

حين التقيته، توقعت إنني سأجده صعب الحديث، مكفهر الوجه، متعال، مغرور… لكني، ما أن بدأت الحديث معه، وجدته إنسانا آخر… سهل المحاورة، كريم في إبداء وجهة نظره، صادق في رؤاه…
اعتداده بنفسه، ككاتب رواية وقصة شهير، واضح عند محبيه، لكنه لم يصل إلى حد الغرور… فالكتابة عنده ليس سلعة تباع ولا سوقاً للحظوة، بل هي قبل كل شيء عاطفة تلبس الحروف وشعور يروي حديث الهاجس البعيد… ذلك هو الكاتب الكبير عبد الرحمن مجيد الربيعي، الذي ينطبق عليه ما قاله هنري ماتيس Henri Matisse)) وهو في الثمانين من عمره، عندما وجده بعض معارفه يلعب مع الأطفال والحمام أمام كنيسة مونمارتر في باريس وقالوا له: كيف تلعب مع الأطفال وتقف بينهم ترسم الحمام والأطفال يلعبون بها؟ فقال هنري ماتيس: أتمنى أن أعيش بقلب طفل وعقل رجل…!
التقيته ببغداد، عقب عودته من بلاد غربته في تونس، وهذه الغربة أعطته الصدمة لكي يبحث عن مجالات إبداع ذات مديات شمولية أوسع… انه قدره الذي عليه مواجهته بالصبر والإرادة وبعطاء ثر لا يعرف الحدود… ومثلما لا يعرف العافية إلا من فقدها، فأن قيمه الأوطان لا يعرفها إلا من ابتعد عنها… كان الربيعي من المبدعين العراقيين الذين أكدوا في غربتهم، أنهم نوابغ من طراز خاص، والنوابغ يمّقتون الضعف ويكرهون الدموع، وتأسيسا على ذلك كان شعارهم: ليس هناك أعظم شيء في الدنيا من بناة قلاع الحرية، والمبدعون العراقيون هم هؤلاء البناة… وجدته في حديثه، أنسانا متفائلاً برغم قسوة الاغتراب، تفكيره يسبق ألمه، وخطاه أوسع بكثير من خطى السائرين على رمال الحياة، وأحلامه بلا حدود… فهو ينتج بغزارة رصينة، ولم يغب الوطن عن أي من رواياته وقصصه وأحلامه…
وأحببت معرفة أخر إصدارته وبداية الحديث معه سألته:
*ماهي إصداراتك الجديد؟
ــ مجموعة قصصية (الشعارات تتبارى) وهذه المجموعة كتبتها من وحي ما يسمى بالربيع العربي وما حدث بمجموعة من البلدان العربية في حينها… لكن ركزت بشكل خاص على الحالة تونسية لأنها كانت الأولى، وكنت قد عايشت الأحداث أولاً بأول… فقد كنت أقيم في تونس، وتحدثت ايضا عن التجربة العراقية وعن التحولات التي حصلت من سياسية واجتماعية وفكرية
*ماهي بداياتك الأولى في كتابة القصة لا سيما كنت قد درست في أكاديمية الفنون الجميلة قسم الرسم؟
ــ الموهبة كانت موجودة من الصغر، وأتذكر عندما كنت في الصف السادس الابتدائي في مدرسة بمدينتي الناصرية ,كان يوجد مسابقة لكتابة مادة الإنشاء في اللغة العربية وكل مدرسة ترشح طالبا منها ,وانا كنت جيد في مادة اللغة العربية ,وقديما كان لا يدخل المدرسة طالب ما لم يأخذ دروساً في القران الكريم ، لذلك كتبت من وحي تأثري بالقران , الى الآن أتذكر عنوان الموضوع الإنشائي (صف مدينتك في يوما عاصف) وأيضا كتبت هذا المشهد بدقة عالية لأنني ابن هذه البيئة واعرف كيف تكون العواصف في المناطق الجنوبية، حمراء ترابية ,وحصلت على الجائزة الأولى سنة 1957..وبالأضافة الى ذلك كنت احب مادة الرسم وارسم كثيرا… بعدها أكملت دراستي ودخلت معهد الفنون الجميلة في بغداد وكان المعهد لا يستقبل اكثر من عشرة طلاب في الدورة لعدم كفاية اللوازم المدرسية في حينها ، بعد دراستي في المعهد رجعت للناصرية لفترة معينة ثم بعدها قدمت على الأكاديمية وأكملت الدراسة.
*هل لديك معارض خاصة للرسم؟
ـــ معارض خاصة لا … لكن كنتُ أشارك في معارض مع اخرجن.
*بعد مشوار الدراسة… هل مكثت في بغداد؟
ـــ نعم… وعينت في ثانوية في الأعظمية كمدرس لمادة الرسم وبعدها انتقلت الى وزارة الثقافة وشغلت مواقع عديدة، وأصدرنا مجلة المثقف العربي ومجلة “الأقلام” والتي سعيت كثيرا الى أن تكون مجلة حداثية حتى الرسومات داخل المجلة كنت ارسمها بنفسي، وبعدها انتقلت الى المركز الثقافي في بيروت، حيث كانت هناك رغبة من قبل الوزارة بفتح مراكز ثقافية في جميع البلدان العربية من بينها بيروت ويرشح لها كتاّب لهم حضورهم الأدبي والاجتماعي وبترشيح من أستاذي المرحوم زكي الجابر. كانت هذه المراكز تابعة لوزارة الإعلام، وكان وزير الإعلام في وقتها سعد قاسم حمودي بين الأعوام 1979-1987 تنقلت بين بيروت وتونس وشغلت منصب معاون مدير عام في دائرة الإعلام الخارجي.
أولى صفحات الغربة!
*متى غادرت العراق وأقمت في تونس؟
ـــ بعد هذه الفترة تحديدا غادرت العراق وعملت في تونس مع منظمة التحرير وأشرفت هناك على مجلتها، تصميما وإخراجا، وأيضا عملت في وزارة الثقافة التونسية، وأصدرنا مجلة اسمها (الحياة الثقافية) وهي مجلة شهرية
*أماكن في العراق تحبها كثيرا؟
-الناصرية لأنها مدينتي وبغداد ولاسيما الأماكن الشعبية ولدي الكثير من الذكريات في شارع الرشيد والمقاهي القديمة مثل الزهاوي والشهبندر والحنش والبرلمان وغيرها
*يبدو من حيثك دخلت مجال الصحافة حدثنا عنها؟
ـــ البدايات كانت أولها صحافة عام 1964 في بغداد عملت في جريدة (الأنباء الجديدة) وكنت مشرف على الصفحة الأدبية فيها لصاحبها (زكي السعدون، أبو نبيل) وبعد ذلك انتقلت الى جريدة (الفجر الجديد) وهي جريدة يومية ثم الى جريدة (الحرية) وبعد إغلاقها عملت في صحيفة (الجمهورية) واستمر عملي فيها فترة طويلة
* يختلف تذوق الأدب بين العالم العربي؟
ـــ لا يوجد اختلاف بمعنى الاختلاف لكن يوجد إضافات في الكتابة تأتي من اختلاف التجارب وتعددها مثلا في العراق وتحديدا جيل الأربعينيات والخمسينات كانوا يركزون على اللهجة المحلية العراقية , لكن بعدها اصبحنا نفكر بالأفق العربي مع اتساع الثقافة وزيادة المهرجانات والملتقيات والتعرف على الأدباء العرب وفتح الصحف المحلية أمام الكاتب العربي …ومن الكتاب الذين كانوا يكتبون بالغة الدارجة أي المحلية غائب طعمه فرمان وله مجموعة اسمها (عمي عبرني) حتى اسمها دارج وأيضا إدمون صبري يكتب بالشعبي وخاصة في الحوار ويوجد كتاب في مصر يكتبون حتى السرد باللغة الدارجة مثل الكاتب المصري (بدر نشأت) يكتب حتى المتن باللغة الدارجة الشعبية
*العلاقة بين الصحافة والأدب من يسبق الآخر؟
ـــ كل الكتاب هم بدأوا من الصحافة أو بدأوا النشر في الصحافة لاسيما نحن الذين كنا نشرف على الأقسام الثقافية في الجرائد الأسبوعية واليومية… بعد ذلك تفرغت الى كتابة القصة كانت لي تجارب وكنت أحاول تطويرها وأول تلك التجارب مجموعتي (السيف والسفينة) والتي صدرت طبعتها الأولى في بغداد سنة 1966 وانتشرت بشكل كبير جدا وغير متوقع وبعدها فكرت بطبعها بأكثر من بلد عربي كـ مصر، بيروت، تونس
*هذه المجموعة يبدو كانت مثل (طير السعد)؟
ـــ نعم… طير السعد بعدها صرت اكتب وانشر خارج العراق
*أي من رواياتك تحولت الى السينما؟
ـــ رواية (القمر والأسوار) تحولت الى فلم عنوانه الأسوار
*من أخرجه ومن هم أبرز الممثلون فيه؟
ـــ محمد شكري جميل وسيناريو للكاتب المصري صبري موسى
الممثلون: فوزية عارف، فاضل خليل، سوسن شكري جميل وآخرون
اقرأ كثيرا…
*كيف كان النشر في السابق دون التكنولوجيا؟
ـــ كان صعبا جدا… حيث كنا نغتنم المهرجانات والدعوات خارج البلد من اجل الانتشار
*رأيك في واقع القصة الآن مع وجود كم كبير من كتاب القصة، هل نسميهم زوبعة دون فنجان إن صح التعبير؟
ـــ طبيعي جدا لاسيما مع اتساع التعليم وزيادة مجالاته وتعدد وسائل النشر من مجلات وصحف الورقية وإلكترونية
*لمن يقرأ عبد الرحمن الربيعي منذ الصغر الى الآن؟
ـــ البدايات كانت لـ نجيب محفوظ، ويوسف الشاروني، ويوسف إدريس وبعدها ما هو مترجم لـ أرنست همينغوي، وجون شتاينبيك أو ستاينبيك، وهذه المجموعة من الكتاب الأمريكان كانت دور الترجمة اللبنانية تترجم أعمالهم وتقدمها لنا وإضافة الى بعض كتاب أمريكا اللاتينية كـ جورج أمادو وكتاّب كثر من روسيا والبرازيل
**العصر الآن… هل هو عصر القصة أم الرواية أم الشعر؟
ـــ الآن عصر القصة وعصر الرواية وعصر الشعر، وانا لا أومن بهذا التقسم إن هناك عصر ينشط به نوع من الأدب، لكن لأدب القصة نكهه وجمال مميز… نحن نتذوق الأدب كالشعر وبعض الشعراء من يرسخ في الذاكرة مثل الرواد بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور ونزار قباني أدونيس وآخرين
*هل تكتب ملخص للرواية أو رؤوس أقلام عنها؟
ـــ نادرا، لكن انشغل بعالم الرواية والمراحل والأحداث وأحاول استرجاع المواقف والشخصيات التي تكون ضمن الرواية
*هل تستخدم الحاسوب في الكتابة؟
ـــ لا… ما زلت استخدم القلم والورقة
*الخط البياني للقراء أين أصبح؟
ـــ قلَ بشكل كبير جدا… في السابق كنا نطبع 2000-3000 نسخة الآن في أحسن حالاته 500-1000 ولا يفكر أن توزع أو تباع في نفس الفترة التي كانت في الماضي
*ماهي الرواية التي أتعبت عبد الرحمن الربيعي؟
ـــ كلها أتعبتني… الرواية عالم كامل غير القصة والبناء لعالم كامل صعب وهناك فرق بين بناء بيت وبناء غرفة
**متى تحب إن تكتب؟
ــــ بكل وقت، والكراس دائما معي واكتب… والان اكتب ما يسمى بقصيدة نثر وكنت في الماضي قد نشرت مثل هذا الأدب في مجلة (شعر) مع كثيرين منهم، سعدي يوسف، يوسف الصائغ، فاضل العزاوي، سيركون بوليس
أية حياة هي؟
*سيرتك الذاتية هل فكرة في كتابتها؟
ـــ نعم… تجدينها في كتابي (أيّة حياة هي) في طبعة الأولى وثانية وكانت بالأسماء والتفاصيل والان اكتب بالسيرة الذاتية في الجزء الثاني وسأنتهي منها قريبا، لكن أخشى من بعض الأمور حيث بعض من جاؤوا في السيرة هم على قيد الحياة ولا أريد أن أحرجهم أو أحرج نفسي لان السيرة الذاتية للكاتب العربي من الصعب أن تقول كل شيء بصورته
بدليل حتى الكاتب المغربي محمد شكري في سيرته (الخبز الحافي) حاول أن يفند الكثير مما راه لان الكاتب العربي يحول نفسه كأسطورة يكتب أشياء من خيالة ولم تحصل لكن كان يتمنى حصولها حتى يقال عنه انه عاصر تلك الأحداث… وأنا في الجزء الأول أخذت حريتي في (أيّة حياة هي).
*من يلفت انتباهك الآن من كتاب الرواية؟
ـــ لا يوجد كاتب محدد… والسبب يعود لأنني لم اقرأ كل ما كتب في الحاضر… وهناك فيض من الكتابات
*هل هذا إيجابي؟
ـــ نعم إيجابي …لكن الرواية في الحاضر والماضي نرها الجانب الأكثر ضعفا
*بعض الكتاب يريدون ويسعون دائما الى كتابة الرواية كأنما هي درجة أعلى من القصة؟
ـــ هو حلم كل كاتب قصة قصيرة إن يكتب رواية
*لكن بالعراق هناك ظاهرة جديدة هي كتابة الرواية قبل القصة؟
ــــ برهان الخطيب أول ما كتب رواية اسمها (ضباب في الظهيرة) وربما أسماء أخرى ولكن هذا لا يعني عندما نكتب رواية هو انتقاص من القصة القصيرة، القصة القصيرة لها قيمتها لأنها تكثيف واختزال
*هل انت مدين لأشخاص معينين؟
ـــ نعم للكثير من الأصدقاء منهم من بدأنا سوية في الكتابة وكانوا مؤمنين بما اكتب وهم دعموني ووقفوا بجاني ونشروا لي ونشروا عني وساهموا في انتشاري
*كم يستغرق لديك وقت في كتابة الرواية؟
ــــ تأخذ وقت مثل رواية (نحيب الرافدين) أخذت سنوات وما فكرت في نشرها إلا بعد تغير الأحداث في العراق
*هل تكتب أكثر من رواية بنفس الوقت؟
ــــ لا… ممكن وانا اكتب رواية اكتب قصة قصيرة أو مقال لكن ليس روايتين مع بعض وأحب التفرغ للعمل الروائي
*هل يوجد عمل لم تكمله؟
كل كاتب له مشاريع مؤجلة ولكني كتبت أكثرها
*كل يوم تكتب؟
الكاتب يجب أن يحرك القلم على الورقة كل يوم مثل الرياضي الذي يتمرن كي يحافظ على لياقته
*والقراءة ليست ضرورية؟
أكيد… أنا أحبها أكثر من الكتابة بل القراءة أهم من الكتابة… لكن قلت بسبب عيناي لا أستطيع القراءة حاليا.
القراء الأعزاء… كان حوارنا مميز مع كاتب مميز أعطى لمسات خاصة للرواية
وأصبح مدرسة ومثل للكتاب الجدد… انتظرونا في حوارات أخرى مع شخصيات مبدعة