5 مقاعد صب في غير صالح الأحزاب التي تعتمد في جمهورها على الامتداد الوطني أو الأقليمي وليس التركيز المحلي. في الحلقة القادمة سأحلل نتائج عدد من الاحزاب التي عُدّت فائزة أو خاسرة كي أطلع القارىء الكريم على السبب الذي جعل هذا الحزب او تلك المجموعة ينالون هذه الاصوات وبالتالي أسلط مزيد من الضوء لأجابة السؤال:هل أن نتائج الأنتخابات عكست تزويراً كبيراً وممنهجاً أم انها نتاج عدد من العوامل أهمها الجهل بآليات النظام الانتخابي الجديد؟ كما سيتضح أكثر صدق ما قلته من أن على المعترضين على نتائج الأنتخاب بسبب تقلص حجمهم في البرلمان القادم أن (يبوسوا أيديهم وجه وظهر) لأن الأمور كان يمكن ان تكون أسوأ بكثير بالنسبة لهم.